🕋 الثراء الحقيقي 🕋
◾ سبب النزول ◾
هذه الأقصوصة مستوحاة من لقطة واقعية عاينتها عندما كنت في زيارة ترفيهية لإحدى القرى الصغيرة ، و بينما أنا أجوب دروبها و أزقتها ، نادى المؤذن لصلاة العصر ، توجهت صوب المسجد لأداء الصلاة ، و في طريقي رأيت طفلة متحجبة ذات حسن و جمال تمشي على استحياء و هي تمسك بيد والدها الضرير لتدله على الطريق نحو المسجد
و رغم صغر سنها الذي قد لا يتجاوز الإثنى عشر تظهر عليها سمة الحشمة و الوقار ، أعجبت بها و بتصرفها هذا الذي ينم عن حسن خلقها ، و عند عودتي إلى المنزل عاودني ذلك المنظر ، فأطلقت العنان لخيالي و قمت ساعتها أكتب تتمة القصة من خيالي و أنا أتمنى في قرارة نفسي أن يكون مستقبل هذه الطفلة كما تخيلته و أتخيله .
🔽 التتمة كما تخيلتها 🔽
في إحدى القرى النائية ، و في بيت صغير ملتصق بمسجد القرية يسكن رجل مسن كفيف البصر هو إمام هذا المسجد و خطيبه .
اسمه عبد الله و لكن الجميع يناديه بالفقيه ، كما ينادون على زوجته زينب بامرأة الفقيه ، و على ابنته صفية بابنة الفقيه ، و رغم طول مدة زواجه بزينب إلا أنهما لم يرزقا إلا بهذه البنت الوحيدة .الكل في هذه القرية يحترم الفقيه و أسرته ، و لا يبخلون عليه بشيء مما تجود به الأرض من حنطة
و خضر و فاكهة ، لأنهم يعلمون أن ما يتقاضاه كأجر مقابل الإمامة هزيل جدا لا يكاد يسد ضروريات العيش كما أن إعاقته تمنعه من مزاولة مهام أخرى اللهم ما كان من الإعانة التي يقدمها له أهالي القرية لتعليم أبنائهم في كتاب المسجد ما دامت القرية لا تتوفر على روض للأطفال كتعليم أولي قبل الالتحاق بالمدرسة .
كان الفقيه يصطحب ابنته معه إلى الكتاب صباحا و رغم صغر سنها فقد أبانت عن ذكاء و نباهة قل نظيرهما بين أقرانها ، و فوق هذا و ذاك كانت تتحلى بمكارم الأخلاق
و حسن السلوك و لعل ذلك راجع لتربية والديها لها ، إذ نشأت في بيئة محافظة ، و كيف لا و هي ابنة الفقيه الذي ينصح
و يرشد و يستشار في كل ما يهم أمور الجماعة .
و نظرا لفطنتها حفظت ثلث القرآن ، و أتقنت بعض أبجديات اللغة العربية ، مما جعلها تتفوق على زملائها عند التحاقها بالمدرسة ، حتى صار الأهالي يضربون بها المثل في حسن السلوك و الانضباط و الحرص في تحصيل العلم و المعرفة .
طوت سنوات الابتدائي الست بتفوق ملفت و حصلت على شهادة الدروس الابتدائية ، و لكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفينتها ، إذ فصلها والدها عن الدراسة لأن القرية تفتقر لإعدادية ، و متابعة الدراسة تلزم الأهالي على إرسال أبنائهم إلى المدينة التي تبعد عنهم بحوالي مائتي كيلومتر ، و هو الأمر الذي استعصى على الأب تحقيقه لها لاعتبارات كثيرة ، يأتي في مقدمتها خوف الوالدين على ابنتهما إذ ليس لهما غيرها ، و هي من يملأ عليهما البيت أنسا ، إضافة إلى ضيق اليد و إعاقة الأب سيما و أن صفية هي دليله الذي يأخذ بيده متى أراد أن يذهب بعيدا في زقاقات القرية ، و هكذا تقبلت صفية أمر انقطاعها عن الدراسة بصدر رحب دون تضجر
و صنعت لنفسها عملا إذ تولت نيابة عن والدها تعليم الصغار في كتاب المسجد و نظرا لما حققته من مردودية ، لقي الكتاب إقبالا منقطع النظير إذ اكتظ بالأطفال ، و لم تكتف بذلك بل غدت تقدم دروسا إضافية في الدعم للمتمدرسين ، و هذا ما خفف العبء عن والدها و أكسبها سمعة طيبة ناهيك عن الأجر المقبول الذي أصبحت تتقاضاه عن عملها هذا .
استمرت الحياة على هذا المنوال ، و صفية تكبر و تزداد حسنا و جمالا و لم يغير ذلك من سلوكها شيئا فهي البنت العفيفة الطيبة التي استمالت قلوب الناس بشمائلها .
و كان في القرية تاجر ثري كلما ازداد له ولد إلا و اختطفته يد المنون قبل أن يبلغ الفطام و لم تكتب الحياة إلا لرابعهم
و هو الوحيد الذي قضت مشيئة الله أن يعمر و يعيش في كنف والديه ، عيشة الرفه و الدلال طبعا ، و قد سماه أبوه محمود حمدا لله على ما وهب .
و من شدة خوف التاجر و زوجته على ابنهما الوحيد محمود ، كانا شديدي الحرص عليه ، مما سبب في انقطاعه هو أيضا عن الدراسة حتى لا يكون بعيدا عن أعينهما ، و بذلك تفرغ للعمل إلى جانب والده في المتجر .
و رغم أن محمود ينتمي إلى أسرة ثرية إلا أنه كان على جانب من حسن الخلق ، و ما أن بلغ سن العشرين حتى قرر والده أن يزوجه صفية قبل أن يظفر بها غيره ، و هو ما تم الاتفاق عليه بين الأسرتين .
تمت الخطوبة بمنزل الفقيه المتواضع ، و تم حسم موعد عقد القران و موعد حفل الزفاف ، و طلب والد محمود من والد صفية أن يحدد مهرا لابنته و لكن الفقيه أجاب بكلام فيه من الحكمة الكثير إذ قال :
" يابني أنا أزوجك ابنتي و لا أبيعك إياها ، ادفع لها من المهر اليسير الذي لا يثقل عليك ، غير أن لي شرط واحد أود أن أشترطه عليك ، فاقبله مني " .
تدخل والد محمود و قال :
" اشترط ما تريد ستجدنا إن شاء الله عند حسن ظنك " .
قال الفقيه :
" شرطي يا سيدي ألا يعيرها زوجها بالفقر مهما وقع ، لأن صفية لها ثروة كبيرة لا تملكها إلا قلة قليلة من الشابات ،
و سينالكم من ثروتها النصيب الأوفر ، و ما تبقى سيكون من نصيب أبنائها من زوجها محمود مستقبلا " .
أجاب والد محمود على الفور :
" كلنا فقراء و الله هو الغني الحميد ، لن يكون إلا ما يرضيها
و يرضيكم " .
انفض الجمع بعدما تم الاتفاق على كل شيء ، و بعد شهرين تم الزفاف و التحقت صفية ببيت الزوجية .
باختصار تولت صفية أمور بيتها بنفس السلوك الحسن
و العشرة الطيبة ، و سادت الرحمة و المودة بين الزوجين ، كلاهما يبذل جهده في إسعاد الآخر ، و قد رزقهما الله ولدا
و بنتا ، سهرت صفية على تربيتهما تربية اسلامية فاضلة ، أثلجت قلوب الأسرتين .
مرت السنوات على هذا النهج السعيد ، و في أحد الأيام مرض الفقيه مرضا شديدا ، فكانت أسرة محمود تعوده في كل يوم لتطمئن على حالته الصحية ، و في إحدى الزيارات سأل محمود صهره الفقيه و هو يمازحه مزاحا محترما ليخفف عنه وطأة المرض قائلا :
" أتذكر يا سيدي شرطك الذي اشترطته علي أثناء الخطوبة ، و قلت حينها أن زوجتي صفية تملك ثروة كبيرة لا يملكها غيرها ، فكيف ذلك ؟ " .
طلب الفقيه من صهره و صفية أن يقتعدوه قليلا و قال :
" لقد حان الوقت لأخبرك عن ثروتها ، و لكن قبل ذلك أود أن أسألك ، هل أنت و والداك سعداء مع صفية ؟ " .
أجاب محمود فورا :
" كلنا نشعر معها بسعادة غامرة ، يعجز اللسان عن وصفها " . تبسم الفقيه رغم الألم و قال :
" يا بني هناك الكثيرون ممن يرغبون في مثل سعادتكم و لم يجدوها ، و لو كانت تشترى بالأموال الطائلة لاشتروها ، أليس هذا ثراء جلبته لكم صفية ؟ " .
أعجب محمود بكلام صهره و أومأ برأسه موافقا . حينها أردف الفقيه قائلا :
" ألا ترى أن صلاح أبنائكما يغار منه الكثيرون و يودون لو يبتاعونه بما ملكت أيديهم في سبيل أن يكون لهم أبناء صالحين مثل أبنائكما ؟ أليست هذه ثروة كذلك يفتقدها الكثير و تملكها صفية ؟ " .
أجاب محمود :
" بلى سيدي نحمد الله و نشكره أن حبانا بهذه الزوجة الصالحة ، الآن قد فهمت قيمة الثراء الذي تملكه زوجتي صفية و الذي نالنا منه الكثير ، شافاك الله و عافاك و أطال عمرك ، فالشكر بعد الله لكما أنت و أمها ، ألستما من لقنها التربية الحسنة و سهرتما على تنشئتها على التقوى
و مكارم الأخلاق ؟ ، اطمئن صهري الفاضل فقد تركتما بنتا صالحة تدعو لكما ، و هو ما يتمناه كل أب و أم من هذه الدنيا الفانية " .
بعد أسبوع من هذه الزيارة ، أسلم الفقيه عبد الله الروح إلى بارئها ، و انتقلت زينب للعيش ببيت ابنتها صفية بإلحاح
و إصرار من محمود و أسرته .
✏ بقلم زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق