كنت ضيفا عند أحدهم ، و بينما نحن جالسون نحتسي الشاي و نتجاذب أطراف الحديث عن ذكريات طواها الزمان و لفها النسيان ، دخل علينا ابن المضيف ببذلة رياضية و تصفيفة شعر غريبة تلفت الانتباه و تثير الدهشة و قد استحييت أن أقول الاشمئزاز ، بادرني بتحية مصطنعة لا تحمل أدنى قدر من الاحترام و كأنني زميل له في مثل سنه ، ثم ألقى بنفسه على الأريكة المقابلة لنا و قد وضع سماعتي الهاتف في أذنيه و عيناه لا تكاد تفارق شاشة الهاتف ، بعد برهة من جلوسه نظرت إليه فإذا هو منشغل بالذي بين يديه ، كأنه بمفرده في الغرفة ، و لا يرفع رأسه إلا إذا سمع قهقهة والده ، فيرمقه بنظرات تحمل ما تحمل من معاني السخرية ثم يعود لما هو فيه إذ لا يهمه حديثنا في
شيء و كيف يهمه و هو أصلا لا يسمع منه شيئا .
استغربت منه هذه التصرفات ، فهزني الفضول
و سألت والده عن مستواه الدراسي ، تنهد و تأفف
و تغيرت أسارير وجهه ، فشعرت أنني فتحت جرحا طالما تمنى هو نفسه ألا يفتح ، فأجابني جوابا يدمي القلب ، إذ أسر إلي بصوت خافت
و نبرة التوتر تعتريه خوفا من أن يسمعه ابنه ، أن ابنه هذا لا رغبة له في الدراسة ، فهو شاب مهمل
ضيع سنوات كثيرة من عمره في التكرار ، و أضاف
و الحسرة تعتصر قلبه ، لعل انتقاله من مستوى إلى آخر كان بسبب كبر سنه و لم يكن أبدا بمجهود فكري بذله ، عمره اقترب من العشرين و ما زال يقبع في الثالثة إعدادي ، هذا ناهيك عن بعض سلوكاته المنحرفة و تصرفاته العدوانية التي لم يسلم منها أحد سواء من أهل بيته أو من الأساتذة و الإداريين و التلاميذ حتى بات ينعت بالمسخوط بين الأهل و الجيران و الزملاء ، و لم تعد تنفع معه نصائح والده و لا توسلات أمه ، و لا تهديدات رجال الأمن له أحيانا، مما كدر صفو العيش على أسرته ، و أفسد على والده متعة تقاعده ، حتى أصبح يتمنى الموت على أن يرى ابنه على هذه الحال التي لا تسر صديقا و لا عدوا .
كان لكلامه هذا وقع كبير على نفسي و أنا أرى أمامي شابا يافعا في طريقه إلى الضياع ، وضعت كأس الشاي دون أن أكمله ، و قررت بصفتي أستاذا أن أغامر و أستدرجه للحديث معي عسى أن أظفر منه بما يؤهل الطريق أمامي لمعرفة أسباب تمرده .
طلبت منه أن يقترب و يجلس بجانبي ، نهض من مكانه متلكئا و علامات التعجب بادية على محياه ،
جلس و هو ينظر إلى والده و كأن لسان حاله يقول أنظر إلى رقة معاملة هذا الرجل ، قدمت له كأس الشاي فأبى أن يأخذه مني بدعوى أنه يشرب القهوة بدل الشاي ، طلبت من أمه أن تحضر له فنجان قهوة ، ربت على كتفه بيدي و أنا أستحضر كل ما أعرفه في علم النفس الخاص بهذه السن ،
ابتسمت في وجهه و سألته عما إذا كان قد شاهد مباراة الكلاسيكو بين برشلونة و ريال مدريد ، فانطلق لسانه من عقاله و بدأ يحدثني حديث الصديق لصديقه ، حينها أحسست أنني بدأت أعزف على الوتر الحساس ، و أنني أمسكت بخطام
الناقة الصعراء أوجهها حيث أريد ، فاستطرد في الحديث عن تلك المقابلة يذكر محاسن هذا و يذم ذاك و ينتقد خطط المدرب و أنا أصغي إليه باهتمام و استحسن ملاحظاته و أزكيها بإيماءة من رأسي ، لكن في حقيقة الأمر فأنا أفكر في الخطوة الموالية و السؤال الملائم لها ، فبادرته بسؤال عن هواياته المفضلة ، فأجاب بسرعة و كأنه كان ينتظر هذا السؤال ، مؤكدا أن كرة القدم و الغناء هما المفضلتان عنده عن سائر الهوايات الأخرى ، و أكثر ميله للغناء ، استحسنت مرة أخرى جوابه ، فإذا به يبرر اختياراته بما يكسبه اللاعبون و المغنيون من أموال خيالية تجعلهم يرغدون في العيش
و يترفون ، هذا ناهيك عن الشهرة و القيمة الاجتماعية التي يحضون بها . أما الدراسة فلم
تعد لها قيمة ، فهي تخرج أفواج العاطلين الشبه الأميين ، و المحظوظ منهم من يحصل على وظيفة بأجر زهيد يجعله يعاني من متطلبات الحياة الضرورية طيلة حياته ، ينتظر كالفرخ في العش ذلك الراتب ليوزعه على المدينين له ، و لا يبقى بين يديه إلا ما يسد به الرمق حتى منتصف الشهر ليقضي الاسبوعين الأخيرين من الشهر في ضنك و حرج مع أصحاب الديون ، و لعل والدي واحد منهم ، فقد أحيل على المعاش بعد سبعة
و ثلاثين عاما من العمل الروتيني الممل و أصبح يتقاضى ثلثي الراتب الذي كان يتقضاه ، مما زاد من معاناته ، فمنذ أن انخرط في سلك الوظيفة إلى يومنا هذا لم تعرف السعادة طريقها إلى قلبه ،
فكيف بمن قضى هذه المدة الطويلة في العمل
و ضحى بزهرة شبابه في سبيل خدمة مجتمعه
أن يهان بعد تقاعده ، أليس هذا هو السن الذي يتمنى كل متقاعد أن يروح فيه عن نفسه بالسفر
و الاستجمام و زيارة الأقارب ، و هو السن كذلك
الذي تظهر فيه الأمراض و فيه يحتاج المتقاعدون للرعاية الصحية ، فلماذا ينتقص من رواتبهم
و الأولى أن يزاد فيها لتحقيق ما فاتهم من رغبات .
وافقته القول و أنا أبدي اهتماما كبيرا لما يقوله
و كأني أسمعه لأول مرة ، و أشرت عليه بولوج
معهد موسيقي ليتعلم العزف على الآلات الموسيقية و يصقل صوته مع الكورال ، ما كدت أنهي كلامي حتى تململ في مكانه و التصق بي
و هو يتوسلني أن أتوسط له مع أبيه في تحقيق
رغبته ، حينئذ تيقنت أنني جعلته أسيرا بين يدي
و لأول مرة شعرت به يستصغر نفسه أمام والده عساه يظفر بمرغوبه ، أصبحت في موقف قوة
و أشرت عليه أن المعهد الموسيقي لا يلجه إلا الذين حصلوا على شهادة الباكلوريا ، إذ أن دراسة الموسيقى تتطلب مستوى لا بأس به في اللغات ،
حينها شعرت بفتور في حماسه و كأنني صفعته صفعة أليمة جعلته يطأطئ رأسه ، استدركت الموقف و أيقظت شحنة الحماس من جديد إذ
واعدته بمساعدته في الدراسة و تقديم يد العون
شريطة أن يحسن معاملة أهل بيته و أساتذته ،
و أن يظهر للجميع أنه شخص مسالم ، و تلك سمة الفنانين خصوصا و أنه سينضم إليهم قريبا .
أشرق وجهه بابتسامة و ارتمى علي يعانقني ثم قام و قبل رأس والده الذي لم يمانع هو الآخر في شيء مما اقترحته .
رشف رشفة من فنجانه و شكر أمه على مهارة تحضيرها للقهوة مما جعلها هي الأخرى تستغرب
إذ لم يسبق له أن شكر لأحد صنيعا .
قمت أودع الجميع بعد أن طلبت من الإبن أن يلحق بي إلى منزلي حيث خصصت غرفة لتقديم دروس الدعم ، أكون فيها أستاذا و مصلحا اجتماعيا و عالما نفسانيا .
عاملته تلميذا و اتخذته صديقا ، فبدأت أحواله تتغير إلى أحسن ، و لم تكد تمر سنة واحدة حتى
أصبح شخصا آخر غير الذي كان عليه مما جعل الكل يتعجب بمن فيهم والديه و أساتذته و جميع
معارفه ، مرت السنوات الثلاث و نال شهادة الباكلوريا ، فكنت أنتظر منه أن يستشيرني في ولوج أحد المعاهد الموسيقية ، فإذا به يفاجئني بما لم يخطر يوما على بالي و بما لا أنساه أبدا ما حييت إذ قال :
" الآن عرفت فضل العلم و أثره ، فتعلمه حسنة ، و طلبه عبادة ، و بذله للناس صدقة ، يرفع الله به
قوما فيجعلهم قادة أئمة يقتدى بأعمالهم "
سأتابع دراستي و لن يهنأ لي بال حتى أرتوي من
العلوم و الآداب ما يجعلني من ورثة الأنبياء .
أما أنت يا أستاذ فستظل قدوتي و مثلي الأعلى
لن أنسى جميلك ما حييت و أعدك أنني سأدعو معك و مع والدي عقب كل صلاة .
💼 الكاتب : زايد وهنا 💼