##### الحنين لم يعد كما كان #####
**ديباجة ** :
كثيرا ما أختلي بنفسي و أتذكر لحظات من طفولتي ، فيهزني الشوق و الحنين لذلك الزمن الجميل ، و في إحدى هذه النوبات التذكارية قررت أن أكتب و لو باختصار شديد بعضا من تلك الذكريات الجميلة ، و أشارك نشوتها و متعتها إخوتي القراء المتتبعين و المطالعين لإنتاجاتي الأدبية ، و أنا على يقين تام أن شريحة كبيرة ممن عاصروا تلك الحقبة سيشاطرونني نفس الشعور ، و قد تعمدت أن أحتفظ بالأسماء كما كانت متداولة باللسان العامي ، ليكون السرد أكثر دقة و قربا من نفسية القارئ خصوصا إذا كان هذا الأخير من أبناء بني وزيم .
بني وزيم قرية صغيرة في الجنوب الشرقي ، على ضفة واد كير ، تتكون من ثلاث قرى صغيرة جدا نسميها القصور ، ( قصر بني وزيم ) (قصر جديد ) ( قصر آيت عشى ) ، لا تبعد إلا بحوالي خمسة أميال عن مدينة بوذنيب شرقا ، إقليم الرشيدية .
****************
أنتظر العطلة في شوق و لهفة لأذهب إلى
بني وزيم ، كانت أسعد الأوقات بالنسبة إلى طفل في مثل سني هي تلك التي أقضيها بقصر آيت عشى ، أجوب الزقاقات ألاعب الأقران الذين كانوا بدورهم يترقبون مجيئي ، نستيقظ باكرا ننتظر النداء المألوف " و طيحوا " إيذانا من شيخ المزرعة بالتقاط البلح ، فنتسابق نحو النخيل المعروف بجودة بلحه و وفرة عطائه ، نملأ القفة أو السطل بلحا و " ركما " ثم نعود أدراجنا غانمين مسرورين بلقاء أهالينا و نحن نعتد و نزهو فخرا بما جلبناه كما و نوعا ، و في عزم و رغبة منا في المساعدة ، نخرج الغنم إلى المكان المعتاد خلف أسوار القصر حيث يجمع الراعي القطيع لينطلق به نحو المرعى ، حينها نعود إلى البيوت لنتناول فطور الصباح و الذي غالبا ما يكون حساء و تمرا و شايا و خبزا .
يلتقي الأقران بباب القصر حيث يقرر نوع اللعب الذي تفضله الأغلبية ، و كثيرا ما يتم الإتفاق على الذهاب نحو الحقول و البساتين التي يعلم الأقران مسبقا أن أصحابها غائبون أو منشغلون بأعمال الصيانة في القصر ، لسرقة بعض الفواكه دون أن يشعر بهم شيخ المزرعة ، و إذا صادف أن رأى الشيخ أحدهم فلا ينبغي الوشاية بالآخرين كما هو متفق عليه سلفا ، يختلي الأقران في أماكن بعيدة لتناول ما جلبوه من البساتين ، ثم يعودون إلى القصر بهدوء متفرقين و من طرق مختلفة حتى لا يلفتوا انتباه الكبار الجالسين بباب القصر ( فم القصر ) ، أو يثيرون شكوكهم ، بل منهم من يقترب من الكبار و يبدي أدبا و رغبة في الاستماع إلى أحاديثهم الشيقة ، في انتظار موعد وجبة الغذاء الذي يكون متأخرا على عادة أهل القرى .
فإذا ما حان وقت الغذاء ، ينفض الجمع ، و يسلك كل وجهته في الزقاق الذي يقطنه و روائح الأكل الشهية تنبعث من بيوت الجيران ، خبز بخميرة "بلدية " يطهى في فرن الحطب " الكوشة " و مرق مكون من خضروات طازجة طرية ، جلبت من حقول القرية و لحم الأرنب أو الدجاج " البلدي" و هو يطهى على النار في قدر من الخزف " القنوشة " مما يزيده لذة لا مثيل لها ، ولعله السر الذي يجعلني أقبل على الأكل في نهم شديد .
يجتمع الأقران مرة أخرى بباب القصر ، فيطلقون العنان للعب و المرح تحت أعشاش النخيل المحادية للقصر ، و أعينهم على الغروب في انتظار الراعي لإدخال الماشية إلى حظائرها ، و هو آخر أنشطتهم اليومية ، تجتمع الأسر ليلا في بيوتها لتناقش عمل غذها ، أما العشاء فكسكس أو" البلبول "الذي كثيرا ما كان يفوتني لأنني أنام مبكرا من شدة التعب و العياء .
فرحة لا توصف عند حلول عطلة الزيتون ، أواخر شهر دجنبر حيث البرد والصقيع في قمة أوجه ، و رغم شدة القر أشعر بسعادة غامرة و أنا أتسلق أشجار الزيتون لجني المحصول ، فلا ترى في الحقول غير النيران المتقدة بأوراق الزيتون " الطهطوه " و الدخان ينبعث من كل مكان ، دفء النار هو السبيل الوحيد لمقاومة البرد القارس ، و إعداد الطعام على النار هو مبعث البهجة في الحقول ، و لعل أسعد الأوقات هي عند جمع المحصول و وضعه في أكياس على ظهر الحمار و الذهاب به نحو المعصرة التقليدية ، فهو الأمر الذي أرغب فيه ، لا لشيء و إنما لأعود من المعصرة راكبا الحمار ، و يا لها من سعادة حين ألكزه بالشوكة فيركض ركضا سريعا ، فتخالني أحد رعاة البقر ، أسابق أقراني و أسخر ممن سقط منهم عن ظهر حماره ، أكرر عملية التوصيل مرتين أو ثلاث حسب كمية المحصول المجنى في ذلك اليوم ، ثم نجمع أغراضنا و نتوجه نحو البيت و قد أخذ منا العياء مأخذه ، نتناول العشاء و ننام قرب الموقد " الكانون " و هكذا دواليك طيلة أيام الجني .
فإذا انتهت أيام الجني ، يجتمع الجيران بعد العشاء في بيت أحدهم و يتحلقون حول الموقد قصد التدفئة و سرد الحكايات المضحكة و الأحاجي المرعبة ، و كم كنت أعجب بالأحاجي و أحفظها لأقصها على زملائي .
ما أن تقترب نهاية السنة حتى يبدأ العد العكسي لعطلة الصيف ، فتجدني أفتخر على زملائي بسفري لآيت عشى التي لا تبعد إلا بثمانية كيلومترات ، كان ذلك هو الأمل الكبير و الحلم المرتقب خصوصا إذا كانت نتيجتي الدراسية إيجابية ، فالفرحة آنذاك فرحتان ، مما يجعلني أتباهى على مجموعة الأقران بالقصر .
في فصل الصيف تكون الحرارة مرتفعة ، غير أن مباني القصر الطينية و سمك حيطانها و ارتفاع سقوفها و عتمة زقاقاتها تلطف الحرارة ، مما يجعل القصر قبلة مرغوبة لكثير من أبنائه الذين يقطنون مناطق أخرى ، فيجمعون بين صلة الرحم و الاسترخاء ، وقد يكون حفل زفاف أحد أقاربهم سببا في مجيئهم ، لذلك يغص القصر بساكنيه و زائريه ، فيكتسي حلة تختلف عن سائر الفصول .
مجموعة الأقران و معهم بعض أبناء الزائرين الجدد تنتظرني ، نفس الأنشطة مع بعض الاختلافات التي يفرضها الفصل الحار ، نخرج الماشية إلى الراعي صباحا ، ثم ننطلق نحو الحقول لنعيث فيها فسادا ، بعد الظهر نتسابق نحو الواد المجاور قصد السباحة في " الكلتة " و لا نعود إلا عند الغروب لندخل الماشية ، و هكذا تمر الأيام حتى يحين دراس الزرع بالدواب في البيادر و هو فرصتنا المنتظرة ، إذ بعد الدراس يمتطي كل منا حمارا و نذهب بالحمير العطشى نحو الساقية لتروي ظمأها في مكان مخصص لذلك يطلق عليه " أوخميج " و خلال الطريق يتسابق الأقران و يتباهى كل منهم بحماره ، في جو من المرح و السعادة التي لا تضاهيها سعادة.
جرت العادة أن حفلات الزفاف أي الأعراس تقام مباشرة بعد تخزين محصول القمح في البيوت ،
تبدأ الإستعدادات للزفاف على قدم و ساق ، يجتمع الأهل و الأقارب و الجيران في بيت العروسين ، بعدما جلبوا معهم بعض الأفرشة و الأواني ، و كل ما يحتاجه أهل العروسين .
النساء يتحلقن حول الرحى الحجرية ، يتناوبن على طحن الحبوب و هن يرددن بعض الأذكار و أخريات ينتقين ملابس العروسة ، أما الرجال فهم منشغلون بوضع الترتيبات اللازمة للحفل ، و يكلفون كل فرد منهم بمهمة ، يقبلها هو بدوره متباهيا مزهوا بحضوته ومكانته بين أهالي القرية ، يمر الحفل بطرق تقليدية جميلة ، تقام الولائم المتواضعة اللذيذة يحضرها أهل القصر جميعا دون استثناء و يزف العروسين بأهازيج شعبية محلية لها ما لها من معاني الصدق و الوفاء و التضحية و التآزر .
هنا يقتصر دورنا نحن الصغار على الفرجة و القليل من المساعدة ، إذ رغم ما كنا نعمل من شغب بعيدا عن أعين الكبار ، فأمامهم لا يسعنا إلا الانضباط و الهدوء و إلا عرضنا أنفسنا للعقاب من طرفهم ، فكل كبير في القصر هو بمثابة أب له كامل الصلاحية في معاقبة أي طفل أساء التصرف .
هكذا قضينا طفولتنا ، لا نعرف عن العالم الخارجي شيئا مما نعرفه الآن ، كنا نسمع أسماء بعض المدن كالرباط و فاس و مراكش و وجدة و غيرها و لكنها لم تستأثر بقلوبنا شيئا ، كنا نسمع البحر و لا تنتابنا الغيرة لرؤيته .
ما كان في حياتنا شيء يكدر صفو أحلامنا البسيطة ، ما كنا نعرف فلسطين وما كان يؤلمنا احتلالها ، ما كنا نعلم شيئا عن مآسي وطننا ، ما كنا نعلم شيئا عن الديمقراطية و لا عن حقوق الإنسان و لا عن الفوارق الطبقية ، كنا نظن أن الناس في كل مكان يشبهوننا في المسكن و الملبس و المطعم ، كنا لا نعلم و لا نعرف شيئا مما نعلم اليوم و كنا سعداء في غاية السعادة ، فلما كبرنا و تعلمنا و عرفنا افتقدنا السعادة و استبدلناها بالهم و الغم و الكآبة ، حتى أصبحنا نفضل الأمس بشظف عيشه على اليوم برغد عيشه .
عجبا أإلى هذا الحد تكمن السعادة في البساطة ؟ فيا ليتها تعود يوما !!!
شطحات من طفولة الكاتب الأستاذ
زايد وهنا
**ديباجة ** :
كثيرا ما أختلي بنفسي و أتذكر لحظات من طفولتي ، فيهزني الشوق و الحنين لذلك الزمن الجميل ، و في إحدى هذه النوبات التذكارية قررت أن أكتب و لو باختصار شديد بعضا من تلك الذكريات الجميلة ، و أشارك نشوتها و متعتها إخوتي القراء المتتبعين و المطالعين لإنتاجاتي الأدبية ، و أنا على يقين تام أن شريحة كبيرة ممن عاصروا تلك الحقبة سيشاطرونني نفس الشعور ، و قد تعمدت أن أحتفظ بالأسماء كما كانت متداولة باللسان العامي ، ليكون السرد أكثر دقة و قربا من نفسية القارئ خصوصا إذا كان هذا الأخير من أبناء بني وزيم .
بني وزيم قرية صغيرة في الجنوب الشرقي ، على ضفة واد كير ، تتكون من ثلاث قرى صغيرة جدا نسميها القصور ، ( قصر بني وزيم ) (قصر جديد ) ( قصر آيت عشى ) ، لا تبعد إلا بحوالي خمسة أميال عن مدينة بوذنيب شرقا ، إقليم الرشيدية .
****************
أنتظر العطلة في شوق و لهفة لأذهب إلى
بني وزيم ، كانت أسعد الأوقات بالنسبة إلى طفل في مثل سني هي تلك التي أقضيها بقصر آيت عشى ، أجوب الزقاقات ألاعب الأقران الذين كانوا بدورهم يترقبون مجيئي ، نستيقظ باكرا ننتظر النداء المألوف " و طيحوا " إيذانا من شيخ المزرعة بالتقاط البلح ، فنتسابق نحو النخيل المعروف بجودة بلحه و وفرة عطائه ، نملأ القفة أو السطل بلحا و " ركما " ثم نعود أدراجنا غانمين مسرورين بلقاء أهالينا و نحن نعتد و نزهو فخرا بما جلبناه كما و نوعا ، و في عزم و رغبة منا في المساعدة ، نخرج الغنم إلى المكان المعتاد خلف أسوار القصر حيث يجمع الراعي القطيع لينطلق به نحو المرعى ، حينها نعود إلى البيوت لنتناول فطور الصباح و الذي غالبا ما يكون حساء و تمرا و شايا و خبزا .
يلتقي الأقران بباب القصر حيث يقرر نوع اللعب الذي تفضله الأغلبية ، و كثيرا ما يتم الإتفاق على الذهاب نحو الحقول و البساتين التي يعلم الأقران مسبقا أن أصحابها غائبون أو منشغلون بأعمال الصيانة في القصر ، لسرقة بعض الفواكه دون أن يشعر بهم شيخ المزرعة ، و إذا صادف أن رأى الشيخ أحدهم فلا ينبغي الوشاية بالآخرين كما هو متفق عليه سلفا ، يختلي الأقران في أماكن بعيدة لتناول ما جلبوه من البساتين ، ثم يعودون إلى القصر بهدوء متفرقين و من طرق مختلفة حتى لا يلفتوا انتباه الكبار الجالسين بباب القصر ( فم القصر ) ، أو يثيرون شكوكهم ، بل منهم من يقترب من الكبار و يبدي أدبا و رغبة في الاستماع إلى أحاديثهم الشيقة ، في انتظار موعد وجبة الغذاء الذي يكون متأخرا على عادة أهل القرى .
فإذا ما حان وقت الغذاء ، ينفض الجمع ، و يسلك كل وجهته في الزقاق الذي يقطنه و روائح الأكل الشهية تنبعث من بيوت الجيران ، خبز بخميرة "بلدية " يطهى في فرن الحطب " الكوشة " و مرق مكون من خضروات طازجة طرية ، جلبت من حقول القرية و لحم الأرنب أو الدجاج " البلدي" و هو يطهى على النار في قدر من الخزف " القنوشة " مما يزيده لذة لا مثيل لها ، ولعله السر الذي يجعلني أقبل على الأكل في نهم شديد .
يجتمع الأقران مرة أخرى بباب القصر ، فيطلقون العنان للعب و المرح تحت أعشاش النخيل المحادية للقصر ، و أعينهم على الغروب في انتظار الراعي لإدخال الماشية إلى حظائرها ، و هو آخر أنشطتهم اليومية ، تجتمع الأسر ليلا في بيوتها لتناقش عمل غذها ، أما العشاء فكسكس أو" البلبول "الذي كثيرا ما كان يفوتني لأنني أنام مبكرا من شدة التعب و العياء .
فرحة لا توصف عند حلول عطلة الزيتون ، أواخر شهر دجنبر حيث البرد والصقيع في قمة أوجه ، و رغم شدة القر أشعر بسعادة غامرة و أنا أتسلق أشجار الزيتون لجني المحصول ، فلا ترى في الحقول غير النيران المتقدة بأوراق الزيتون " الطهطوه " و الدخان ينبعث من كل مكان ، دفء النار هو السبيل الوحيد لمقاومة البرد القارس ، و إعداد الطعام على النار هو مبعث البهجة في الحقول ، و لعل أسعد الأوقات هي عند جمع المحصول و وضعه في أكياس على ظهر الحمار و الذهاب به نحو المعصرة التقليدية ، فهو الأمر الذي أرغب فيه ، لا لشيء و إنما لأعود من المعصرة راكبا الحمار ، و يا لها من سعادة حين ألكزه بالشوكة فيركض ركضا سريعا ، فتخالني أحد رعاة البقر ، أسابق أقراني و أسخر ممن سقط منهم عن ظهر حماره ، أكرر عملية التوصيل مرتين أو ثلاث حسب كمية المحصول المجنى في ذلك اليوم ، ثم نجمع أغراضنا و نتوجه نحو البيت و قد أخذ منا العياء مأخذه ، نتناول العشاء و ننام قرب الموقد " الكانون " و هكذا دواليك طيلة أيام الجني .
فإذا انتهت أيام الجني ، يجتمع الجيران بعد العشاء في بيت أحدهم و يتحلقون حول الموقد قصد التدفئة و سرد الحكايات المضحكة و الأحاجي المرعبة ، و كم كنت أعجب بالأحاجي و أحفظها لأقصها على زملائي .
ما أن تقترب نهاية السنة حتى يبدأ العد العكسي لعطلة الصيف ، فتجدني أفتخر على زملائي بسفري لآيت عشى التي لا تبعد إلا بثمانية كيلومترات ، كان ذلك هو الأمل الكبير و الحلم المرتقب خصوصا إذا كانت نتيجتي الدراسية إيجابية ، فالفرحة آنذاك فرحتان ، مما يجعلني أتباهى على مجموعة الأقران بالقصر .
في فصل الصيف تكون الحرارة مرتفعة ، غير أن مباني القصر الطينية و سمك حيطانها و ارتفاع سقوفها و عتمة زقاقاتها تلطف الحرارة ، مما يجعل القصر قبلة مرغوبة لكثير من أبنائه الذين يقطنون مناطق أخرى ، فيجمعون بين صلة الرحم و الاسترخاء ، وقد يكون حفل زفاف أحد أقاربهم سببا في مجيئهم ، لذلك يغص القصر بساكنيه و زائريه ، فيكتسي حلة تختلف عن سائر الفصول .
مجموعة الأقران و معهم بعض أبناء الزائرين الجدد تنتظرني ، نفس الأنشطة مع بعض الاختلافات التي يفرضها الفصل الحار ، نخرج الماشية إلى الراعي صباحا ، ثم ننطلق نحو الحقول لنعيث فيها فسادا ، بعد الظهر نتسابق نحو الواد المجاور قصد السباحة في " الكلتة " و لا نعود إلا عند الغروب لندخل الماشية ، و هكذا تمر الأيام حتى يحين دراس الزرع بالدواب في البيادر و هو فرصتنا المنتظرة ، إذ بعد الدراس يمتطي كل منا حمارا و نذهب بالحمير العطشى نحو الساقية لتروي ظمأها في مكان مخصص لذلك يطلق عليه " أوخميج " و خلال الطريق يتسابق الأقران و يتباهى كل منهم بحماره ، في جو من المرح و السعادة التي لا تضاهيها سعادة.
جرت العادة أن حفلات الزفاف أي الأعراس تقام مباشرة بعد تخزين محصول القمح في البيوت ،
تبدأ الإستعدادات للزفاف على قدم و ساق ، يجتمع الأهل و الأقارب و الجيران في بيت العروسين ، بعدما جلبوا معهم بعض الأفرشة و الأواني ، و كل ما يحتاجه أهل العروسين .
النساء يتحلقن حول الرحى الحجرية ، يتناوبن على طحن الحبوب و هن يرددن بعض الأذكار و أخريات ينتقين ملابس العروسة ، أما الرجال فهم منشغلون بوضع الترتيبات اللازمة للحفل ، و يكلفون كل فرد منهم بمهمة ، يقبلها هو بدوره متباهيا مزهوا بحضوته ومكانته بين أهالي القرية ، يمر الحفل بطرق تقليدية جميلة ، تقام الولائم المتواضعة اللذيذة يحضرها أهل القصر جميعا دون استثناء و يزف العروسين بأهازيج شعبية محلية لها ما لها من معاني الصدق و الوفاء و التضحية و التآزر .
هنا يقتصر دورنا نحن الصغار على الفرجة و القليل من المساعدة ، إذ رغم ما كنا نعمل من شغب بعيدا عن أعين الكبار ، فأمامهم لا يسعنا إلا الانضباط و الهدوء و إلا عرضنا أنفسنا للعقاب من طرفهم ، فكل كبير في القصر هو بمثابة أب له كامل الصلاحية في معاقبة أي طفل أساء التصرف .
هكذا قضينا طفولتنا ، لا نعرف عن العالم الخارجي شيئا مما نعرفه الآن ، كنا نسمع أسماء بعض المدن كالرباط و فاس و مراكش و وجدة و غيرها و لكنها لم تستأثر بقلوبنا شيئا ، كنا نسمع البحر و لا تنتابنا الغيرة لرؤيته .
ما كان في حياتنا شيء يكدر صفو أحلامنا البسيطة ، ما كنا نعرف فلسطين وما كان يؤلمنا احتلالها ، ما كنا نعلم شيئا عن مآسي وطننا ، ما كنا نعلم شيئا عن الديمقراطية و لا عن حقوق الإنسان و لا عن الفوارق الطبقية ، كنا نظن أن الناس في كل مكان يشبهوننا في المسكن و الملبس و المطعم ، كنا لا نعلم و لا نعرف شيئا مما نعلم اليوم و كنا سعداء في غاية السعادة ، فلما كبرنا و تعلمنا و عرفنا افتقدنا السعادة و استبدلناها بالهم و الغم و الكآبة ، حتى أصبحنا نفضل الأمس بشظف عيشه على اليوم برغد عيشه .
عجبا أإلى هذا الحد تكمن السعادة في البساطة ؟ فيا ليتها تعود يوما !!!
شطحات من طفولة الكاتب الأستاذ
زايد وهنا
جوابي
ردحذفأبدعت السرد حقا ورغم أنني لم أعاصر حقبتك إلا أنني ربما أشابه
بعضا من أحداث طفولتكم بطفولتي في قرية كراندو .
أثناء قرائتي لمقالتك المنمقة أبيت إلا ان ابتسم وأن تغمرني السعادة
سأسميها اسطرا فضية لا لشيئ إلا احتراما لأجيال سبقتنا وسبقتكم سيدي
وكانت فخرا لأمة محمد .
قبل ان أنهي تعليقي هذا احببت أن أعرج عن فكرة لم أحببها كثيرا
لذا لن أمررها مرور الكرام وأتمنى أن تصحح لي فهمي المتواضع إن
أخطأته
مما لا يختلف عليه اثنان أن البساطة سر سعادة ابن آدم والسعادة أيضا
ألا يشدنا الحنين لتذوق راحة الجاهلين والسعادة أن نعلم يقينا أننا كمسلمين
لنا واجب الحسرة على حال إخوتنا والدعاء لهم كأضعف الإيمان في كل مكان
يظطهد فيه انسان وبالأخص إنسان مسلم والأوجب أن نحاول نصرتهم لو
وجدنا للأمر ي
سبيلا وأتمنى وأتمنى لك سيدي أن لا تفضل الأمس لو أتيحت لك الفرصة ثانية
فاليوم وليد الأمس والذي نراه يكتسي ثوبه الرمادي وربما يراه آخرون أسود .