✏ صداقة من نوع آخر 🎤
من الطبيعي أن يربط الإنسان علاقات اجتماعية مع الناس الذين يرتاح إليهم سواء كانوا أقارب أو أصدقاء أو جيران أو زملاء و هذا أمر بديهي لا خلاف فيه مادام الإنسان يعيش و يتعايش مع غيره في نفس البيئة يؤثر و يتأثر بكل ما يحيط به ملتزما بالقوانين السماوية المفروضة و المسلمة و التي لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها
و منضبطا كذلك للقوانين الوضعية المتفق عليها و التي قد تكون قابلة للنقد البناء و التعديل لتلائم حياة الناس و تضمن لهم الأمن و الاستقرار و العيش الكريم ، بل هناك من يتعدى عنده هذا الارتباط فيشمل حتى الحيوان كلبا كان أو قطا أو أي حيوان ممن يأنس بالإنسان ، فتربطهما علاقة ألفة
و صداقة متبادلة قد تفوق في صفائها و وفائها بعض العلاقات الإنسانية الأخرى المبنية على غير الصدق و الوفاء .
كل ما ذكر ليس فيه من غريب القول شيئا ، فالجميع يعلمه و لم نضف إليه بكلامنا جديدا ، و لكن الأمر الغريب هو أن لي ارتباطا وثيقا و صداقة متينة تثير الغرابة و ما يزيد في غرابتها أنها ليست مع إنسان أو حيوان و لكنها مع جهازين لا روح فيهما ، امتدت صداقتي بهما لسنوات عديدة قد تزيد على الأربعين ، هذان الجهازان هما القلم
و الميكروفون ، و هنا أود الحديث عن هذا الأخير الذي لم يسبق لي أن تحدثت عنه ، أما القلم فقد أكثرت عنه الحديث ، فهذا الجهاز المسمى بالميكروفون له معي حكايات قد لا يتسع المقال لذكرها كلها ، ألفته و ألفني -- و لزمن غير يسير -- لم يخذلني قط ، و لم يحرجني في أي موقف ، متى مسكته بين يدي و قربته من فمي وجدته مطواعا مطيعا لي في محاضراتي و ندواتي و سهراتي و كل الأنشطة التي مارستها في حياتي و التي كان لوجوده ضرورة في تقديمها ، بل حتى في البرامج الإذاعية و التلفزية التي شاركت فيها .
و رغم أنه جهاز لا روح فيه إلا أنني رأيت فيه من الوفاء
و التشجيع ما لم ألمسه في بعض البشر .
و لعل ما أستغربه أنا كذلك أنه كلما أمسكت هذا الجهاز إلا
و كأني به يقول لي لا ترتبك أمام هذا الجمع الغفير ، ستؤدي عملا رائعا ينال إعجاب الحضور ، و فعلا لا أشعر بأي ارتباك أو حرج بل بالعكس أجد في نفسي الشجاعة و الجرأة ،
فتتوافد الأفكار و يستقيم التعبير ، فأشعر بأن المستمع يرتاح و يستمتع بما يقدم له ، و ما زلت أذكر مرة أنه عند نهاية إحدى الأمسيات الشعرية التي كنت قد نشطت فقراتها ، اتصل بي أحد الحاضرين و بعد أن أثنى على أسلوب التنشيط ، سألني سؤالا غريبا إذ قال كيف يستقيم لك ارتجال الكلام بلغة عربية سليمة ممتعة من غير تحضير أو إعداد قبلي ،
و كيف أنك تحفظ هذا الكم الهائل من الأشعار ، و العجيب أن لك سرعة البديهة إذ تتصرف بشكل عفوي و سريع فيما يعترضك من المواقف دون تردد أو تلعثم فتضفي عليها مسحة من المتعة و الإفادة ، و كثيرة هي الأنشطة التي تشارك معك فيها أحد الحضور أو بعضهم و كأنهم طرف في ذلك النشاط مما يزيح الملل و يزيد من الحماس و التشويق
و هو الأمر الذي تفردت به في التنشيط و لا يجاريك فيه أحد ، حتى أن البعض يعتقد أنك تلقيت تكوينا عالي المستوى في هذا المجال .
شكرته على نبل مشاعره و أجبته : أنا يا أخي و بكل تواضع أقوم بذلك رغبة مني ، خصوصا إذا رأيت أن النشاط هادف
و يعود بالفائدة ، أتواصل مع الحاضرين بقلبي و لا أجد حرجا في مخاطبة الناس ما دمت صادقا مع نفسي و لا أحمل لأحدهم غلا ، و لو صادف أن لمست من الحاضرين تقززا في طريقة مخاطبتهم لانسحبت و تركت المكان لمن له القبول عندهم .
ختاما أعود و أقول أن علاقتي بالميكروفون لها جذور أينعت بيني و بينه أزهار الألفة و المودة و وطدت بيننا صداقة متينة لازمتني سنين طويلة كان عربونها الوفاء
و الاعتراف من جهاز هو في حقيقته آلة جامدة لا روح فيه
و لكنني في قرارة نفسي أشعر بأنفاسه و كأنه كائن حي .
فأنا و إن كنت قد فارقت الأحباب و الصحاب ، و انتقلت بعيدا عنهم فقد انتقل معي صديقان وفيان لم يطيقا فراقي هما القلم و الميكروفون ، يتناوبان على مجالستي و مؤانستي و إن كان القلم حاليا هو من يلازمني دوما أما الميكروفون فمنذ انتقالي لم يعد يزور إلا غبا و له العذر الكامل إذ تغيرت الأمكنة و الأشخاص و الظروف ، و مهما يكن فالعلاقة قائمة متينة لا تتزحزح نحيي أواصرها معا متى سمحت الظروف
و تهيأت الأسباب .
✏ عاشقكما الوفي زايد وهنا 🎤