***🔵 خيرا فعلوا. 🔵***

###  خيرا فعلوا  ###
        الآن تأكدت بما لا يدع مجالا للشك أنني كنت مخطئا و مذنبا في حق بعض الأباء الذين كثيرا ما كنت ألومهم و أسخر منهم لا لشيء و إنما لعدم تركهم أبنائهم يتابعون دراستهم ، و كنت أعتبر إقدامهم على هذا الفعل جريمة نكراء في حق أبنائهم إذ يحرمونهم من أفضل نعمة ألا و هي العلم و الثقافة ، فهؤلاء الأباء يكتفون من أبنائهم بمستوى السادس ابتدائي و في أحسن الأحوال قد يصلون إلى مستوى التاسعة إعدادي و الى هذا الحد تنتهي مسيرتهم الدراسية لأنهم في نظر أبائهم قد حصلوا على القدر المطلوب و الحد الأدنى من القراءة و الكتابة و الحساب ، ليتفرغوا بعد ذلك الى مساعدة الأباء في نشاطات أخرى هي أكثر قيمة و أوفر ربحا في نظر الأباء كالتجارة أو مهن حرة مدرة للربح السريع .
       فهذا الابن المنقطع عن الدراسة يتعاطى للتجارة و سنه لم يتجاوز الخامسة عشر ، و بعدها بعشر سنوات تجده قد نمى تجارته و أرصدة مالية كبيرة يروجها ، فإذا به يمتلك منزلا فخما يسكنه فضلا عن مشاريع أخرى ،  هذا و هو لم يبلغ بعد الثلاثين ، في حين أن زميله الذي تابع دراسته لا يحصل على الإجازة إلا في سن الرابعة و العشرين هذا إن كان من النجباء المثابرين ، فتجده في هذا السن يبحث عن وظيفة متنقلا بين المدن لاجتياز مباريات التوظيف ، يقضي في ذلك ثلاث أو أربع سنوات ، فإن وافقه الحظ و حصل على وظيفة بالتعاقد طبعا سيقضي ما تبقى من عمره ينتظر آخر الشهر ليوزع راتبه الهزيل بين الكراء و المأكل و الملبس و التطبيب و الهاتف و الماء و الكهرباء و غيرها من متطلبات الحياة التي لا تنتهي ، و فوق هذا و ذاك  يخصص جزء منه يرسله كل شهر إلى أسرته التي تراهن عليه في عيشها ، و هكذا دواليك يقضي النصف الأخير من الشهر في الضنك و الهم و الغم و همه الوحيد هو انتظار تلك القطرة كفرخ في عش ، و كثيرا ما يدفعه ضيق اليد الى الاقتراض ، و الغريب في الأمر أنه بعلمه و شهاداته و ثقافته الواسعة يقف منكسر الجانب محطم القلب أمام ذلك الشاب التاجر الذي كان زميلا له في المدرسة و غادرها للتجارة ، ليقرضه مالا أو سلعة ، و هو في الحقيقة موقف مخجل تنحط فيه المعنويات حتى الحضيض و لا يعرف أثر هذا الموقف على النفس إلا من عايشه و عاينه.
        لهذا أقول أنه في وقتنا الراهن حيث الموظف في محنة و خصوصا رجل التعليم لأن هذا الأخير تشترط عليه شروط لا تخص الوظائف الأخرى كالقدوة في النظافة في الملبس في الحلاقة في كل شيء ،فهو يقوم بمهمة التدريس و الحراسة و التصحيح ، فتجتمع عليه الضغوطات من كل حدب و صوب .
       لهذه الأسباب و غيرها كثير لا يسعني إلا أن أعتذر من أولئك الأباء الذين كنت ألومهم ، فقد اتضح لي أنهم على حق حينما انتشلوا أبناءهم من الدراسة و وجهوهم نحو مهن حرة ذات دخل مريح ، فهم بذلك قد ربحوا سنوات عديدة قضاها زملاؤهم في طلب العلم وهم الآن لا يحملون هم الحياة و متطلباتها ، فما يكسبه الموظف في شهر كامل قد يكسبه أحدهم في يومين أو ثلاث .
       يتساءل الموظف ذو الشهادات ماذا حقق بعلمه و ثقافته غير النكد و النصب و التفكير في سد ثغرات الحياة و أنى لها أن تسد بذلك الراتب الهزيل ، هذا ناهيك إن لم يكن قد اضطر الى الاقتراض من الأبناك و هو ما يزيد الطين بلة .
         لو أنصف الموظف عموما و رجل التعليم خصوصا فيتقاضى راتبا مشرفا يكفيه لجميع مستلزمات الحياة بل و يبقى ما يذخره للأوقات العصيبة ، ليعيش مرفوع الرأس مبجلا بعلمه و ثقافته مقبلا على عمله بكل إخلاص و تفان من غير مشكل يكدر صفو حياته ، كما هو الشأن عند الشعوب التي تحترم و ترفع من مكانة علمائها و معلميها و تجعل لهم أجورا تغنيهم عن الاحتياج و لكن للأسف .
         إذن عذرا أيها الأباء لقد أسأت في حقكم حين أسأت الفهم ، فأنتم الأذكياء النبهاء و أنا المغفل المخدوع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق