😢 من باب الصدف 😢
كل صباح أدخل حجرة الدرس ، أسمي الله و أتفقد أحوال تلامذتي ثم أمسح تاريخ الأمس و أكتب تاريخ اليوم الوليد ، كان هذا دأبي في كل يوم مدة تزيد عن سبع و ثلاثين سنة ، و الغريب في ذلك أنني لم أنتبه الى أمر في غاية الأهمية و هو أنني كلما مسحت تاريخ اليوم المنصرم فأنا في الحقيقة أمسح من عمري يوما و أقتطع من صحتي و عافيتي جزء و كأنني بطارية تستنفذ مخزونها من الطاقة تدريجيا .
نعم كنت كلما وقفت أمام المرآة ألاحظ غدر الزمان في الشيب الذي أصبح يغزو شواتي و في التجاعيد التي بدأت ترسم أتلامها على كدنة وجنتاي ، و لكن كنت أتغاضى عن ذلك ما دام حماسي للعلم و التحصيل لم يصب بالوهن ، حتى جاءت تلك اللحظة صدفة لم أكن أتوقعها و أنا الغريب في مدينة كبيرة مثل مراكش حيث كنت جالسا في أحد المقاهي الشعبية أحتسي الشاي و هو المشروب المحبب لدي خصوصا في هذا المقهى ، و بيدي رواية " اللحاء و اللحى " لمؤلفها صديقي (علي عديدو ) أعيد قراءتها و أستجلي خباياها لأن صاحبها اختارني الى جانب مجموعة من النقاد لأشاركهم القراءة فيها و تمحيص أدبياتها ، و بينما أنا كذلك استرعى انتباهي أحد الزبناء الذي انزوى الى ركن في المقهى و هو يسترق النظر إلي من حين لآخر و كأن له حاجة عندي ، غير أنني لم أعر الأمر اهتماما و انشغلت عنه بما في يدي ، و لم أشعر إلا و قد انتصب أمامي في نصف انحناءة ، و قال :
" سامحني يا سيدي ألست الأستاذ فلان ؟ "
قلت " بلى ، هو بلحمه و شحمه "
فرأيت في عينيه نظرة تعجب و إشفاق و كأن لسان حاله يقول بل بعظمه و جلده أما لحمه و شحمه فقد تآكل مع عوادي الزمان .
حينها بادرته بالسؤال الذي يؤرقني :
" و من تكون أنت أيها السائل ؟ "
لم يمهلني لأتمم سؤالي حتى هوى على يدي يقبلها ، و قال بصوت مبحوح :
" ألا تذكرني يا أستاذ ؟ أنا تلميذك فلان ، لقد تتلمذت على يدك و أنت في ريعان شبابك ، كان ذلك منذ زمن بعيد ، سنة 1984 بالمستوى الخامس ، الذي كان يعتبر المستوى الاشهادي يومها "
سحبت يدي بسرعة كعادتي كلما هم أحدهم بتقبيلها و طلبت منه الجلوس الى جانبي ، و ساد صمت رهيب رجعت فيه بذاكرتي إلى تلك الفترة الزاهية من عمري ، فلم أتمالك نفسي و تنهدت تنهيدة توحي بما في النفس من لواعج و أشواق .
فإذا بتلميذي يبدد شرودي ويقول :
" كنت معنا صارما و حازما ، و كنت لا ترضى عن عملنا إلا إذا كان غاية في الاتقان ، بفضلك أحببت قواعد اللغة العربية و آدابها شعرا و نثرا و منك اكتسبت موهبة الخط ".
كنت أستمع إليه و كأنني أستمع إلى ذلك الطفل ذي الاثني عشر ربيعا و هو في مقعده أمامي في حجرة الدرس ، و لكن الذي أمامي الآن لم يعد طفلا بل صار كهلا قوي البنية ، متزوجا و أبا لثلاثة أبناء يعمل طبيب أسنان منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن ، غير أن ملامح وجهه تذكرني ببراءة طفولته و شغبها .
أمسك تلميذي بيدي و همس :
" لقد تغيرت كثيرا يا أستاذي ، و بلغت من الكبر مبلغ العجزة ، و ما زلت تمارس العمل في القسم ، و بنفس الجدية المعهودة فيك، ألم يحن موعد تقاعدك بعد ؟ ".
انتابني شعور يمتزج فيه الفخر بالملل و قلت :
" حان موعد تقاعدي لولا القرار المشؤوم الذي فرض علينا زيادة ثلاث سنوات من الخدمة "
توقفت عن الكلام و أخذت نفسا عميقا و استرسلت :
" لعلك يا بني تعرف أن مهنة التعليم مهنة شريفة و هي في نفس الوقت شاقة و متعبة ، خصوصا بالنسبة لمن يخلص و يتفانى في تربية الأجيال و تعليمها التربية السليمة و التعليم المفيد ، و دون افتخار ذاك ما كنت و ما أزال أسعى إليه ، و مما يبعث الارتياح و يبدد التعب أن أرى تلامذتي و قد تحققت فيهم الأماني التي كنت أصبو إليها و لعلك أنت و أمثالك كثير ممن تلقوا تعليمهم على يدي و حققوا النجاح في حياتهم هم من يشعرونني بالفخر و الاعتزاز و يشجعونني على إتمام الرسالة رغم نصبها و تعبها اللذان يزدادان يوما عن يوم في ظل هذه المستجدات التي عرفها هذا القطاع خلال هذين العقدين الأخيرين ، بحيث أعطيت للتلاميذ حقوق ليسوا جديرين بها فانقلبت الأمور الى فوضى و تسيب و فقد الأستاذ هيبته ، و استوردنا مناهج و طرائق بيداغوجية لا تناسب بيئتنا و خصوصياتنا فإذا بها لم تؤت أكلها و هكذا بقينا نخبط خبط عشواء مما انعكس على المنظومة التربوية و جعلها في الحضيض ، و كما تعلم يا بني أن بانهيارها تنهار جميع القطاعات الأخرى لأنها هي الركيزة الأساس في تقدم الأمم أو تخلفها "
حرك تلميذي الطبيب رأسه مؤيدا و متعجبا ثم قال و الأسى يعتصره :
" أطال الله في عمرك يا أستاذي ، من الآن فصاعدا أنا هو طبيبك فيما يخص أمور أسنانك ، و لن أقبل أن آخذ منك درهما واحدا ، لأنني أود أن أرد لك بعض الجميل ".
نظرت إليه نظرة الممتن الشاكر ، و قلت مازحا :
" يا بني ما بقي من طاقم أسناني إلا بعضها القليل ، هب أنك أصلحتها ، فمن يعيد لي حدة بصري و سمعي و من يرجع لي قوة بدني ؟ "
حينها أخرج من جيبه بطاقة عيادته ، و وضعها في يدي و عانقني مودعا ثم انصرف و الدموع في عينيه .
😥 قصة واقعية عاشها الأستاذ زايد وهنا😥
كل صباح أدخل حجرة الدرس ، أسمي الله و أتفقد أحوال تلامذتي ثم أمسح تاريخ الأمس و أكتب تاريخ اليوم الوليد ، كان هذا دأبي في كل يوم مدة تزيد عن سبع و ثلاثين سنة ، و الغريب في ذلك أنني لم أنتبه الى أمر في غاية الأهمية و هو أنني كلما مسحت تاريخ اليوم المنصرم فأنا في الحقيقة أمسح من عمري يوما و أقتطع من صحتي و عافيتي جزء و كأنني بطارية تستنفذ مخزونها من الطاقة تدريجيا .
نعم كنت كلما وقفت أمام المرآة ألاحظ غدر الزمان في الشيب الذي أصبح يغزو شواتي و في التجاعيد التي بدأت ترسم أتلامها على كدنة وجنتاي ، و لكن كنت أتغاضى عن ذلك ما دام حماسي للعلم و التحصيل لم يصب بالوهن ، حتى جاءت تلك اللحظة صدفة لم أكن أتوقعها و أنا الغريب في مدينة كبيرة مثل مراكش حيث كنت جالسا في أحد المقاهي الشعبية أحتسي الشاي و هو المشروب المحبب لدي خصوصا في هذا المقهى ، و بيدي رواية " اللحاء و اللحى " لمؤلفها صديقي (علي عديدو ) أعيد قراءتها و أستجلي خباياها لأن صاحبها اختارني الى جانب مجموعة من النقاد لأشاركهم القراءة فيها و تمحيص أدبياتها ، و بينما أنا كذلك استرعى انتباهي أحد الزبناء الذي انزوى الى ركن في المقهى و هو يسترق النظر إلي من حين لآخر و كأن له حاجة عندي ، غير أنني لم أعر الأمر اهتماما و انشغلت عنه بما في يدي ، و لم أشعر إلا و قد انتصب أمامي في نصف انحناءة ، و قال :
" سامحني يا سيدي ألست الأستاذ فلان ؟ "
قلت " بلى ، هو بلحمه و شحمه "
فرأيت في عينيه نظرة تعجب و إشفاق و كأن لسان حاله يقول بل بعظمه و جلده أما لحمه و شحمه فقد تآكل مع عوادي الزمان .
حينها بادرته بالسؤال الذي يؤرقني :
" و من تكون أنت أيها السائل ؟ "
لم يمهلني لأتمم سؤالي حتى هوى على يدي يقبلها ، و قال بصوت مبحوح :
" ألا تذكرني يا أستاذ ؟ أنا تلميذك فلان ، لقد تتلمذت على يدك و أنت في ريعان شبابك ، كان ذلك منذ زمن بعيد ، سنة 1984 بالمستوى الخامس ، الذي كان يعتبر المستوى الاشهادي يومها "
سحبت يدي بسرعة كعادتي كلما هم أحدهم بتقبيلها و طلبت منه الجلوس الى جانبي ، و ساد صمت رهيب رجعت فيه بذاكرتي إلى تلك الفترة الزاهية من عمري ، فلم أتمالك نفسي و تنهدت تنهيدة توحي بما في النفس من لواعج و أشواق .
فإذا بتلميذي يبدد شرودي ويقول :
" كنت معنا صارما و حازما ، و كنت لا ترضى عن عملنا إلا إذا كان غاية في الاتقان ، بفضلك أحببت قواعد اللغة العربية و آدابها شعرا و نثرا و منك اكتسبت موهبة الخط ".
كنت أستمع إليه و كأنني أستمع إلى ذلك الطفل ذي الاثني عشر ربيعا و هو في مقعده أمامي في حجرة الدرس ، و لكن الذي أمامي الآن لم يعد طفلا بل صار كهلا قوي البنية ، متزوجا و أبا لثلاثة أبناء يعمل طبيب أسنان منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن ، غير أن ملامح وجهه تذكرني ببراءة طفولته و شغبها .
أمسك تلميذي بيدي و همس :
" لقد تغيرت كثيرا يا أستاذي ، و بلغت من الكبر مبلغ العجزة ، و ما زلت تمارس العمل في القسم ، و بنفس الجدية المعهودة فيك، ألم يحن موعد تقاعدك بعد ؟ ".
انتابني شعور يمتزج فيه الفخر بالملل و قلت :
" حان موعد تقاعدي لولا القرار المشؤوم الذي فرض علينا زيادة ثلاث سنوات من الخدمة "
توقفت عن الكلام و أخذت نفسا عميقا و استرسلت :
" لعلك يا بني تعرف أن مهنة التعليم مهنة شريفة و هي في نفس الوقت شاقة و متعبة ، خصوصا بالنسبة لمن يخلص و يتفانى في تربية الأجيال و تعليمها التربية السليمة و التعليم المفيد ، و دون افتخار ذاك ما كنت و ما أزال أسعى إليه ، و مما يبعث الارتياح و يبدد التعب أن أرى تلامذتي و قد تحققت فيهم الأماني التي كنت أصبو إليها و لعلك أنت و أمثالك كثير ممن تلقوا تعليمهم على يدي و حققوا النجاح في حياتهم هم من يشعرونني بالفخر و الاعتزاز و يشجعونني على إتمام الرسالة رغم نصبها و تعبها اللذان يزدادان يوما عن يوم في ظل هذه المستجدات التي عرفها هذا القطاع خلال هذين العقدين الأخيرين ، بحيث أعطيت للتلاميذ حقوق ليسوا جديرين بها فانقلبت الأمور الى فوضى و تسيب و فقد الأستاذ هيبته ، و استوردنا مناهج و طرائق بيداغوجية لا تناسب بيئتنا و خصوصياتنا فإذا بها لم تؤت أكلها و هكذا بقينا نخبط خبط عشواء مما انعكس على المنظومة التربوية و جعلها في الحضيض ، و كما تعلم يا بني أن بانهيارها تنهار جميع القطاعات الأخرى لأنها هي الركيزة الأساس في تقدم الأمم أو تخلفها "
حرك تلميذي الطبيب رأسه مؤيدا و متعجبا ثم قال و الأسى يعتصره :
" أطال الله في عمرك يا أستاذي ، من الآن فصاعدا أنا هو طبيبك فيما يخص أمور أسنانك ، و لن أقبل أن آخذ منك درهما واحدا ، لأنني أود أن أرد لك بعض الجميل ".
نظرت إليه نظرة الممتن الشاكر ، و قلت مازحا :
" يا بني ما بقي من طاقم أسناني إلا بعضها القليل ، هب أنك أصلحتها ، فمن يعيد لي حدة بصري و سمعي و من يرجع لي قوة بدني ؟ "
حينها أخرج من جيبه بطاقة عيادته ، و وضعها في يدي و عانقني مودعا ثم انصرف و الدموع في عينيه .
😥 قصة واقعية عاشها الأستاذ زايد وهنا😥
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق