مخلوق غريب
لكل إنسان في هذه الحياة مزايا و عيوب ، محاسن و مساوئ بدرجات و نسب متفاوتة ، لكن أن تجتمع كل صنوف الرذائل و كل ضروب النقائص في شخص واحد ، فهذا أمر غريب يكاد يكون مستحيلا ، بحيث يصعب تصديقه ، لأن الإنسان مهما بلغت به خساسة النفس و خبث التصرف ، لا بد أن يكون فيه و لو مقدار حبة خرذل من خير ،
و لكن الشخص الذي سأحدثكم عنه حالة شاذة ، علما بأنني لا أحمل في نفسي اتجاهه أي حقد أو كره ، بل بالعكس أود لو حسن سلوكه و استقامت سيرته ، لكان خيرا له و لغيره ، و إني و إن كنت صراحة أتفادى الحديث معه و الاقتراب منه ، فليس لضغينة في نفسي و إنما احتراسا من مكره و سفاهته و اتقاءا لشره .
إذن لا مبالغة إذا قلت أنه يفتقر لأدنى قدر من المحمودات ، بل ينعدم فيه حتى ذلك القدر القليل من الإنسانية الذي يوجد في غيره من خبثاء القوم ، ذلك أن المجرمين يعرفون بسيماهم
و جرائمهم و يتجنبهم الناس ، أما هذا الخبيث فيضمر المكر و الغدر و الخداع و لا يبديها إلا لمن يعاديه أو يقف في طريقه ، فهو كالأفعى لين الملمس و لكن في أنيابه السم القاتل ، فلا ينتابك
شك في أن كل صنوف الخبائث ملأت نفسه
و لم تترك فيها مكانا لفضيلة تذكر ، و بذلك فهو حالة شاذة لا أظن أن تاريخ البشرية عرف مثيلا لها ، و الأدهى أنه يعلم ذلك في نفسه و يفتخر به ، إذ يعده ضربا من الدهاء و الشجاعة .
فقد مضى من عمري ستون سنة و لم أر في هذا العمر كله من تجرد من كل القيم الإنسانية ،
و تلفع بأنواع المفاسد مثل هذا الفاجر ، و لا غرو إذا قلت أن الشيطان نفسه يستحيي أحيانا أن يقوم بمثل تلك الأمور التي يقوم بها هذا المخلوق الماكر ، و كيف للشيطان أن يأتيها و قد أوكلها لمن هو أفجر منه ، حتى قيل أن الشيطان غادر تلك المنطقة إذ أيقن أن أحد أعوانه الذي يفوقه خبثا قد تولى المهمة بدلا منه .
ربما تبادر إلى ذهن القارئ أن تاريخ البشرية عرف
شخصيات بصمت حياتها بالظلم و الكبر و المكر
و الغدر و القتل و غيرها من أنواع الرذائل ، بعضهم
ورد ذكرهم في القرآن الكريم و بعضهم سجل لهم
التاريخ خبثهم حتى صاروا مضرب المثل في كل
عصر و مصر ، و لكن ما لا يعلمه القارئ أن في عصرنا هذا مخلوق في صفة بشر جمع فيه ما تفرق من مساوئ الأولين و الآخرين ، و لم يترك رذيلة إلا و اتصف بها ، مما جعله يتربع على عرش الفجرة الفاسدين المفسدين بل وصل به الكبر
والاستعلاء حد الإدمان بحيث لا يهنأ له بال إلا إذا اختلق المشاكل و أشعل نار الفتن .
فالكبائر التي نهى عنها ديننا الحنيف يأتيها صاحبنا و لا يخشى في ذلك لومة لائم أما الإستحياء من الله فهذا أمر لا يعنيه في شيء ، و كيف يخاف
الله و قد بايع إبليس و أصبح من أتباعه النافذين ،
فالجشع و الطمع أعمى بصيرته ، يسعى للاغتناء
بأي وسيلة ، لا يهمه في تحقيق ذلك ظلم العباد ،
فالاعتداء على حقوقهم يحسبه صاحبنا شطارة
و دهاءا ، الأهم في نظره أن تكون له الهيمنة في الثراء ، و أن تكون له الكلمة النافذة و اليد الطولى بحيث يجعل من البسطاء و الفقراء تبعا له يهابونه
و ينقادون لأوامره .
و قد توالت جرائمه و اعتداءاته التي لا حصر لها ،
كانت نهاية السبعينات من القرن الماضي بداية
أول فضيحة كبرى اهتز لها سكان القرية التي
أذاقت أغلبهم أنواع العذاب و التنكيل ظلما
و عدوانا ، و سرعان ما تبين أنه هو من دبر الأمر
و اختلق المشكل لا لشيء و إنما لينتقم ممن يعدهم أعداءا ، حينها اعتقد الناس أنه قد وقع في فخ العدالة لتقتص منه ، و لكن بوسائله الملتوية خرج من المأزق كالشعرة من العجين ،
و رغم ذلك لم يتعظ و لم يتراجع بل كانت تلك الحادثة بداية مشجعة لتتوالى بعدها مصائب
و جرائم أخرى تتفاوت خطورة ، يدبرها صاحبنا
و يخرج منها سالما حتى أضحى و قد اكتسب المناعة ضد القصاص و الردع لأنه و بكل وقاحة
عرف طرق الوقاية و العلاج ، و هي تلك الأساليب
الملتوية التي أتقن مراوغتها و أصبح في نظره بارعا فيها .
ربما قد يستغرب القارئ هذا القول ، أليس القانون وضع لردع المعتدين من أمثاله ؟ ، إذن لماذا لا تأخذ العدالة مجراها لتوقفه عند حده ؟ .
و لكن ما لا يعلمه القارئ أن هذا الفيروس مرغ كرامته في الوحل و عفر كبرياءه بالتراب ، فلكي ينجو بفعلته قد يستعمل كل الوسائل التي لا تخطر على البال و التي لا يمكن أن يستعملها الإنسان الأبي ذو كبرياء و أنفة مهما بلغت درجة المأزق ،
و لكن هذا الذليل الحقير ليس لديه أدنى حرج في أن يقبل أقدام أسياده إذا كان التقبيل و التوسل
و الاستعطاف يفك المشكل ، أو قد يلجأ لدفع
مبالغ مالية في الحالات التي يكون فيها دفع المال مخرجا من الورطة ، أو أي وسيلة يراها تنقذ الموقف و لو على حساب ماء وجهه و عرضه ، فإذا استنفذت كل الوسائل و رأى أن الدوائر تدور عليه و حبل العدالة يطوقه ، عندها يستعمل آخر سلاح و هو أن يورط معه شخصا أو أكثر من كبار المسؤولين و لو زورا و بهتانا ، مما لا يجد معه الآخرون سبيلا للحفاظ على كرامتهم و سمعتهم إلا بطي الملف ، و إهمال مسطرة المتابعة في حقه درءا لمفاسد كبرى . ، و لهذا تراه لا ينفك ينسج خيوط الزبونية و الصداقات مع كل من يرى أن له مكانة نافذة في المجتمع قد يلجأ إليه متى اشتد عليه الأمر ، و لدهائه الماكر كان من حين لآخر يقيم الولائم و يدعو إليها فئة من المسؤولين
و الوجهاء الذين يريد أن يوطد علاقته بهم ،
كما أنه أحيانا أخرى يقدم لهم أجود أنواع التمور كهدايا أو يعرض عليهم أضاحي سمينة دون مقابل ، و لا يتوانى لحظة في خدمتهم متى طلبوا منه ذلك ، هدفه من هذا التملق و التقرب منهم ،
و الظهور بمظهر الكرماء الأبرياء ، هو أن يجدهم بجانبه متى نزلت به نازلة و ما أكثرها .
و الحقيقة أن بعضهم ممن هم بعيدون عن منطقته ، الذين لا تصلهم أخبار ألاعيبه ، يحكمون على ظاهر ما يبديه لهم من طيبوبة زائدة فيرون في تصرفه كرما ، و لكن الآخرين و هم كثير ممن عاينوا سلوكاته المنحرفة ، اكتشفوا ألاعيبه
و خساسة نفسه و اتقوا شره ، إذ أصبحوا هم أنفسهم في غير مأمن من شراكه ، فهؤلاء أخذوا الحذر التام منه لئلا يوقع بهم في المهالك ، كما سبق و فعل مع غيرهم ممن ورطهم في مشاكل كانوا في غنى عنها لو أخذوا بمبدإ الحيطة .
و هكذا في كل واقعة يظن الناس أنه وضع قدميه في المصيدة ، و أنه سيتعرض للقصاص مما اقترف ، و لكن يفاجأ الجميع به و قد أفلت من المصيدة ، و رغم توالي النوازل و الإفلات من العقاب فصاحبنا لا يتعظ و لا يخجل من نظرات الناس و ازدرائهم له ، بل بالعكس يستمر في غيه مزهوا بنفسه معتدا بما يحسبه دهاءا و شطارة ، بل يستفز خصومه أنه البطل المنتصر الذي خرج من المعركة رابحا غانما لم يمس بسوء .
أما انتماؤه السياسي ، فهو ينتقل بين الأحزاب باحثا عن الحزب الذي يرى فيه تحقيق مصالحه ، فتجده يحضر اللقاءات و يدافع و ينافح بحماس زائد ، و يشارك في الحملات الدعائية ليظهر لأعضاء الحزب أنه عضو صالح لا يمكن الاستغناء عنه ، و لو سألته عن تاريخ الحزب و توجهاته
و برامجه ما أقنعك بشيء فهو فارغ و فاقد لكل المعارف ، لأن الغرض الأسمى الذي يسعى إليه هو استغلال العلاقات من داخل الحزب لقضاء مآربه الشخصية ، و الاحتماء بها عند الحاجة ، و ذاك ما يضمره في نفسه و لا يظهره للعلن .
قد يظن القارئ أني متحامل على هذا الحيوان البشري ، و أني أبالغ في ذمه و كشف خبثه للناس ، و القارئ معذور في ظنه هذا خصوصا إذا كان بعيدا عن المنطقة التي ينتمي إليها هذا السفيه ، أما أهالي المنطقة فهم يعلمون هذا
و أكثر ، و لو سألت صغارهم قبل كبارهم ،
و نساءهم قبل رجالهم أو حتى بعض المحايدين من أقاربه لأصبت بالتخمة من كثرة ما يحكونه لك عن خبثه ، إذ قل منهم من سلم من شره لا سيما الأهالي الذين تجمعهم به عدة أمور تخص مصالح بلدتهم ، حتى بلغ الأمر بالناس أنه كلما ذكر إسمه استعاذ الحاضرون بالله من الشيطان الرجيم ،
و كيف لا و هو من أثار التفرقة بين الناس بإحياء النزعة العنصرية و القبلية ، فغرقت البلدة في وحل الحقد و الضغينة بين الأمازيغ و العرب ،
و بتعبير أكثر وضوحا بين البيض و السود هؤلاء ذووا البشرة السمراء الذين لا يتوانى في نعتهم بالحراطين ، و الغريب في الأمر أن صاحبنا العنصري هذا يحمل من الغل و الكره لهؤلاء ما يعجز اللسان عن وصفه ، و لكنه أحيانا قد يظهر بعض التودد لأحدهم إذا رأى في ذلك ما يخدم مصالحه ، فإذا تم له ما أراد أعرض عنه و بحث عن مطية أخرى يستعملها في مأرب آخر ، متلاعبا
بعواطفهم و متهما أياهم بالغباء .
قد تتعجب أحيانا و أنت تراه عند الشدائد يقف إلى جانب أحدهم ممن يرى فيه طريدة مستقبلية ، فيظن من لا يعرفه أنه يسدي جميلا و يقف موقفا إنسانيا يشكر عليه ، و لكن سرعان ما يتبين أن موقفه ذاك لم يكن قط من بواعث الإنسانية
و المساعدة و لكنه كان موقفا من ورائه مصلحة له هو ، كأن يساعد أحد الأهالي في الحصول على جزء بسيط من حقوقه ليفسح المجال لنفسه
و لأسرته في الحصول على الأضعاف المضاعفة مما حصل عليه الآخر ، أو قد يقرض أحدهم مبلغا من المال ، فيجعل الدين ورقة ضغط يستعبد بها المدين ، كأن يجعل منه أحد شهود الزور متى أراد ذلك ، أو يستغله في غير ذلك من ألاعيبه
و تلاعباته المتتالية المقيتة .
و هكذا دواليك ينفث سموم التفرقة و يشعل نار
الحقد بين الناس بطرق مباشرة و غير مباشرة ،
همه في ذلك تحقيق المصالح ، و هو ما تم له إذ
أصبح يمتلك الأراضي الشاسعة له و لأبنائه
و أقاربه ، ظنا منه أن ما يمتلكه هو نتيجة ذكائه
و فطنته و براعته في مراوغة البسطاء من الناس
الذين قص الفقر أجنحتهم ، فهم يكدون
و يكدحون في سبيل لقمة العيش و لا طاقة لهم
ماديا أو معنويا في مواجهة هذا الطاغية المستبد ،
و قد سبق لبعضهم ممن لم يطق صبرا أن رفع شكوى ضده أمام المحاكم ، و لكنه يصطدم بمكائد أخرى قد دبرها له صاحبنا إضافة إلى أساليبه الملتوية ، فيعود المشتكي المسكين من المحكمة بخفي حنين هذا إذا حالفه الحظ و أفلت من العقاب ، فيصير مغلوبا بعدما كان غالبا و لو كان الحق بجانبه .
و هكذا يتمادى المحتال في سلوكاته بكل فخر
و اعتزاز و نسي المغرور ، أنه باع كرامته في سوق النذالة ، و ابتاع بدلها مقت الخالق
و المخلوق ، ليته يعلم أن اللحم النابت من الحرام النار أولى به ، و ليته يعلم أن دعوة المظلوم ليس بينها و بين الله حجاب ، و أن ما بني على باطل لا بد أن ينهار إن عاجلا أو آجلا ، و لعذاب الآخرة أكبر لو كان يعلم ، و لله في خلقه شؤون فهو يمهل و لا يهمل ،و هذه الدنيا دار عبور ، ولو كان يدوم نعيمها لدام لمن هم أكثر منه مالا و أعز نفرا ،
و ليس للمرء فيها إلا ما سعى من أعمال الخير
و الإحسان .
فمتى يستيقظ صاحبنا من غفلته و قد مر من عمره الكثير ، أما آن له أن يتوب و يرجع المظالم لأهلها أو أقلها أن يرفع آذاه عن الناس .
فإذا كان يتملص من عدالة الدنيا بوسائله الملتوية و يحسب ذلك من الدهاء ، فهل يا ترى سيخلصه دهاؤه من عدالة الآخرة يوم لا يؤخذ منه فدية
و لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق