تباشير الخريف

 👤  تباشير الخريف  👤


         الآن و قد جاوزت الستين من عمري ، تغير منظوري اتجاه أمور كثيرة في الحياة ، إذ بدأت أنظر إليها بمنظار يختلف عما كنت أعتقده ، و كأنني أضعها من جديد تحت المجهر ، أدقق فيها النظر و أغربلها بغربال ضيقة مسامه ، فتراني أحتفظ ببعضها مما يوافق هواي و أسقط عني ما

لا أراه مجديا . و هكذا أصبحت أرغب في أشياء كنت فيما مضى لا أميل إليها ، و عافت نفسي أشياء كنت قبل اليوم أحبذها ، فأتساءل أحيانا عن السبب .

أهو التقدم في السن الذي فعل فعله ؟

 أم هو نضج جديد بعد الستين ؟

 أم هو خراف بداية الشيخوخة ؟

 و مهما يكن لم أهتد بعد إلى أي منها هو الأصح.

⚘  فملذات الحياة لم تعد تغريني كما كانت من قبل و كأنني تشبعت منها ، فقد لبست منها و أبليت الثياب ، لذلك انصرف جل تفكيري إلى مجاهدة النفس في القيام بالأعمال التي تقربني إلى الله أكثر ، لعلي أكون في زمرة المفلحين .

💼   كما أن القيم الإنسانية السامية التي تربيت عليها و التي كان لها بالغ الأثر في حياتي ، أراها و قد استبدلت فضائلها بالنقائص و الرذائل ، مما يشعرني بالاشمئزاز مما هو عليه واقعنا اليوم ، و هذا دافع كبير للشعور بنوع من الغربة .

✂   كنت قبل هذا أرغب في مجالسة الناس و مشاركتهم في أحاديثهم ، فأصبحت الآن أميل إلى مجالسة نفسي و محاورة خيالي ، فهو المؤنس في الوحدة و المحدث في الخلوة ، يعوضني عن خساسة الواقع ، خصوصا و أن تلك القلة القليلة من الأصدقاء الأوفياء الذين أرتاح لمجالستهم قد تباعدت بيني و بينهم المسافات لضرورة العمل .

✏   كنت فيما مضى سباقا لأي نشاط ثقافي هادف ، إما محاضرا أو مسيرا أو منظما ، أو منشطا ، أو أقلها حتى مستمعا ، فصرت اليوم لا أرغب حتى في الحضور ، لأنني أعلم مسبقا أن لا فائدة من لقاءات لا تنبني في أغلبها على نشر العلم و المعرفة بقدر ما تهتم بسفاسفة الأمور 

و توافهها . 

🖋   أصبحت أدمن على قراءة ما تهواه نفسي 

و كتابة ما أعتقده صوابا في مجالات أدبية متنوعة ، فهما الملاذ الوحيد في واقع أشبه ما يكون بالمستنقع الذي لم يعد فيه للفكر و الأدب من قيمة .

 💉   بلغ بي الأمر أن غدوت لا أرغب في زيارة الطبيب إلا في الحالات الخطيرة لا قدر الله ، حيث أصطبر على الأوجاع و الآلام و أستعمل الأدوية التي تخفف عني وطأتها ، لأن زيارة مستشفياتنا في ظل واقعها المهترئ و اللامبالاة بالمرضى لا تزيدني إلا ألما عوض الاستشفاء .

😃    لم أعد أستطيع تحمل الضجيج و الصراخ ، و هذا راجع لطبيعة المهنة التي زاولتها لأكثر من أربعين سنة في تربية 

و تعليم الناشئة .

🚶   كثيرا ما كنت أدخل في جدال مع أحدهم ، 

و لا يهنأ لي بال خصوصا إذا كانت فكرتي صائبة  حتى يقتنع محاوري و يعدل عن فكرته الخاطئة ، و صرت اليوم أتجنب هذا النوع من الجدال بل أمقت الخوض فيه ، فأبدي لمحاوري تأييد ما يدعي رغم أنني في قرارة نفسي أعلم علم اليقين

أنه مجانب للصواب درءا لأي جدال .

 🐎   أصبحت بعض التصرفات الغير اللائقة التي يأتيها بعض الشباب  تقلقني كثيرا و تشمئز منها نفسي ، كالتهور في السياقة ، و الكلام الساقط ، و نوع اللباس الذي لا يكاد يستر عورة ، و أنواع حلاقة شعر الرأس المقززة ، و غيرها من مظاهر الانحراف ، و الأدهى من كل هذا هو الفراغ الروحي لديهم و تدني المستوى العلمي و المعرفي إلى حد هو أقرب إلى الأمية الأبجدية منه إلى الأمية الثقافية ، و هي المظاهر التي صرت أمقتها و أمقت آتيها ، متشائما من مستقبل لا يبشر بالخير في ظل التمادي في هذه السلوكات و ضرب القيم الإسلامية عرض الحائط ، ناهيك عن الفساد الذي

أحكم قبضته على جميع القطاعات .

🌏    باختصار لقد صارت الدنيا بصغائرها صغيرة في عيني ، و لم يعد فيها ما يغري ، لأنها صراحة فقدت لذتها و متعتها ، 

و غاب عنها الأنس و ران عليها اليأس لأن ما اعتاد عليه الناس من حياء و صدق و وفاء و محبة و تسامح و تعاون 

و أنفة و حزم و جد و احترام و انضباط و غيرها من الفضائل صارت في خبر كان و حلت محلها كل أصناف الرذائل ، حيث ساد الانحراف و الإستهتار و التسيب و اللامبالاة و الانحلال الخلقي مما نتج عنه فساد عام استشرت عدواه في جميع القطاعات و المجالات و يزداد الوضع سوءا يوما بعد يوم ، 

و لا من يحرك ساكنا .

 فكيف و الحال هذه ألا يشعر الإنسان الذي تربى على المبادئ السامية بالغربة و الغرابة ، و كيف لمثله في ظل هذا الواقع العفن ألا يلتزم الصمت و الحياد و ينقطع إلى نفسه متى وجد إلى ذلك سبيلا .


                      💼  بقلم زايد وهنا  💼