💣 آفة عصرنا 💣
لقد كثر الكلام في أيامنا هذه عن بعض الكوارث التي تهدد العالم مستقبلا و التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق ، كالتغيرات المناخية التي تنذر بارتفاع الحرارة و ذوبان الجليد مما يجعل المدن الساحلية في خطر منتظر ، إضافة إلى الحرائق التي تقضي على مساحات شاسعة من رئة الأرض مما يسبب تلوثا بيئيا ينعكس على صحة الإنسان ، هذا ناهيك عن ندرة الماء الصالح للشرب بسبب الجفاف و الذي يظهر أثره جليا في كثير من بلدان العالم التي باتت تشكو نقصا مهولا في هذه النعمة التي لا غنى للناس عنها ، كما أن موارد الغذاء تتناقص سنة بعد أخرى ، كل هذا و غيره من الظواهر الطبيعية إذا أضفنا إليها أسلحة الدمار الشامل و القنابل الذرية و النووية و غيرها مما لا نعلمه ، فقد أصبح مصير العالم يتأرجح بين كفي عفريت مما ينذر بكارثة - لا قدر الله - لا مفر لأحد منها ، لذلك نسمع بين الحين و الآخر أصواتا من هنا و من هناك تدق ناقوس الخطر و تحذر العالم عساه ينقذ نفسه من هلاك قادم .
و لكن رغم ما أثرناه من مخاوف يبقى الأمر كله بيد الخالق يدبره كيف يشاء بحكمته ، و هذا لا يمنع الأخذ بالأسباب
و العمل على إيجاد الحلول البديلة لتفادي ما يتوقعه العلماء عن مصير الأرض .
إلا أن هناك آفة أعتبرها شخصيا أخطر مما سبقت الإشارة إليه و رغم خطورتها فغالبية الناس لا توليها اهتماما و لا تشعر بمدى تأثيرها على البشرية ، و هي الظاهرة التي أرقت مضجعي و دفعتني لأتناولها في أسطر قليلة رغم أنها تحتاج
إلى صفحات لتحليل جوانبها الخطيرة و تبيان مدى استفحالها و رصد عواقبها الوخيمة .
إذا كانت كل أقطار العالم تعلق أملها على شبابها باعتباره الدعامة الأساسية التي تحمل المشعل مستقبلا
و تقود أممها نحو الرفاهية و الإزدهار ، خصوصا منها الدول النامية ، التي ما زالت ترزح تحت وطأة الجهل و الفقر ، فإنها من حيث تدري أو لا تدري تسير نحو خيبة أملها ، بانتهاجها سياسة إقرار التفاهة و تشجيع التافهين ،في مقابل إهمال
و تحقير الأعمال الجادة ، و تهميش أصحابها .
فعندما يعتقد الشباب اعتقادا راسخا أن احتراف لعب كرة القدم أو الغناء الماجن أفضل من طلب العلم ، فتلك هي الطامة الكبرى ، و كيف لا يعتقد ذلك و هو يرى أن هؤلاء التافهين ينعمون في بحبوحة العيش ، و لهم المنزلة الرفيعة
و الشأن الكبير بين الناس ، و يملكون ما لا يملكه العلماء
و المثقفون و الباحثون و المخترعون من أموال طائلة
و عقارات بل و قصور ، فاعلم علم اليقين أن العالم على مشارف الهاوية .
و مما يؤكد هذا التصور للتافهين و من يسير على خطاهم من الشباب و يكاد يجعله حقيقة هو أن مسؤولي بلدانهم
و إعلامهم انساقوا وراء هذه التفاهات و أولوها الأهمية
و فتحوا لها الباب على مصراعيه ، يدخل أحضانها كل من هب و دب ، دون قيد أو شرط ، يقدمهم الإعلام و كأنهم القدوة الصالحة التي ينبغي أن تحتدى ، رغم أن ليس من وراء تفاهاتهم فوائد تذكر إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي ، بل بالعكس يسيئون إلى هذه القطاعات و يعرقلون مسار عجلة التنمية
و يبطئونها .
و لعل هذه الهالة التي أحيط بها هؤلاء التافهون و النعم التي يرفهون فيها هي أحد الأسباب الكبرى التي جعلت الشباب ينظرون إليهم بعين الإعجاب و التقدير و يظنونهم من علية القوم و أخيارهم ، فيحاولون تقليدهم بشتى الوسائل ،
و يرون في طلب العلم مضيعة للوقت ، و أنهم مهما بلغوا في طلب العلم ، لن ينالوا المال و الحظوة التي يرغد فيها أولئك الجهلة التافهون ، لهذا تجدهم يولون الأدبار للعلم و لا يبذلون جهدا في تحصيله ، بل يسعون جاهدين في اكتساب مهارات التفاهة في الغناء و اللعب و أحيانا في النصب
و الاحتيال و التعاطي للمخدرات ، و تقليد التافهين في لباسهم و قصة شعرهم ، يضعون الأقراط و الأوشام ،
و يوهمون أنفسهم أن هذه المظاهر هي دليل التطور
و الانفتاح ، بل منهم من يغامر بحياته في الإبحار نحو أوروبا
بحثا عن حياة أفضل و أسهل .
و مما يثير العجب و الاستغراب هو كيف يقارن عاقل بين إنسان عالم يعمل في مختبر لاكتشاف دواء ينقذ الناس ، أو طبيب جراح يسعى جاهدا لبعث حياة جديدة في أبدان مرضاه ، أو عالم يخترع ما يفيد الناس في حياتهم
و ييسر لهم الصعاب التي تعترضهم ، أو أستاذ يصل الليل بالنهار في سبيل التربية و محو الجهل ، البون شاسع بين هؤلاء الذين يقدمون للناس ما ينفعهم و يرفع شأن البلد
و بين أولئك الذين يفسدون العقول بسفاهتهم و خلاعتهم .
و الأكثر استغرابا أن سهرة واحدة يقدم فيها أحد التافهين أو إحدى التافهات أغاني ساقطة في كلماتها مبتذلة في ألحانها صاخبة في أدائها فتعود عليه في ليلة واحدة بأموال طائلة لن يتقاضى مثلها طبيب أو أستاذ و لو جمع رواتب حياته المهنية كلها ، و لو صادف أن مر أمامهم أحد المغنيين التافهين أو أحد اللاعبين لرأيت الإعجاب في أعينهم
و رأيتهم يستقبلونه استقبالا حافلا ، كأنه بطل حرر القدس ، في حين قد يمر أمامهم عالم من العلماء المخترعين الذي قدم للناس ما ينفعهم أو طبيبا جراحا ينقذ أرواح الناس أو أستاذا أنار عقول أجيال و أجيال و لا أحد يهتم لأمرهم ،
فمن أحق بالإعجاب و التبجيل و التقدير أذاك الذي يفسد الأذواق و يميع الفن أم هذا الذي ينفع الناس بعلمه و عمله ؟ .
قد يظن القارئ أنني أتحامل على اللاعبين و المغنين و أنني لا أتذوق الفن عامة ، اعلم عزيزي القارئ أنني عاشق شغوف للفن الهادف الراقي ، أشاهد مباريات كرة القدم و أستمع للأغاني الجميلة و أعجب بلوحات الرسامين المتميزين و لكن في الوقت نفسه أكره كرها شديدا الأعمال الساقطة المنحطة التي تفتقر إلى الإبداع و الموهبة ، و لهذا أريد ألا يضيع حق كل عالم و عامل مجد في عمله ، و أن يكافأ ماديا و يبجل معنويا .
لو سألت أغلب شبابنا اليوم عن أحد المغنين التافهين لحدثك عنه حديث المتمكنين و لأغرقك بمعلومات كثيرة عنه ، فإذا سألته عن مشاهير الكتاب و العلماء و الشعراء و الباحثين المرموقين و عن كل ذي علم نافع ، ما استرحت منه إلى جواب ، بل لو اختبرته فيما يتلقاه من دروس بمؤسسته لملئت من أجوبته رعبا و لوليت من شدة غبائه فرارا ، فكيف لمثله مستقبلا أن يربي الأجيال و يعلمها ، و كيف لمثله أن يعالج المرضى و يدخل الفرحة في نفوسهم ، و كيف لمثله أن يدير مصنعا أو معملا ، و كيف لمثله أن يسير قطاعا من القطاعات الحساسة في المجتمع ... و الأمثلة كثيرة ،
إذن ما مصير مجتمعنا في القادم من الأيام إذا كنا لا نعول على شبابنا في تدبير أمور البلد و تسيير قطاعاته المختلفة التي هي أساس نموه و تقدمه .
إلى هنا ثمة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح و هي
ما مآل هذا العالم الذي ملأ عقول شبابه بالتفاهة ؟
و هل شبابنا مؤهل لقيادة السفينة نحو بر الأمان خصوصا
و العالم في أمس الحاجة لمن ينقذه من الكوارث المنتظرة التي أشرنا إليها سابقا ؟
و كيف تخرج الدول النامية من تخلفها و جهلها إذا كان شبابها فارغ إلا من التوافه ؟
أليس من العار و السذاجة أن نبجل التافهين و نشجعهم لمجرد نشرهم للتفاهة و الفسوق و في المقابل لا ننصف العلماء و المفكرين و نهمشهم ماديا و معنويا و هم صفوة المجتمع الذين يعملون في الخفاء ليل نهار من أجل تقدم المجتمع و إسعاد أفراده .
ختاما إن أخوف ما أخاف عليه في مجتمعاتنا مستقبلا -- أكثر من الكوارث الطبيعية التي باتت تهدده -- هو تيار التفاهة الذي انساق وراءه السواد الأعظم من شبابنا مما ينذر باضمحلال الحضارة الإنسانية و تخلفها ، و هذا ما لا يتمناه
عاقل ، فهبوا جميعا و شمروا عن سواعد الجد ، لإحياء القيم الإنسانية النبيلة و إعادة الاعتبار للعلم و العلماء و حاربوا كل ما من شأنه أن يخرب عقول الشباب عسى الأجيال الآتية تظفر بعيش آمن كريم و تذكركم بكل خير .
✏ بقلم الغيور زايد وهنا ✏