⚫المثقف و فقه الواقع⚫

***  المثقف و فقه الواقع  ***

كثيرا ما يتساءل المرء عن دور المثقفين من علماء الدين و كتاب و شعراء و فنانين فيما يجري من أحداث في مجتمعهم ، فهؤلاء هم لسان الشعب يترجمون أدق مشاعره و إحساسه ، و يعبرون تعبيرا صادقا عن آماله و آلامه ، فهم بمثابة العينين من الجسد ، بأعمالهم و إنتاجاتهم ينيرون الطريق أمام الناس و يبصرونهم بعيوب الواقع و مزاياه ، يباركون الصواب و يقومون الاعوجاج و ينبهون إلى الهفوات و يتبرؤون من وقوعها ، كل هذا من خلال خطبهم و مقالاتهم و أشعارهم و مسرحياتهم و أغانيهم ...الخ ، رحم الله عمر بن الخطاب و رضي عنه إذ خاطب الناس يوما قائلا :
  "إذا رأيتم في اعوجاجا فقوموه "
فقال له رجل :
  " و الله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا "
فلامه آخر على جرأته أمام عمر ، فما كان من عمر إلا أن رد على هذا المعترض قائلا :
  " دعه فليقلها ، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا و لا خير فينا إذا لم نقبلها منكم "
فالإنتاجات الفكرية الهادفة هي رسالة انسانية نبيلة ، لا يقوم بها إلا الوطنيون الغيورون الذين يطمحون أن يروا مجتمعهم تسوده المساواة و العدل و الحرية ، و لا يطمئنون في مضاجعهم إلا إذا سادت المحبة و العيش الكريم و الإخاء بين أفراده ، فلا يرضون أن يكون بيننا جائع و لا عار و لا مظلوم و لا مغبون ، هكذا هم المثقفون الحقيقيون ، فأين هذا الصنف من المثقفين في مجتمعنا اليوم ، لا أحد يحرك ساكنا فيما يروج ، اللهم بعض الإنتاجات المحتشمة التي تطل علينا من حين لآخر أما ما عدا هذه القلة القليلة فالكل منشغل بليلاه و الكل يهيم في واد بعيد كل البعد عن مآسي الواقع .
الإنتاج الفكري غالبا بل دائما ما يكون وليد الظروف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية التي يشهدها المجتمع و هذا ما يصطلح عليه بفقه الواقع إن صح التعبير ، و نعني بالذكر المثقف الذي يكرس حياته و يشحذ قلمه في خدمة العلم و المعرفة و السير على المباديء التي ترضي الله و ترضي الضمير و تسير بالبلاد نحو الأفضل ، لا أشباه المثقفين الذين يسعون لملء البطون ، و بلوغ المناصب بالتملق و التزدلف  فهؤلاء ليس بينهم و بين الثقافة إلا الاسم ، شعارهم الانتهازية و تحقيق الثراء ، و تجردوا من كل معاني الانسانية فأكسبهم طمعهم ثراء و لم يكسبهم ثقافة و وعيا ، و هذا الصنف ليس هو المقصود في المقال مادامت الهوة سحيقة بينه و بين الثقافة ، و إنما المقصود هم ذوو الوعي التام بالواقع الذين يتأثرون و يؤثرون ، الذين يتفاعلون مع كل المستجدات و يحملون هم الوطن و المواطنين و يسعون  ليلا و نهارا  من خلال إنتاجاتهم الفكرية لتنبيه المسؤولين إلى كل أمر يخدم مصلحة البلاد و العباد  واقتراح الحلول الممكنة للرفع من شأن القطاعات ، هؤلاء هم المثقفون حقا غير أنهم للأسف قليلون .
  و لعل هذا ما دفع بالكثير من الناس إلى التخلي عن القراءة و المطالعة ، إذ لا يجدون مقالا يشفي غليلهم اتجاه الواقع و لا قصيدة تعزف لهم على أوتار أوجاعهم ، و هم في مثل ظروفهم و نفسياتهم المتكرهة الساخطة لا يستسيغون إلا الإنتاجات الفكرية التي تبلسم الجراح و تضمدها .
هذا لا يعني أن نتخلى كليا عن المواضيع التي ليس لها ارتباط بالواقع ،  أبدا فكل عمل أدبي أو فني فهو مستاق من الواقع ، و لا يعاب على صاحبه إن هو أجاد فيه و برع ، ولكن المرغوب فيه هو أن يلتفت إلى ما يؤرق الناس فيتناوله بطريقته الخاصة و يضفي عليه من مواهبه و إبداعه ما يجعله مقبولا عند الآخرين و من يدريك لعل بعمله ذاك يكون قد أوصل رسالة إلى المعنيين بأمرها فيأخذونها بعين الإعتبار و يكون عمله فاتحة خير على الناس جميعا ، و لا أدل على ذلك من بعض المواضيع التي يثيرها رواد الفيسبوك فتجد لها صدى في أوساط المسؤولين ، و هؤلاء أي رواد الفيسبوك أغلبهم ليسوا بكتاب و لا علماء و لا شعراء و لا فقهاء و رغم ذلك يحققون أحيانا ما لم يحققه الآخرون ، فما بالك لو اجتمعت كلمة المثقفين حول موضوع معين و تناوله كل منهم من زاوية اختصاصه ، فلا شك أنه سيجد آذانا صاغية لأنه لا يمكن أن يجتمع هؤلاء و أمثالهم على ضلالة.
  ختاما أرى من وجهة نظري و التي تحتمل الخطأ أو الصواب ، أن المثقف على عاتقه مسؤولية جسيمة اتجاه وطنه أولا  و اتجاه أمته العربية الإسلامية ثانيا ، فهو لسان حالها و الناطق باسمها و المترجم لأحاسيسها ، يغرد داخل سربها متى تطلب الأمر ذلك ، و ليس عليه من مؤاخذة أن هو غرد خارج السرب أحيانا ، فمن طبيعة الانسان أن يبدع في كل ما يجيش في وجدانه و يحرك مشاعره شريطة أن يتسم عمله بالإبداع الفني الصادق المتميز الهادف ، و وقانا الله و إياكم من بعض الأعمال الملوثة المحسوبة على الفن و الأدب التي طغت و استشرى داؤها في أوساطنا و التي لم تزد شبابنا إلا فسادا في أذواقهم وتخلفا و انحلالا في أخلاقهم ، و في هذه و غيرها يكمن دور المثقف المصلح ...!!!؟؟؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق