آفة عصرنا

 💣   آفة عصرنا   💣

   

         لقد كثر الكلام في أيامنا هذه عن بعض الكوارث التي تهدد العالم مستقبلا و التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق ، كالتغيرات المناخية التي تنذر بارتفاع الحرارة و ذوبان الجليد مما يجعل المدن الساحلية في خطر منتظر ، إضافة إلى الحرائق التي تقضي على مساحات شاسعة من رئة الأرض مما يسبب تلوثا بيئيا ينعكس على صحة الإنسان ، هذا ناهيك عن ندرة الماء الصالح للشرب بسبب الجفاف و الذي يظهر أثره جليا في كثير من بلدان العالم التي باتت تشكو نقصا مهولا في هذه النعمة التي لا غنى للناس عنها ، كما أن موارد الغذاء تتناقص سنة بعد أخرى ، كل هذا و غيره من الظواهر الطبيعية إذا أضفنا إليها أسلحة الدمار الشامل و القنابل الذرية و النووية و غيرها مما لا نعلمه ، فقد أصبح مصير العالم يتأرجح بين كفي عفريت مما ينذر بكارثة - لا قدر الله - لا مفر لأحد منها ، لذلك نسمع بين الحين و الآخر أصواتا من هنا و من هناك  تدق ناقوس الخطر و تحذر العالم عساه ينقذ نفسه من هلاك قادم .

و لكن رغم ما أثرناه من مخاوف يبقى الأمر كله بيد الخالق يدبره كيف يشاء بحكمته ، و هذا لا يمنع الأخذ بالأسباب 

و العمل على إيجاد الحلول البديلة لتفادي ما يتوقعه العلماء عن مصير الأرض . 

إلا أن هناك آفة أعتبرها شخصيا أخطر مما سبقت الإشارة إليه و رغم خطورتها فغالبية الناس لا توليها اهتماما و لا تشعر بمدى تأثيرها على البشرية ، و هي الظاهرة التي أرقت مضجعي  و دفعتني لأتناولها في أسطر قليلة رغم أنها تحتاج

إلى صفحات  لتحليل جوانبها الخطيرة و تبيان مدى استفحالها و رصد عواقبها الوخيمة .

           إذا كانت كل أقطار العالم تعلق أملها على شبابها باعتباره الدعامة الأساسية التي تحمل المشعل مستقبلا 

و تقود أممها نحو الرفاهية و الإزدهار ، خصوصا منها الدول النامية ، التي ما زالت ترزح تحت وطأة الجهل و الفقر ، فإنها من حيث تدري أو لا تدري تسير نحو خيبة أملها  ، بانتهاجها سياسة إقرار التفاهة و تشجيع التافهين ،في مقابل إهمال 

و تحقير الأعمال الجادة ، و تهميش أصحابها .

فعندما يعتقد الشباب اعتقادا راسخا أن احتراف لعب كرة القدم أو الغناء الماجن أفضل من طلب العلم ، فتلك هي الطامة الكبرى ، و كيف لا يعتقد ذلك و هو يرى أن هؤلاء التافهين ينعمون في بحبوحة العيش ، و لهم المنزلة الرفيعة 

و الشأن الكبير بين الناس ، و يملكون ما لا يملكه العلماء 

و المثقفون و الباحثون و المخترعون من أموال طائلة 

و عقارات بل و قصور  ، فاعلم علم اليقين أن العالم على مشارف الهاوية .

و مما يؤكد هذا التصور للتافهين و من يسير على خطاهم من الشباب  و يكاد يجعله حقيقة هو أن مسؤولي بلدانهم 

و إعلامهم انساقوا وراء هذه التفاهات و أولوها الأهمية 

و فتحوا لها الباب على مصراعيه ، يدخل أحضانها كل من هب و دب ، دون قيد أو شرط ، يقدمهم الإعلام و كأنهم القدوة الصالحة التي ينبغي أن تحتدى ، رغم أن ليس من وراء تفاهاتهم فوائد تذكر إن على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي ، بل بالعكس يسيئون إلى هذه القطاعات و يعرقلون مسار عجلة التنمية 

و يبطئونها .

و لعل هذه الهالة التي أحيط بها هؤلاء التافهون و النعم التي يرفهون فيها هي أحد الأسباب الكبرى التي جعلت الشباب ينظرون إليهم بعين الإعجاب و التقدير و يظنونهم من علية القوم و أخيارهم ، فيحاولون تقليدهم بشتى الوسائل ، 

و يرون في طلب العلم مضيعة للوقت ، و أنهم مهما بلغوا في طلب العلم ، لن ينالوا المال و الحظوة التي يرغد فيها أولئك الجهلة التافهون ، لهذا تجدهم  يولون الأدبار للعلم و لا يبذلون جهدا في تحصيله ، بل يسعون جاهدين في اكتساب مهارات التفاهة في الغناء و اللعب و أحيانا في النصب 

و الاحتيال و التعاطي للمخدرات ، و تقليد التافهين في لباسهم و قصة شعرهم ، يضعون الأقراط و الأوشام  ، 

و يوهمون أنفسهم أن هذه المظاهر هي دليل التطور 

و الانفتاح ، بل منهم من يغامر بحياته في الإبحار نحو أوروبا

بحثا عن حياة أفضل و أسهل .

و مما يثير العجب و الاستغراب هو كيف يقارن عاقل بين إنسان عالم يعمل في مختبر لاكتشاف دواء ينقذ الناس ، أو طبيب جراح يسعى جاهدا لبعث حياة جديدة في أبدان مرضاه ، أو عالم يخترع ما يفيد الناس في حياتهم

و ييسر لهم الصعاب التي تعترضهم ، أو أستاذ يصل الليل بالنهار في سبيل التربية و محو الجهل ، البون شاسع بين هؤلاء الذين يقدمون للناس ما ينفعهم و يرفع شأن البلد 

و بين أولئك الذين يفسدون العقول بسفاهتهم و خلاعتهم .

و الأكثر استغرابا أن سهرة واحدة يقدم فيها أحد التافهين أو إحدى التافهات أغاني ساقطة في كلماتها مبتذلة في ألحانها صاخبة في أدائها فتعود عليه في ليلة واحدة بأموال طائلة لن يتقاضى مثلها طبيب أو أستاذ و لو جمع رواتب حياته المهنية كلها ، و لو صادف أن مر أمامهم أحد المغنيين التافهين أو أحد اللاعبين لرأيت الإعجاب في أعينهم 

و رأيتهم يستقبلونه استقبالا حافلا ، كأنه بطل حرر القدس ، في حين قد يمر أمامهم عالم من العلماء المخترعين الذي قدم للناس ما ينفعهم أو طبيبا جراحا ينقذ أرواح الناس أو أستاذا أنار عقول أجيال و أجيال  و لا أحد يهتم لأمرهم ، 

فمن أحق بالإعجاب و التبجيل و التقدير أذاك الذي يفسد الأذواق و يميع الفن أم هذا الذي ينفع الناس بعلمه و عمله ؟ .

قد يظن القارئ أنني أتحامل على اللاعبين و المغنين و أنني لا أتذوق الفن عامة ، اعلم عزيزي القارئ أنني عاشق شغوف للفن الهادف الراقي ، أشاهد مباريات كرة القدم و أستمع للأغاني الجميلة و أعجب بلوحات الرسامين المتميزين و لكن في الوقت نفسه أكره كرها شديدا الأعمال  الساقطة المنحطة التي تفتقر إلى الإبداع و الموهبة ، و لهذا أريد ألا يضيع حق كل عالم و عامل مجد في عمله ، و أن يكافأ ماديا و يبجل معنويا .

لو سألت أغلب شبابنا اليوم عن أحد المغنين التافهين لحدثك عنه حديث المتمكنين و لأغرقك بمعلومات كثيرة عنه ، فإذا سألته عن  مشاهير الكتاب و العلماء و الشعراء و الباحثين المرموقين و عن كل ذي علم نافع ، ما استرحت منه إلى جواب ، بل  لو اختبرته فيما يتلقاه من دروس بمؤسسته لملئت من أجوبته رعبا و لوليت من شدة غبائه فرارا ، فكيف لمثله مستقبلا أن يربي الأجيال و يعلمها  ، و كيف لمثله أن يعالج المرضى و يدخل الفرحة في نفوسهم ، و كيف لمثله أن يدير مصنعا أو معملا ، و كيف لمثله أن يسير قطاعا من القطاعات الحساسة في المجتمع ... و الأمثلة كثيرة ، 

إذن ما مصير مجتمعنا في القادم من الأيام إذا كنا لا نعول على شبابنا في تدبير أمور البلد و تسيير قطاعاته المختلفة التي هي أساس نموه و تقدمه .

             إلى هنا  ثمة أسئلة تطرح نفسها بإلحاح و هي

ما مآل هذا العالم الذي ملأ عقول شبابه بالتفاهة ؟

و هل شبابنا مؤهل لقيادة السفينة نحو بر الأمان خصوصا 

و العالم في أمس الحاجة لمن ينقذه من الكوارث المنتظرة التي أشرنا إليها سابقا ؟

و كيف تخرج الدول النامية من تخلفها و جهلها إذا كان شبابها فارغ إلا من التوافه ؟ 

أليس من العار و السذاجة أن نبجل التافهين و نشجعهم  لمجرد نشرهم للتفاهة و الفسوق و في المقابل لا ننصف العلماء و المفكرين و نهمشهم ماديا و معنويا و هم صفوة المجتمع الذين يعملون في الخفاء ليل نهار من أجل تقدم المجتمع و إسعاد أفراده .

ختاما إن أخوف ما أخاف عليه في مجتمعاتنا مستقبلا -- أكثر من الكوارث الطبيعية التي باتت تهدده --  هو تيار  التفاهة الذي انساق وراءه السواد الأعظم من شبابنا مما ينذر باضمحلال الحضارة الإنسانية و تخلفها ، و هذا ما لا يتمناه

عاقل ، فهبوا جميعا و شمروا عن سواعد الجد ،  لإحياء القيم الإنسانية النبيلة و إعادة الاعتبار للعلم و العلماء و حاربوا كل ما من شأنه أن يخرب عقول الشباب عسى الأجيال الآتية تظفر بعيش آمن كريم و تذكركم بكل خير .

             

                ✏   بقلم الغيور  زايد وهنا  ✏

أثر العلم في المجتمع

 أثر العلم في المجتمع


         ما قيمة الشهادات العلمية العليا إذا لم يضف أصحابها غنى جديدا للعلم و الفكر و الثقافة ، و ما الفائدة منها إن لم تسخر في مواكبة مستجدات العصر بما يسعد الناس من اكتشافات و اختراعات و إبداعات كل في مجال تخصصه .

 فقد باتت ظاهرة الحصول على الشهادات و الدبلومات العليا في أيامنا هذه بالأمر السهل الذي لا يتطلب من الكفاءة العلمية و الإلمام  ما كان عليه الأمر في سالف الأيام حيث لا ينالها قديما إلا قلة قليلة تكاد لا تتجاوز واحدا في عشرة آلاف ،إذ كان الحصول عليها يتطلب الإلمام الكبير الشامل 

و البحث المضني الجاد ، و إضافة الجديد ، و لا يحصل عليها يومها إلا من يستحقها إذ يعد موسوعة علمية يصنف ضمن قائمة علماء عصره ، فلا يكتفي بذلك بل يسخر علمه في الكتابة و التأليف و مناظرة العلماء ، و إثراء المكتبات بمؤلفاته النافعة .

و لكن ما نلحظه اليوم تختلف مقاييسه و معاييره عما كان بالأمس ،  فحملة الشهادات العليا اليوم لا نرى لهم على أرض الواقع أثرا يذكر ، بل ما زالوا يجترون ما خلفه لنا القدامى الذين أثروا المكتبات بمؤلفاتهم القيمة في شتى المجالات الفكرية ، فالأقدمون أجادوا و أبدعوا و أفادوا من غير شهادات جامعية عليا .

ما نراه اليوم من إصدارات ينحصر في بعض الدواوين الشعرية و بعض الروايات و القصص و هذه هي الأخرى أغلبها لا يرقى إلى مستوى أعمال القدامى معنى و مبنى .

       إذن ما فائدة شهادة الدكتورة في العلوم كالرياضيات 

و الفيزياء و الكيمياء من غير نظريات جديدة أو اختراعات مفيدة .

و ما فائدة شهادة الدكتورة في الطب إذا لم تضف جديدا لهذا القطاع .

و ما فائدة شهادة الدكتورة في الآداب إذا لم تبهر القراء 

و تفيدهم و تمتعهم بأعمال راقية شكلا و مضمونا .

       لعل ما وصل إليه المستوى التعليمي في وقتنا الحالي من تدن و انحطاط هو ما أفقد الشهادات قيمتها و جعل أصحابها دون الكفاءة المطلوبة ،إذ أصبح الانتقال عبر الأسلاك التعليمية سهلا لا يتطلب الكثير من الجهد ، و نسبة التكرار قليلة جدا ، مما جعل الطلبة يغترون و يظنون أنفسهم قد حققوا المبتغى متناسين أنهم لا يحملون من الزاد العلمي

و المعرفي إلا القليل ، فأصبح كل من تقدم للحصول على شهادة ينالها بكل يسر و بساطة ، حتى إذا حصل عليها اعتقد في قرارة نفسه أنه بلغ مبلغ العلماء ، يبحث عن عمل ينغمس فيه و لا يحمل نفسه عبء البحث و الاستزادة من العلم ، 

و كيف يفعل و هو لا يملك المؤهلات العلمية التي تمكنه من البحث و إضافة الجديد .

     إذن تبقى منظومة التعليم هي المسؤولة عن كل هذا الجمود ، إذ أصبحت في العقدين الأخيرين بالخصوص تخرج أشباه المثقفين الذين رغم شهاداتهم العليا لا يظهر لهم أثر في حياتنا اليومية .

من الغريب أن أحد الأصدقاء سألني عن الموضوع الذي أنا بصدد كتابته، أطلعته على مغزاه ، فأثار ملاحظة في غاية الأهمية ، إذ قال لي في استغراب أن بعض القراء و خصوصا منهم حملة الشهادات العليا قد يظنون أنك متحامل عليهم لأنك غير حاصل مثلهم على شهادة عليا تؤهلك لانتقادهم ، 

و شعورك بذلك النقص هو ما يحرك فيك دوافع التهجم عليهم .

كنت أنتظر مثل هذا التعقيب و سأنتظره عندما يتم نشر هذا المقال ، و أقول بكل تواضع أنني و إن كنت غير حاصل على مثل شهاداتهم فأنا أريد أن أستفيد منهم هم أصحاب الشهادات ، أغترف من علومهم و آدابهم و أكون قارئا شغوفا 

لمؤلفاتهم مفتخرا بإنتاجاتهم ، فأنا لست ممن يتحامل على الناس أبدا ، و لا أشعر بأي نقص أبدا ، لأنني أثق في نفسي 

و مؤهلاتي ، و أنا الذي أقول دائما :

" قيمة الإنسان فيما قدم و أنجز ، و ليس بالشهادات التي نال و أحرز "

 و لكن يحز في نفسي أن أصادف مثقفا ممن يحملون شهادة عليا في الأدب العربي ( ماستر أو دكتورة ) مثلا فألاحظ أنا على قلة زادي أن صاحبنا يفتقر لكثير من المؤهلات في باب تخصصه إن على مستوى سلاسة اللغة نطقا و كتابة سواء في  الشعر او النثر أو النقد أو غيرها من فنون الأدب ، مما يجعلك تستغرب الأمر و قد كنت تظن أنك أمام موسوعة في الأدب يفيد أكثر مما يستفيد و كيف لا و هو صاحب أعلى شهادة ،

و الحقيقة أنك لو قارنته بطالب من جيل القدامى حاصل على شهادة الباكلوريا في الأدب و ناقشته لوجدته أكثر منه إلماما و اطلاعا ، تستفيد من معارفه و تستمتع بمجالسته .

طبعا هناك قلة قليلة من حملة الشهادات العليا المشهود لهم بالكفاءة و الإبداع في مجال تخصصاتهم ، و لكنهم للأسف قليلون ، و أبواب البحث العلمي موصدة في وجوههم ، لأن مجتمعنا آثر التفاهة و شجع التافهين و أهمل المفكرين الباحثين ، مما دفع بعضهم للهجرة نحو البلدان التي تقدر 

و تحترم العلم و العلماء .

       أعود و أقول أن المسؤولية تتحملها المنظومة التعليمية ببلادنا ، لهذا يجب إعادة النظر في هذه الاستحقاقات حتى تكون للشهادات قيمتها العلمية و يكون أصحابها على مسكة عظيمة من المعارف يظهر أثرها جليا على المجتمع ، و هذا 

لن يتأتى إلا بفتح سبل البحث العلمي و تيسير الطريق أمام المفكرين و المبدعين و تشجيعهم على مواصلة البحث 

و تسخير كل الوسائل المساعدة على ذلك ، و الأكثر من كل هذا و ذاك القطع مع التفاهة و سد الأبواب أمام التافهين ،

فالمجتمع في حاجة إلى غرس القيم الإنسانية النبيلة ، لتسود الفضيلة و تندثر الرذيلة ، هو في حاجة إلى العقول الراقية 

و السواعد الجادة التي ترفع من شأنه بين الأمم ، و هذا طبعا لن يتأتى إلا بإعادة النظر في المنظومة التعليمية .


 

                 ✏   بقلم الأستاذ زايد وهنا   ✏

مخلوق غريب

 مخلوق غريب


لكل إنسان في هذه الحياة مزايا و عيوب ، محاسن و مساوئ بدرجات و نسب متفاوتة ، لكن أن تجتمع كل صنوف الرذائل و كل ضروب النقائص في شخص واحد ، فهذا أمر غريب يكاد يكون مستحيلا ، بحيث يصعب تصديقه ، لأن الإنسان مهما بلغت به خساسة النفس و خبث التصرف ، لا بد أن يكون فيه و لو مقدار حبة خرذل من خير ، 

و لكن الشخص الذي سأحدثكم عنه حالة شاذة ، علما بأنني لا أحمل في نفسي اتجاهه أي حقد أو كره ، بل بالعكس أود لو حسن سلوكه و استقامت سيرته ، لكان خيرا له و لغيره ، و إني و إن كنت صراحة أتفادى الحديث معه و الاقتراب منه ، فليس لضغينة في نفسي و إنما احتراسا من مكره و سفاهته و اتقاءا لشره .

إذن لا مبالغة إذا قلت أنه يفتقر لأدنى قدر من المحمودات ، بل ينعدم فيه حتى ذلك القدر القليل من الإنسانية الذي يوجد في غيره من خبثاء القوم ، ذلك أن المجرمين يعرفون بسيماهم 

و جرائمهم و يتجنبهم الناس ، أما هذا الخبيث فيضمر المكر و الغدر و الخداع و لا يبديها إلا لمن يعاديه أو يقف في طريقه ، فهو كالأفعى لين الملمس و لكن في أنيابه السم القاتل ، فلا ينتابك

شك في أن كل صنوف الخبائث ملأت نفسه 

و لم تترك فيها مكانا لفضيلة تذكر ، و بذلك فهو حالة شاذة لا أظن أن تاريخ البشرية عرف مثيلا لها ، و الأدهى أنه يعلم ذلك في نفسه و يفتخر به ، إذ يعده ضربا من الدهاء و الشجاعة .

فقد مضى من عمري ستون سنة و لم أر في هذا العمر كله من تجرد من كل القيم الإنسانية ،

و تلفع بأنواع المفاسد مثل هذا الفاجر  ، و لا غرو إذا قلت أن الشيطان نفسه يستحيي أحيانا أن يقوم بمثل تلك الأمور التي يقوم بها هذا المخلوق الماكر ، و كيف للشيطان أن يأتيها و قد أوكلها لمن هو أفجر منه ، حتى قيل أن الشيطان غادر تلك المنطقة إذ أيقن أن أحد أعوانه الذي يفوقه خبثا قد تولى المهمة بدلا منه .

ربما تبادر إلى ذهن القارئ أن تاريخ البشرية عرف

شخصيات بصمت حياتها بالظلم و الكبر و المكر 

و الغدر و القتل و غيرها من أنواع الرذائل ، بعضهم

ورد ذكرهم في القرآن الكريم و بعضهم سجل لهم

التاريخ خبثهم حتى صاروا مضرب المثل في كل

عصر و مصر ، و لكن ما لا يعلمه القارئ أن في عصرنا هذا مخلوق في صفة بشر جمع فيه ما تفرق من مساوئ الأولين و الآخرين ، و لم يترك رذيلة إلا و اتصف بها ، مما جعله يتربع على عرش الفجرة الفاسدين المفسدين بل وصل به الكبر 

والاستعلاء حد الإدمان بحيث لا يهنأ له بال إلا إذا اختلق المشاكل و أشعل نار الفتن .

فالكبائر التي نهى عنها ديننا الحنيف يأتيها صاحبنا و لا يخشى في ذلك لومة لائم أما الإستحياء من الله فهذا أمر لا يعنيه في شيء ، و كيف يخاف 

الله و قد بايع إبليس و أصبح من أتباعه النافذين ،

فالجشع و الطمع أعمى بصيرته ، يسعى للاغتناء

بأي وسيلة ، لا يهمه في تحقيق ذلك ظلم العباد ،

فالاعتداء على حقوقهم يحسبه صاحبنا شطارة 

و دهاءا ، الأهم في نظره أن تكون له الهيمنة في الثراء ، و أن تكون له الكلمة النافذة و اليد الطولى بحيث يجعل من البسطاء و الفقراء تبعا له يهابونه 

و ينقادون لأوامره .

و قد توالت جرائمه و اعتداءاته التي لا حصر لها ،

كانت نهاية السبعينات من القرن الماضي بداية 

أول فضيحة كبرى اهتز لها سكان القرية التي

أذاقت أغلبهم أنواع العذاب و التنكيل ظلما 

و عدوانا ، و سرعان ما تبين أنه هو من دبر الأمر 

و اختلق المشكل لا لشيء و إنما لينتقم ممن يعدهم أعداءا ، حينها اعتقد الناس  أنه قد وقع في فخ العدالة لتقتص منه ، و لكن بوسائله الملتوية خرج من المأزق كالشعرة من العجين ، 

و رغم ذلك لم يتعظ و لم يتراجع بل كانت تلك الحادثة بداية مشجعة لتتوالى بعدها مصائب 

و جرائم أخرى تتفاوت خطورة ، يدبرها صاحبنا 

و يخرج منها سالما حتى أضحى و قد اكتسب المناعة ضد القصاص و الردع لأنه و بكل وقاحة

عرف طرق الوقاية و العلاج ، و هي تلك الأساليب

الملتوية التي أتقن مراوغتها و أصبح في نظره بارعا فيها .

ربما قد يستغرب القارئ هذا القول ، أليس القانون وضع لردع المعتدين من أمثاله ؟ ، إذن لماذا لا تأخذ العدالة مجراها لتوقفه عند حده ؟ .

و لكن ما لا يعلمه القارئ أن هذا الفيروس مرغ كرامته في الوحل و عفر كبرياءه بالتراب ، فلكي ينجو بفعلته قد يستعمل كل الوسائل التي لا تخطر على البال و التي لا يمكن أن يستعملها الإنسان الأبي ذو كبرياء و أنفة مهما بلغت درجة المأزق ، 

و لكن هذا الذليل الحقير ليس لديه أدنى حرج في أن يقبل أقدام أسياده إذا كان التقبيل و التوسل 

و الاستعطاف يفك المشكل ، أو قد يلجأ لدفع 

مبالغ مالية في الحالات التي يكون فيها دفع المال مخرجا من الورطة ، أو أي وسيلة يراها تنقذ الموقف و لو على حساب ماء وجهه و عرضه ، فإذا استنفذت كل الوسائل و رأى أن الدوائر تدور عليه و حبل العدالة يطوقه ، عندها يستعمل آخر سلاح و هو أن يورط معه شخصا أو أكثر من كبار المسؤولين و لو زورا و بهتانا ، مما لا يجد معه الآخرون سبيلا للحفاظ على كرامتهم و سمعتهم إلا بطي الملف ، و إهمال مسطرة المتابعة في حقه درءا لمفاسد كبرى .  ، و لهذا تراه لا ينفك ينسج خيوط الزبونية و الصداقات مع كل من يرى أن له مكانة نافذة في المجتمع قد يلجأ إليه متى اشتد عليه الأمر ، و لدهائه الماكر كان من حين لآخر يقيم الولائم و يدعو إليها فئة من المسؤولين

و الوجهاء الذين يريد أن يوطد علاقته بهم ، 

كما أنه أحيانا أخرى يقدم لهم أجود أنواع التمور كهدايا أو يعرض عليهم أضاحي سمينة دون مقابل ، و لا يتوانى لحظة في خدمتهم متى طلبوا منه ذلك ، هدفه من هذا  التملق و التقرب منهم ، 

و الظهور بمظهر الكرماء الأبرياء ، هو أن يجدهم بجانبه متى نزلت به نازلة و ما أكثرها .

 و الحقيقة أن بعضهم ممن هم بعيدون عن منطقته ، الذين لا تصلهم أخبار ألاعيبه ،  يحكمون على ظاهر ما يبديه لهم من طيبوبة زائدة فيرون في تصرفه كرما ، و لكن الآخرين و هم كثير ممن عاينوا سلوكاته المنحرفة  ، اكتشفوا ألاعيبه 

و خساسة نفسه و اتقوا شره ، إذ أصبحوا هم أنفسهم في غير مأمن من شراكه ، فهؤلاء أخذوا الحذر التام منه لئلا يوقع بهم في المهالك ، كما سبق و فعل مع غيرهم ممن ورطهم في مشاكل كانوا في غنى عنها لو أخذوا بمبدإ الحيطة  .

و هكذا في كل واقعة يظن الناس أنه وضع قدميه في المصيدة ، و أنه سيتعرض للقصاص مما اقترف ، و لكن يفاجأ الجميع به و قد أفلت من المصيدة ، و رغم توالي النوازل و الإفلات من العقاب فصاحبنا لا يتعظ و لا يخجل من نظرات الناس و ازدرائهم له ، بل بالعكس يستمر في غيه مزهوا بنفسه معتدا بما يحسبه دهاءا و شطارة ، بل يستفز خصومه أنه البطل المنتصر الذي خرج من المعركة رابحا غانما لم يمس بسوء .

أما انتماؤه السياسي ، فهو ينتقل بين الأحزاب باحثا عن الحزب الذي يرى فيه تحقيق مصالحه ، فتجده يحضر اللقاءات و يدافع و ينافح بحماس زائد ، و يشارك في الحملات الدعائية ليظهر لأعضاء الحزب أنه عضو صالح  لا يمكن الاستغناء عنه ، و لو سألته عن تاريخ الحزب و توجهاته 

و برامجه ما أقنعك بشيء فهو فارغ و فاقد لكل المعارف ، لأن الغرض الأسمى الذي يسعى إليه هو استغلال العلاقات من داخل الحزب لقضاء مآربه الشخصية ، و الاحتماء بها عند الحاجة ، و ذاك ما يضمره في نفسه و لا يظهره للعلن . 

قد يظن القارئ أني متحامل على هذا الحيوان البشري ، و أني أبالغ في ذمه و كشف خبثه للناس ، و القارئ معذور في ظنه هذا خصوصا إذا كان بعيدا عن المنطقة التي ينتمي إليها هذا السفيه ، أما أهالي المنطقة فهم يعلمون هذا 

و أكثر ، و لو سألت صغارهم قبل كبارهم ، 

و نساءهم قبل رجالهم أو  حتى بعض المحايدين من أقاربه  لأصبت بالتخمة من كثرة ما يحكونه لك عن خبثه ، إذ قل منهم من سلم من شره لا سيما الأهالي الذين تجمعهم به عدة أمور تخص مصالح بلدتهم ، حتى بلغ الأمر بالناس أنه كلما ذكر إسمه استعاذ الحاضرون بالله من الشيطان الرجيم ، 

و كيف لا و هو من أثار التفرقة بين الناس بإحياء النزعة العنصرية و القبلية ، فغرقت البلدة في وحل الحقد و الضغينة بين الأمازيغ و العرب ، 

و بتعبير أكثر وضوحا بين البيض و السود هؤلاء ذووا البشرة السمراء الذين لا يتوانى في نعتهم  بالحراطين ، و الغريب في الأمر أن صاحبنا العنصري هذا يحمل من الغل و الكره لهؤلاء ما يعجز اللسان عن وصفه ، و لكنه أحيانا قد يظهر بعض التودد لأحدهم إذا رأى في ذلك ما يخدم مصالحه ، فإذا تم له ما أراد أعرض عنه و بحث عن مطية أخرى يستعملها في مأرب آخر ، متلاعبا 

بعواطفهم و متهما أياهم بالغباء .

قد تتعجب أحيانا و أنت تراه عند الشدائد يقف إلى جانب أحدهم ممن يرى فيه طريدة مستقبلية ، فيظن من لا يعرفه أنه يسدي جميلا و يقف موقفا إنسانيا يشكر عليه ، و لكن سرعان ما يتبين أن موقفه ذاك لم يكن قط من بواعث الإنسانية 

و المساعدة و لكنه كان موقفا من ورائه مصلحة له هو ، كأن يساعد أحد الأهالي في الحصول على جزء بسيط من حقوقه ليفسح المجال لنفسه 

و لأسرته في الحصول على الأضعاف المضاعفة مما حصل عليه الآخر ، أو قد يقرض أحدهم مبلغا من المال ، فيجعل الدين ورقة ضغط يستعبد بها المدين ، كأن يجعل منه أحد شهود الزور متى أراد ذلك ، أو يستغله في غير ذلك من ألاعيبه 

و تلاعباته المتتالية المقيتة .

و هكذا دواليك ينفث سموم التفرقة و يشعل نار 

الحقد بين الناس بطرق مباشرة و غير مباشرة ،

همه في ذلك تحقيق المصالح ، و هو ما تم له إذ 

أصبح يمتلك الأراضي الشاسعة له و لأبنائه 

و أقاربه ، ظنا منه أن ما يمتلكه هو نتيجة ذكائه 

و فطنته و براعته في مراوغة البسطاء من الناس 

الذين قص الفقر أجنحتهم ، فهم يكدون 

و يكدحون في سبيل لقمة العيش و لا طاقة لهم

ماديا أو معنويا في مواجهة هذا الطاغية المستبد ،

و قد سبق لبعضهم ممن لم يطق صبرا أن رفع شكوى ضده أمام المحاكم ، و لكنه يصطدم بمكائد أخرى قد دبرها له صاحبنا إضافة إلى أساليبه الملتوية ، فيعود المشتكي المسكين من المحكمة بخفي حنين هذا إذا حالفه الحظ و أفلت من العقاب ، فيصير مغلوبا بعدما كان غالبا و لو كان الحق بجانبه .   

و هكذا يتمادى المحتال في سلوكاته بكل فخر 

و اعتزاز  و نسي المغرور ، أنه باع كرامته في سوق النذالة ، و ابتاع بدلها مقت الخالق 

و المخلوق ، ليته يعلم أن اللحم النابت من الحرام النار أولى به ، و ليته يعلم أن دعوة المظلوم ليس بينها و بين الله حجاب ، و أن ما بني على باطل لا بد أن ينهار إن عاجلا أو آجلا ، و لعذاب الآخرة أكبر لو كان يعلم ، و لله في خلقه شؤون فهو يمهل و لا يهمل ،و هذه الدنيا دار عبور ، ولو كان يدوم نعيمها لدام لمن هم أكثر منه مالا و أعز نفرا ، 

و ليس للمرء فيها إلا ما سعى من أعمال الخير 

و الإحسان .

فمتى يستيقظ صاحبنا من غفلته و قد مر من عمره الكثير ، أما آن له أن يتوب و يرجع المظالم لأهلها أو أقلها أن يرفع آذاه عن الناس .

فإذا كان يتملص من عدالة الدنيا بوسائله الملتوية و يحسب ذلك من الدهاء ، فهل يا ترى  سيخلصه دهاؤه من عدالة الآخرة يوم لا يؤخذ منه فدية 

و لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .