🐎🐎هذه الخيل فأين الفوارس ؟ 🐎🐎
رغم أننا تقدمنا في السن ، و أصبحت نظرتنا للدنيا أكثر تعقلا و تفهما و روية من ذي قبل ، إلا أننا أحيانا لا نشعر بأنفسنا و قد انسقنا وراء خيال جامح يهيم بنا ، فنأتي بعض التصرفات التي تجاوزها سننا ، و استحيى منها بياض شواتنا ، إذ يستيقظ فينا ذاك الطفل البريء الذي تركناه منذ أمد بعيد أو ذاك الشاب اليافع الذي يسكننا ، فنجتر ذكرياته البائدة ، فترانا لا نمسك لأعنة خيالنا لجاما ، و لا نملك لتيهنا مكابحا ، فيسرح بنا سديم الخيال و لا يوقظنا من نشوة سكرتها إلا هذا الواقع بقليل من حلاوته و كثير من مرارته التي نتجرعها و نحن نكابد مصاعب الحياة ، مثقلين بهموم لم نكن نحملها على عاتقنا و نحن صغارا أو شبابا ، بل لم يكن يهمنا منها شيئ طالما تخص الكبار ، و هو الأمر الذي عشته و أنا في نزهة ظننتها تروح عن النفس من عناء هذه الحياة و من نقائصها و صغائرها التي باتت ترهق أفكارنا و أذواقنا .
كانت النزهة بواد غيغاية بمولاي ابراهيم على مشارف تحناوت القريبة من مراكش ، و قد تعودت زيارة هذا الوادي من حين لآخر حيث الهدوء و الطبيعة العذراء ،توحي بما توحي به من عظمة البارئ المصور ، و تلهم كل ذي إحساس مرهف ، و تفتح شهيته للنظم أو الكتابة أو الرسم أو العزف أو أي شيء مما يحرك القرائح و المواهب ، و لعل هذا هو السبب الذي جعلني أرتاد هذا المكان دون غيره ، إلا أن ما حدث في الزيارة الأخيرة يختلف تماما عن سابقتها ، إذ استعصى القلم عن الكتابة رغم مراودتي له ، وضعته أمامي و سرحت ببصري كمن يتفقد أحوال الوادي ، فلم أشعر إلا و قد ركزت نظري على بعض الخيول و هي ترتع قريبا من الماء ، عليها سروج مذهبة بحمائل بين أحمر قان و أصفر عسجدي غاية في الجمال ، يتدلى على جانب كل منها ركابين مربوطين الى السرج بجدائل مضفورة ، و بمحاداتها شاب يدعى عبد الحكيم ، لا يكاد يفتر لسانه عن مناداة الزبائن و مجاملتهم و الإشادة بمتعة ركوب الخيل مقابل دريهمات قليلة ، و كثير هم الذين يرغبون في امتطائها ، و لا تسعهم الدنيا سعادة و فخرا إلا و هم على صهوتها و هواتف مرافقيهم تلتقط لهم صورا للذكرى ، و كأنهم فرسان عائدين من ساحة الوغى ، و لكن القليل منهم من يجزل العطاء لصاحبها ، حينها راودتني أنا أيضا فكرة ركوبها ، و قلت في نفسي و لم لا أنا ؟ خصوصا أن صاحبها عبد الحكيم يعرفني من كثرة ترددي على المكان ، وقد جالسني مرارا و احتسينا الشاي معا ، إذ كلما رآني أقرأ أو أكتب يبدي اهتماما تشوبه حسرة و امتعاض من ظروف العيش القاسية بين الجبال التي حالت دونه و الدراسة .
وقفت قريبا من الخيول أنظر أيها أركب ، لحظتها تذكرت أن أفضلها عند العرب أدهمها ، بسملت و وضعت رجلي في الركاب و ما أن اعتدلت في جلستي و أخذت اللجام حتى انتابني شعور غريب و سرت في أطرافي رعشة من أخمص قدماي حتى قفاي ، فلم أتمالك نفسي و صحت بأعلى صوتي :
" أنا عنترة بن شداد العبسي و هذا فرسي الأدهم "
حينها رفع الفرس ناصيته عاليا و حمحم حمحمة أشعلت حماستي و انطلقت أردد أشعار عنترة التي أحفظ منها الكثير ، و ما أن وصلت هذا البيت الشعري :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
*** ولا كان لو علم الكلام مكلمي
حتى استدار الفرس برأسه نحوي ، و رأيت ما يشبه الدمع في عينيه ، و لسان حاله يقول :
" شتان بينك و بين من تنشد أشعاره ، شجاعة و حماسة و أنفة ، انزل عن ظهري لقد أيقظت مواجعي ، و أضرمت نار أشجاني "
حينها علمت حقا أن للحيوان شعورا و احساسا لا يختلف عنا كثيرا .
بسرعة البرق انقلبت حماستي الى كآبة ، و تلعثمت و تناثرت الأشعار في ذهني تناثر اللؤلؤ من العقد فلم أعد أقوى على ترصيفها ، ترجلت عن صهوته و عدت الى مكاني المعتاد أخطو خطوات متثاقلة ، أثقلتها سخرية الفرس مني ، و أبطأتها ذكريات زمن العزة و الكبرياء .
أخرجت القلم ثانية ، فوجدته مطواعا يريد هو كذلك ألا تفوته هذه الفرصة ليشمت بي ، فانطلق يخط هذه السطور ، و في غفلة منه رفعت بصري نحو الفرس ، فرأيته يرمقني بعين الاعتذار ،
و لسان حاله يقول لي :
" لا عليك فأمثالك كثير ممن يركبون و يحلمون و لكن القليل من أمثالك هم الذين يكتبون " .
خاطرة الحالم " زايد وهنا "
رغم أننا تقدمنا في السن ، و أصبحت نظرتنا للدنيا أكثر تعقلا و تفهما و روية من ذي قبل ، إلا أننا أحيانا لا نشعر بأنفسنا و قد انسقنا وراء خيال جامح يهيم بنا ، فنأتي بعض التصرفات التي تجاوزها سننا ، و استحيى منها بياض شواتنا ، إذ يستيقظ فينا ذاك الطفل البريء الذي تركناه منذ أمد بعيد أو ذاك الشاب اليافع الذي يسكننا ، فنجتر ذكرياته البائدة ، فترانا لا نمسك لأعنة خيالنا لجاما ، و لا نملك لتيهنا مكابحا ، فيسرح بنا سديم الخيال و لا يوقظنا من نشوة سكرتها إلا هذا الواقع بقليل من حلاوته و كثير من مرارته التي نتجرعها و نحن نكابد مصاعب الحياة ، مثقلين بهموم لم نكن نحملها على عاتقنا و نحن صغارا أو شبابا ، بل لم يكن يهمنا منها شيئ طالما تخص الكبار ، و هو الأمر الذي عشته و أنا في نزهة ظننتها تروح عن النفس من عناء هذه الحياة و من نقائصها و صغائرها التي باتت ترهق أفكارنا و أذواقنا .
كانت النزهة بواد غيغاية بمولاي ابراهيم على مشارف تحناوت القريبة من مراكش ، و قد تعودت زيارة هذا الوادي من حين لآخر حيث الهدوء و الطبيعة العذراء ،توحي بما توحي به من عظمة البارئ المصور ، و تلهم كل ذي إحساس مرهف ، و تفتح شهيته للنظم أو الكتابة أو الرسم أو العزف أو أي شيء مما يحرك القرائح و المواهب ، و لعل هذا هو السبب الذي جعلني أرتاد هذا المكان دون غيره ، إلا أن ما حدث في الزيارة الأخيرة يختلف تماما عن سابقتها ، إذ استعصى القلم عن الكتابة رغم مراودتي له ، وضعته أمامي و سرحت ببصري كمن يتفقد أحوال الوادي ، فلم أشعر إلا و قد ركزت نظري على بعض الخيول و هي ترتع قريبا من الماء ، عليها سروج مذهبة بحمائل بين أحمر قان و أصفر عسجدي غاية في الجمال ، يتدلى على جانب كل منها ركابين مربوطين الى السرج بجدائل مضفورة ، و بمحاداتها شاب يدعى عبد الحكيم ، لا يكاد يفتر لسانه عن مناداة الزبائن و مجاملتهم و الإشادة بمتعة ركوب الخيل مقابل دريهمات قليلة ، و كثير هم الذين يرغبون في امتطائها ، و لا تسعهم الدنيا سعادة و فخرا إلا و هم على صهوتها و هواتف مرافقيهم تلتقط لهم صورا للذكرى ، و كأنهم فرسان عائدين من ساحة الوغى ، و لكن القليل منهم من يجزل العطاء لصاحبها ، حينها راودتني أنا أيضا فكرة ركوبها ، و قلت في نفسي و لم لا أنا ؟ خصوصا أن صاحبها عبد الحكيم يعرفني من كثرة ترددي على المكان ، وقد جالسني مرارا و احتسينا الشاي معا ، إذ كلما رآني أقرأ أو أكتب يبدي اهتماما تشوبه حسرة و امتعاض من ظروف العيش القاسية بين الجبال التي حالت دونه و الدراسة .
وقفت قريبا من الخيول أنظر أيها أركب ، لحظتها تذكرت أن أفضلها عند العرب أدهمها ، بسملت و وضعت رجلي في الركاب و ما أن اعتدلت في جلستي و أخذت اللجام حتى انتابني شعور غريب و سرت في أطرافي رعشة من أخمص قدماي حتى قفاي ، فلم أتمالك نفسي و صحت بأعلى صوتي :
" أنا عنترة بن شداد العبسي و هذا فرسي الأدهم "
حينها رفع الفرس ناصيته عاليا و حمحم حمحمة أشعلت حماستي و انطلقت أردد أشعار عنترة التي أحفظ منها الكثير ، و ما أن وصلت هذا البيت الشعري :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
*** ولا كان لو علم الكلام مكلمي
حتى استدار الفرس برأسه نحوي ، و رأيت ما يشبه الدمع في عينيه ، و لسان حاله يقول :
" شتان بينك و بين من تنشد أشعاره ، شجاعة و حماسة و أنفة ، انزل عن ظهري لقد أيقظت مواجعي ، و أضرمت نار أشجاني "
حينها علمت حقا أن للحيوان شعورا و احساسا لا يختلف عنا كثيرا .
بسرعة البرق انقلبت حماستي الى كآبة ، و تلعثمت و تناثرت الأشعار في ذهني تناثر اللؤلؤ من العقد فلم أعد أقوى على ترصيفها ، ترجلت عن صهوته و عدت الى مكاني المعتاد أخطو خطوات متثاقلة ، أثقلتها سخرية الفرس مني ، و أبطأتها ذكريات زمن العزة و الكبرياء .
أخرجت القلم ثانية ، فوجدته مطواعا يريد هو كذلك ألا تفوته هذه الفرصة ليشمت بي ، فانطلق يخط هذه السطور ، و في غفلة منه رفعت بصري نحو الفرس ، فرأيته يرمقني بعين الاعتذار ،
و لسان حاله يقول لي :
" لا عليك فأمثالك كثير ممن يركبون و يحلمون و لكن القليل من أمثالك هم الذين يكتبون " .
خاطرة الحالم " زايد وهنا "