آيت عشة

                        🔍 تغرمت نايت عشة🔍


            هذا هو الاسم الأمازيغي الشائع الذي يتداوله أهالي  قصر آيت عشة  في تسمية قريتهم ، و هو أصغر قصور بني وزيم الثلاث التابعة للتراب البوذنيبي بإقليم الرشيدية .

و كلمة ( تغرمت ) هي تصغير لكلمة ( إغرم )

و تعني تجمع تسكاني صغير في قرية محاطة بسور ، و هو ما يسميه سكان الجنوب الشرقي في لهجتهم   العامية  ( بالقصر ) ، بينما يطلق عليه في مناطق أخرى من المغرب اسم ( الدوار ) 

أو ( المدشر ) .

و لعل تصغير اسمه بالأمازيغية ( تغرمت ) راجع إلى حب الأهالي له ، و ارتباطهم الوثيق به ، فرغم صغره و قلة عدد ساكنيه إلا أنه يحضى بمكانة رفيعة في نفوسهم ، حتى أن بعضهم يردد المثل الشعبي العامي المعروف :

           ⏺ قفة نحل خير من شواري ذبان ⏺

و هنا يحضرني قول الشاعر العربي السموأل :

 تعيرنا أنا قليل عديدنا ** فقلت لها إن الكرام قليل

            نعم هذا القصر الذي كان فيما مضى رمزا للتماسك و مبعث القيم الإنسانية النبيلة هو الآن عبارة عن أطلال ، يتخيل للناظر أنه قصر مهجور منذ زمن بعيد جدا ، و لكن حقيقة الأمر أنه لم يهجر إلا في أواخر الثمانينات ، إذ أصبحت البيوت المتواضعة فيه لا تستوعب الأسر التي تزايد عدد أفرادها ، و من ناحية أخرى أضحى الأهالي يتطلعون إلى السكن في بيوت أكثر صلابة 

و اتساعا تتوفر على كل وسائل الراحة و الرفاهية التي استجد بها العصر الحديث ، مما استدعى بناء منازل جديدة غير بعيد عن القصر ، على الأراضي السلالية التابعة له ، و بانتقال الناس إلى بيوتهم الجديدة بعدما أخذوا من بيوتهم القديمة كل ما يمكن أخذه من أخشاب و دعائم الأسقف و غيرها مما يمكن التزود به للسكن الجديد ، أصبح القصر خرابا ينعق فيه البوم بعدما كان يعج بالحركة 

و الحيوية ، فلا تستطيع أن تحبس دمعك و أنت تقف على أرسامه خصوصا إذا كنت ممن عاصر أمجاده .

          عزيزي القارئ ربما قد يستفزك  هذا المقال   و تتساءل ما السبب في عنونته باللسان الأمازيغي ، و ما الدافع لاختيار هذا القصر 

و الحديث عنه دون بقية القصور رغم أنه صار في خبر كان و لم يعد سوى أطلالا و أرساما دارسة ،

 و لكن صدقني إذا قلت لك أن هناك عدة عوامل دفعتني لاختياره و الحديث عنه ، لا لأنه محتد الأباء و الأجداد ، فهذا الانتماء لا يشكل لدي إلا جزءا بسيطا من مجموعة أشياء استرعت انتباهي و خلبت لبي و تركت أثرا لا تمحوه الأيام مهما تقادم العهد .  

           منذ نعومة أظافري كنت من حين لآخر أزور جدي و جدتي اللذان كان يسكنان بهذا القصر ، و كانت الأيام القليلة التي أقضيها فيه من أحسن الأوقات و أسعدها ، أعرفت لماذا ؟ 

قصر آيت عشة هذا ، قصر صغير جدا محصن بسور به أربعة أبراج ، و مدخل واحد كبير له باب من ألواح الصفصاف السميكة ( فم القصر ) ، خلفه من الداخل منضدات  من تراب ( الدكانات ) مرصصة على جانبي بهوه تنتهي بممر نحو المسجد الصغير ( تمزييدا ) و بين المنضادات تمتد سقيفة طويلة مظلمة تتفرع في آخرها ثلاث أزقة ( زقاقات ) ، كما أن للقصر مدخلين صغيرين تم نقبهما في السور ، يسميهما الأهالي ( النقبية ) لتسهيل الولوج إلى القصر من جهتي الشمال 

و الغرب ، بل هناك من البيوت من لها باب في السور يفضي إلى خارج القصر ، و كان الأهالي يتخذونها ممرا فيخترقون بيت صاحبه دون استئذان منه و هو أمر عادي بالنسبة إليه ، ما تبث يوما أن تضجر أحدهم من مرور أهل القصر بسقيفة بيته دخولا أو خروجا من و إلى القصر ، 

و هذه واحدة من مميزات قبيلة آيت عشة .

و لقد حبا الله هذا القصر بإمام للمسجد من خيرة و أطيب رجالاته ، إنه الفقيه " الطالب العماري "

رجل جمعت فيه كل الخصال الحميدة جعلته أعظم الناس في أعين الأهالي و كان رأس ما أعظمه عندهم صبره اللامنتهي و تواضعه الجم 

و حياؤه الدائم و قناعته و عفة نفسه الأبيتين ،

مما جعل منه الإمام و المصلح ذات البين 

و المستأمن على الودائع ، لا ترد له كلمة و لا يخيب له رجاء . 

           إلى هنا لا أظن أن هناك فرق بين قصر آيت عشة و سائر القصور المجاورة ، و لا نراه يستفرد بما يثير الاهتمام ، و لكن هناك أشياء سنأتي على ذكرها هي التي جعلته يتميز عن غيره ، فلا تمل عزيزي القارئ و جاريني في تصوري حتى النهاية ، و بعدها لك الحق في إبداء رأيك إذ لا ملامة على الكاتب و لا حرج على الناقد ، فكلاهما في خدمة الثقافة .

هل تعلم أن عدد الأسر بهذا القصر لا يزيد عن الثلاثين كلهم من الأمازيغ باستثناء ستة أو سبعة أسر لا يعودون في أصلهم إلى الأمازيغ و لكنهم انصهروا مع الآخرين ، و اندمجوا اندماجا عجيبا قل نظيره ، بل أصبحوا يتكلمون الأمازيغية ، حتى أنه يصعب على الزائر التمييز بين هؤلاء و أولئك ، و الكل على قلتهم متعاونون متحابون ، لا نعوت استهزائية بينهم ، إذا دخلت بيت أحدهم تشعر 

و كأنك في بيت أهلك تستقبل بالحفاوة و لا تخرج منه إلا وفي يدك قطعة خبز أو حفنة تمر أو فاكهة من الفواكه الموسمية التي تجود بها البساتين و ما أكثرها آنذاك و ما أطيب طعمها .

ليتك حضرت عرسا من أعراسهم التي كانت تدوم أسبوعا كاملا يجسد فيه الأهالي كل الطقوس 

و الأعراف المتوارثة حيث لكل طقس منها أهازيجه و أشعاره و التي يسهر على تنظيمها 

و إتقانها المتمرسون من الرجال و النساء ، فلكل واحد منهم دوره المعروف الذي يسند له القيام به ، فالكل يساعد بما ملكت يده ، و الكل مدعو للوليمة دون استثناء فلا فرق بين الضيف 

و المضيف و كأن القصر بأكمله أسرة واحدة .

و ما قيل عن الأفراح يقال عن الأتراح و إن كانت هذه الأخيرة لا تستغرق إلا ثلاثة أيام ببيت صاحب المأتم ، إذ تتم استضافة الأسرة المكلومة من قبل

الساكنة بالتناوب .

باختصار شديد أرغمني عليه تخوفي من ملل القارئ ، سأمر مر الكرام على البرنامج اليومي لأهل آيت عشة .

ففي الصباح الباكر أيام الصيف و قبل أن ترسل الشمس أول شعاع لها ، يخرج الأطفال عن بكرة أبيهم إلى واحات النخيل لالتقاط البلح ، و لا يسمح لهم بذلك في عرفهم إلا بعد الترخيص من  "شيخ المزرعة " أي حارسها ، الذي ينادي بأعلى صوته قائلا عبارته المألوفة :

 🔹 وا  طيحوا 🔹و تعني انطلقوا ، و الويل كل الويل لمن يخرق قانون العرف المعمول به فقد يؤدي غرامة مالية تسمى ( النصاف ) ، 

يعود الأطفال من مختلف الأعمار و قد ملؤوا قففهم بما جاد به نخيل الواحة من بلح و ( ركم ) . بعد وصولهم مباشرة يخرجون قطعانهم إلى مشارف القصر حيث يتولى الراعي جمعها 

و الانطلاق بها نحو المرعى ، فيعودون لتناول وجبة الفطور التي غالبا ما تكون حساء و تمرا ثم خبزا  و شايا ، فينطلق الرجال نحو الحقول و لا يعودون إلا عند الظهر حيث يتناولون وجبة الغذاء 

الشهية التي تتكون من خبز بلدي تم طهيه في الفرن التقليدي ( الكوشة ) و مرق مكون من خضر محلية تم طهيها هي الأخرى في قدر من فخار 

( القنوشة ) تتميز بلذة عجيبة و قيمة غذائية صحية ، فإن شفعت بلحم القنية أو لحم ( الوزيعة) فتلك أكلة شهية و نكهة فريدة يقصر عنها الوصف.

بعد الغذاء يجتمع الرجال في سقيفة " فم القصر "

التي تم رش أرضيتها بالماء ، و يتخذ كل منهم موضعا بإحدى الدكانات ، يتجاذبون أطراف الحديث الذي غالبا ما يدور حول شؤون القبيلة ، 

و قد يذهب بأحدهم الحديث فيستذكر أيام الشباب و مغامرات العمل في الضيعات الفرنسية بالجزائر ، و إلى جانبه آخر يسترق السمع و هو منهمك في صنع قفة من سعف النخيل و آخر يومئ برأسه تعجبا و هو منشغل بإصلاح أداة من أدوات العمل ، و  آخر يخصف نعله و قد استند على الدكانة المقابلة لا يهمه من حديثهم شيئا سوى إصلاح نعله ، و منهم المستريح البال الذي يغط في نوم عميق و قد افترش التراب و توسد مرفقيه .

 أما الشباب من أبناء القصر فيفضلون قضاء وقت القيلولة في مكان وارف الظل تحت أشجار النخيل ( عش عسو و الحو ) حيث يلعبون الورق ( الكارطة ) ، أما الأطفال و المراهقون فلا شيء يستهويهم صيفا غير السباحة في الواد المجاور ( كلتة موحلي ) أو ( كلتة عيشة عقا ) و المرور بالبساتين لأكل بعض الفواكه التي يجنونها خلسة عن أعين أصحابها .

بعد أداء صلاة العصر يتوجه الرجال نحو الحقول ،

و تخرج النساء لجز الكلإ ( الفصة ) للماشية ،

حتى إذا أشرفت الشمس على المغيب ، عاد الرجال من الحقول و قد أخذ منهم التعب مأخذه ،

و عادت النساء و هن يحملن على ظهورهن حزم

الكلإ و الحطب ، أما الأطفال فيخرجون إلى مشارف القصر ينتظرون عودة القطيع ، ليدخل كل منهم قطيعه نحو الزريبة أو ( الحوش )  .

هذا دأبهم صيفا و هو نفس النمط شتاء غير أن  تجمع الرجال شتاء يكون في مكان مشمس بين

( فم القصر ) و ( برج بابا حا )  تحت السور 

و هو ما يعرف عندهم ب ( تسامرت ) نهارا ،

أما ليلا فقد جرت العادة عند أهالي آيت عشة أن الأسر تتسامر فيما بينها مجتمعين حول موقد النار 

( الكانون ) يتجاذبون أطراف الحديث و يستمعون للأحاجي التي ترويها العجائز ، كما أن بعض النساء  

يمدن يد المساعدة لجارتهن في صنع الحصائر 

و الأطباق و غيرها مما يمكن أن يصنع من سعف النخيل . بينما الكهول و الشباب ، يجتمعون بسقيفة( فم القصر ) حيث يوقدون النار بحطب النخيل( القرناف ) الذي تم جمعه نهارا لهذا الغرض ، فيتحلقون حول النار ( لفكيرة ) 

و يخوضون في أحاديث أغلبها يصب في التسلية و سرد المغامرات ، بجانبهم طبق من التمر غالبا ما يكون من النوع اليابس الصغير الحجم و إناء به ماء أوتي به من بئر المسجد ، علما أن واحة النخيل ببني وزيم بها أنواع من التمور لا توجد في غيرها من الواحات الأخرى بالجنوب الشرقي 

و أبرزها نوعين فريدين هما ( بو امحمد )

و ( عبوجو ) .

           خلاصة القول أن لكل فصل طقوسه و لكل عيد أفراحه و لكل موسم عاداته ، من حصاد

و دراس و تلقيح النخيل ( الدكار ) و جني التمور و ( خريط ) الزيتون و غيرها كثير .

         هذا غيض من فيض ، إذ هناك أمور كثيرة تعمدت إغفالها حتى لا أشق على القارئ ، و لو تناولتها بكل تفاصيلها لطال المقال و ربما قد يثير ملل القارئ إن لم يكن قد أثاره ما كتب لحد الآن .

و الحقيقة أن هناك مشاعر أعمق من أن يصفها القلم و لا يشعر بها إلا من اكتوى بنار الشوق 

و الحنين لذكراها .

            مسك الختام رحم الله الأباء و الأجداد ،

فقد عاشوا حياة بسيطة و لكنها سعيدة حقا ، و لا

يعرف جوهر سعادتها إلا من كان ( عشاويا ) عاصر تلك الحقبة و عاين نبل أهلها ، فلأمواتهم الرحمة 

و لأحيائهم السلام .


     🌴 من ذكريات طفولة و شباب زايد وهنا  🌴

         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق