⚪أنا شبح⚪

////////////////  أنا شبح   ////////////////

ألتفت يمينا و يسارا  ،  ألتف حول نفسي مرارا
أبحث عن ظلي الجميل  ،  الذي كان هنا قبل قليل
أنظر خلفي أنظر أمامي ، لا شيء أراه غير أوهامي
كان ظلي  أصدق رفيق  ،  يغازلني في كل طريق
كان ظلي أوفى صحبة  ،  يواسيني في كل نكبة
يناور ، يداعب خطواتي  ،  يتجسس على ذكرياتي يتأوه في صمت لآهاتي ،  يعرف أسرارا في حياتي
        فإذا به يغيب فجأة دون استئذان
        و يتوارى عني في أغشية النسيان
كأنه لم يكن يوما توأمي ،  الذي شاركني أحلامي
        فاختار الهروب قبل الغروب
        و لاذ بالفرار في وضح النهار
لم يعد يحبذ تأملاتي ،  لم يعد يصدق افتراضاتي
لم يعد يطيق انتظاراتي ،  لم تعد تعجبه قناعاتي
لم تعد تغريه أناقتي  ،  لم يعد يتحمل تنهداتي
        ربما شعر بيأسي و حرماني
        أو أضناه خضوعي و خذلاني
        فخشي على نفسه العار من ملازمتي
        بعدما يئس من يقظتي و انتفاضتي
        تحمل عمرا كاملا لفح الصقيع
        يمني النفس بحلول نفح الربيع
        فلا الصقيع يدبر و لا الربيع يزهر
        و لا ظلي عاد يحتسب و يصبر
أخذ كبريائي و اختفى ،  بعدما نفذ صبره واكتفى
        فرحل المسكين عن المسكين
        و ترك أثرا من الأسى الدفين
لأمس مقتول  ،  و حاضر مشلول  ،  و آت مجهول
        الناس من حولي كل ظله يلازمه
        وأنا من غير ظل يلازمني و ألازمه
        تحسست قوامي فإذا هو نخب هواء
        حينها أدركت حقا أنني شبح خواء
        و الشبح لا ظل له ، قال الحكماء !!!
الأستاذ : زايد وهنا

🔷الحنين لم يعد كما كان🔷

#####  الحنين لم يعد كما كان  #####

  **ديباجة ** :
            كثيرا ما أختلي بنفسي و أتذكر لحظات من طفولتي ، فيهزني الشوق و الحنين لذلك الزمن الجميل ، و في إحدى هذه النوبات التذكارية قررت أن أكتب و لو باختصار شديد بعضا من تلك الذكريات الجميلة ، و أشارك نشوتها و متعتها إخوتي القراء المتتبعين و المطالعين لإنتاجاتي الأدبية ، و أنا على يقين تام أن شريحة كبيرة ممن عاصروا تلك الحقبة سيشاطرونني نفس الشعور ، و قد تعمدت أن أحتفظ بالأسماء كما كانت متداولة باللسان العامي ، ليكون السرد أكثر دقة و قربا من نفسية القارئ خصوصا إذا كان هذا الأخير من أبناء بني وزيم .
بني وزيم قرية صغيرة في الجنوب الشرقي ، على ضفة واد كير ، تتكون من ثلاث قرى صغيرة جدا نسميها القصور ،  ( قصر بني وزيم ) (قصر جديد ) ( قصر آيت عشى ) ، لا تبعد إلا بحوالي خمسة أميال عن مدينة بوذنيب شرقا ، إقليم الرشيدية .

             
                    **************** 
        أنتظر العطلة في شوق و لهفة لأذهب إلى
 بني وزيم ، كانت أسعد الأوقات بالنسبة إلى طفل في مثل سني هي تلك التي أقضيها بقصر آيت عشى ، أجوب الزقاقات ألاعب الأقران الذين كانوا بدورهم يترقبون مجيئي ، نستيقظ باكرا ننتظر النداء المألوف " و طيحوا " إيذانا من شيخ المزرعة  بالتقاط البلح ، فنتسابق نحو النخيل المعروف بجودة بلحه و وفرة عطائه ، نملأ القفة أو السطل بلحا و  " ركما " ثم نعود أدراجنا غانمين مسرورين بلقاء أهالينا و نحن نعتد و نزهو فخرا بما جلبناه كما و نوعا ، و في عزم و رغبة منا في المساعدة ،  نخرج  الغنم إلى المكان المعتاد خلف أسوار القصر حيث يجمع الراعي القطيع لينطلق به نحو المرعى ، حينها نعود إلى البيوت لنتناول فطور الصباح و الذي غالبا ما يكون حساء و تمرا و شايا و خبزا .
يلتقي الأقران بباب القصر حيث يقرر نوع اللعب الذي تفضله الأغلبية ، و كثيرا ما يتم الإتفاق على الذهاب نحو الحقول و البساتين التي يعلم الأقران مسبقا أن أصحابها غائبون أو منشغلون بأعمال الصيانة في القصر ، لسرقة بعض الفواكه دون أن يشعر بهم شيخ المزرعة ، و إذا صادف أن رأى الشيخ أحدهم فلا ينبغي الوشاية بالآخرين كما هو متفق عليه سلفا ، يختلي الأقران في أماكن بعيدة لتناول ما جلبوه من البساتين ، ثم يعودون إلى القصر بهدوء متفرقين و من طرق مختلفة حتى لا يلفتوا انتباه الكبار الجالسين بباب القصر ( فم القصر ) ، أو يثيرون شكوكهم ، بل منهم من يقترب من الكبار و يبدي أدبا و رغبة في الاستماع إلى أحاديثهم الشيقة ، في انتظار موعد وجبة الغذاء الذي يكون متأخرا على عادة أهل القرى .
فإذا ما حان وقت الغذاء ، ينفض الجمع ، و يسلك كل  وجهته في الزقاق الذي يقطنه و روائح الأكل الشهية تنبعث من بيوت الجيران ، خبز بخميرة  "بلدية " يطهى في فرن الحطب " الكوشة " و مرق مكون من خضروات طازجة طرية ، جلبت من حقول القرية و لحم الأرنب أو الدجاج  " البلدي" و هو  يطهى على النار في قدر من الخزف   " القنوشة " مما يزيده لذة لا مثيل لها ، ولعله السر الذي يجعلني أقبل على الأكل في نهم شديد .
يجتمع الأقران مرة أخرى بباب القصر ، فيطلقون العنان للعب و المرح تحت أعشاش النخيل المحادية للقصر ، و أعينهم على الغروب في انتظار الراعي لإدخال الماشية إلى حظائرها ، و هو آخر أنشطتهم اليومية ، تجتمع الأسر ليلا في بيوتها لتناقش عمل غذها ، أما العشاء  فكسكس أو" البلبول "الذي كثيرا ما كان يفوتني لأنني أنام مبكرا من شدة التعب و العياء .
فرحة لا توصف عند حلول عطلة الزيتون ، أواخر شهر دجنبر حيث البرد والصقيع في قمة أوجه ، و رغم شدة القر أشعر بسعادة غامرة و أنا أتسلق أشجار الزيتون لجني المحصول ، فلا ترى في الحقول غير النيران المتقدة بأوراق الزيتون " الطهطوه " و الدخان ينبعث من كل مكان ، دفء النار هو السبيل الوحيد لمقاومة البرد القارس ، و إعداد الطعام على النار هو مبعث البهجة في الحقول ، و لعل أسعد الأوقات هي عند جمع المحصول و وضعه في أكياس على ظهر الحمار و الذهاب به نحو المعصرة التقليدية ، فهو الأمر الذي أرغب فيه ، لا لشيء و إنما لأعود من المعصرة راكبا الحمار ، و يا لها من سعادة حين ألكزه بالشوكة فيركض ركضا سريعا ، فتخالني أحد رعاة البقر ، أسابق أقراني و أسخر ممن سقط منهم عن ظهر حماره ، أكرر عملية التوصيل مرتين أو ثلاث حسب كمية المحصول المجنى في ذلك اليوم ، ثم نجمع أغراضنا و نتوجه نحو البيت و قد أخذ منا العياء مأخذه ، نتناول العشاء و ننام قرب الموقد " الكانون " و هكذا دواليك طيلة أيام الجني .
 فإذا انتهت أيام الجني ، يجتمع الجيران بعد العشاء في بيت أحدهم و يتحلقون حول الموقد قصد التدفئة و سرد الحكايات المضحكة و الأحاجي المرعبة ، و كم كنت أعجب بالأحاجي و أحفظها لأقصها على زملائي .
ما أن تقترب نهاية السنة حتى يبدأ العد العكسي لعطلة الصيف ، فتجدني أفتخر على زملائي بسفري لآيت عشى التي لا تبعد إلا بثمانية كيلومترات ، كان ذلك هو الأمل الكبير و الحلم المرتقب خصوصا إذا كانت نتيجتي الدراسية إيجابية ، فالفرحة آنذاك فرحتان ، مما يجعلني أتباهى على مجموعة الأقران بالقصر .
في فصل الصيف تكون الحرارة مرتفعة ، غير أن مباني القصر الطينية و سمك حيطانها و ارتفاع سقوفها و عتمة زقاقاتها تلطف الحرارة ، مما يجعل القصر قبلة مرغوبة لكثير من أبنائه الذين يقطنون مناطق أخرى ، فيجمعون بين صلة الرحم و الاسترخاء ، وقد يكون حفل زفاف أحد أقاربهم سببا في مجيئهم ، لذلك يغص القصر بساكنيه و زائريه ، فيكتسي حلة تختلف عن سائر الفصول .
مجموعة الأقران و معهم بعض أبناء الزائرين الجدد تنتظرني ، نفس الأنشطة مع بعض الاختلافات التي يفرضها الفصل الحار ، نخرج الماشية إلى الراعي صباحا ، ثم ننطلق نحو الحقول لنعيث فيها فسادا ، بعد الظهر نتسابق نحو الواد المجاور قصد السباحة في " الكلتة " و لا نعود إلا عند الغروب لندخل الماشية ، و هكذا تمر الأيام حتى يحين دراس الزرع بالدواب في البيادر و هو فرصتنا المنتظرة ، إذ بعد الدراس يمتطي كل منا حمارا و نذهب بالحمير العطشى نحو الساقية لتروي ظمأها في مكان مخصص لذلك يطلق عليه " أوخميج " و خلال الطريق يتسابق الأقران و يتباهى كل منهم بحماره ، في جو من المرح و السعادة التي لا تضاهيها سعادة.
جرت العادة أن حفلات الزفاف أي الأعراس تقام مباشرة بعد تخزين محصول القمح في البيوت ،
تبدأ الإستعدادات للزفاف على قدم و ساق ، يجتمع الأهل و الأقارب و الجيران في بيت العروسين ، بعدما جلبوا معهم بعض الأفرشة و الأواني ، و كل ما يحتاجه أهل العروسين .
 النساء يتحلقن حول الرحى الحجرية ، يتناوبن على طحن الحبوب و هن يرددن بعض الأذكار و أخريات ينتقين ملابس العروسة ، أما الرجال فهم منشغلون بوضع الترتيبات اللازمة للحفل ، و يكلفون كل فرد منهم بمهمة ، يقبلها هو بدوره متباهيا مزهوا  بحضوته ومكانته بين أهالي القرية ، يمر الحفل بطرق تقليدية جميلة ، تقام الولائم المتواضعة اللذيذة يحضرها أهل القصر جميعا دون استثناء و يزف العروسين بأهازيج شعبية محلية لها ما لها من معاني الصدق و الوفاء و التضحية و التآزر .
هنا يقتصر دورنا نحن الصغار على الفرجة و القليل من المساعدة ، إذ رغم ما كنا نعمل من شغب بعيدا عن أعين الكبار ، فأمامهم لا يسعنا إلا الانضباط و الهدوء و إلا عرضنا أنفسنا للعقاب من طرفهم ، فكل كبير في القصر هو بمثابة أب له كامل الصلاحية في معاقبة أي طفل أساء التصرف .
هكذا قضينا طفولتنا ، لا نعرف عن العالم الخارجي شيئا مما نعرفه الآن ، كنا نسمع أسماء بعض المدن كالرباط و فاس و مراكش و وجدة و غيرها و لكنها لم تستأثر بقلوبنا شيئا ، كنا نسمع البحر و لا تنتابنا الغيرة لرؤيته .
 ما كان في حياتنا شيء يكدر صفو أحلامنا البسيطة ، ما كنا نعرف فلسطين وما كان يؤلمنا احتلالها ، ما كنا نعلم شيئا عن مآسي وطننا ، ما كنا نعلم شيئا عن الديمقراطية و لا عن حقوق الإنسان و لا عن الفوارق الطبقية ، كنا نظن أن الناس في كل مكان يشبهوننا في المسكن و الملبس و المطعم ، كنا لا نعلم و لا نعرف شيئا مما نعلم اليوم و كنا سعداء في غاية السعادة ، فلما كبرنا و تعلمنا و عرفنا افتقدنا السعادة و استبدلناها بالهم و الغم و الكآبة ، حتى أصبحنا نفضل الأمس بشظف عيشه على اليوم برغد عيشه .
 عجبا أإلى هذا الحد تكمن السعادة في البساطة ؟ فيا ليتها تعود يوما !!!

         شطحات من طفولة الكاتب الأستاذ
                          زايد وهنا