أثر العلم في المجتمع
ما قيمة الشهادات العلمية العليا إذا لم يضف أصحابها غنى جديدا للعلم و الفكر و الثقافة ، و ما الفائدة منها إن لم تسخر في مواكبة مستجدات العصر بما يسعد الناس من اكتشافات و اختراعات و إبداعات كل في مجال تخصصه .
فقد باتت ظاهرة الحصول على الشهادات و الدبلومات العليا في أيامنا هذه بالأمر السهل الذي لا يتطلب من الكفاءة العلمية و الإلمام ما كان عليه الأمر في سالف الأيام حيث لا ينالها قديما إلا قلة قليلة تكاد لا تتجاوز واحدا في عشرة آلاف ،إذ كان الحصول عليها يتطلب الإلمام الكبير الشامل
و البحث المضني الجاد ، و إضافة الجديد ، و لا يحصل عليها يومها إلا من يستحقها إذ يعد موسوعة علمية يصنف ضمن قائمة علماء عصره ، فلا يكتفي بذلك بل يسخر علمه في الكتابة و التأليف و مناظرة العلماء ، و إثراء المكتبات بمؤلفاته النافعة .
و لكن ما نلحظه اليوم تختلف مقاييسه و معاييره عما كان بالأمس ، فحملة الشهادات العليا اليوم لا نرى لهم على أرض الواقع أثرا يذكر ، بل ما زالوا يجترون ما خلفه لنا القدامى الذين أثروا المكتبات بمؤلفاتهم القيمة في شتى المجالات الفكرية ، فالأقدمون أجادوا و أبدعوا و أفادوا من غير شهادات جامعية عليا .
ما نراه اليوم من إصدارات ينحصر في بعض الدواوين الشعرية و بعض الروايات و القصص و هذه هي الأخرى أغلبها لا يرقى إلى مستوى أعمال القدامى معنى و مبنى .
إذن ما فائدة شهادة الدكتورة في العلوم كالرياضيات
و الفيزياء و الكيمياء من غير نظريات جديدة أو اختراعات مفيدة .
و ما فائدة شهادة الدكتورة في الطب إذا لم تضف جديدا لهذا القطاع .
و ما فائدة شهادة الدكتورة في الآداب إذا لم تبهر القراء
و تفيدهم و تمتعهم بأعمال راقية شكلا و مضمونا .
لعل ما وصل إليه المستوى التعليمي في وقتنا الحالي من تدن و انحطاط هو ما أفقد الشهادات قيمتها و جعل أصحابها دون الكفاءة المطلوبة ،إذ أصبح الانتقال عبر الأسلاك التعليمية سهلا لا يتطلب الكثير من الجهد ، و نسبة التكرار قليلة جدا ، مما جعل الطلبة يغترون و يظنون أنفسهم قد حققوا المبتغى متناسين أنهم لا يحملون من الزاد العلمي
و المعرفي إلا القليل ، فأصبح كل من تقدم للحصول على شهادة ينالها بكل يسر و بساطة ، حتى إذا حصل عليها اعتقد في قرارة نفسه أنه بلغ مبلغ العلماء ، يبحث عن عمل ينغمس فيه و لا يحمل نفسه عبء البحث و الاستزادة من العلم ،
و كيف يفعل و هو لا يملك المؤهلات العلمية التي تمكنه من البحث و إضافة الجديد .
إذن تبقى منظومة التعليم هي المسؤولة عن كل هذا الجمود ، إذ أصبحت في العقدين الأخيرين بالخصوص تخرج أشباه المثقفين الذين رغم شهاداتهم العليا لا يظهر لهم أثر في حياتنا اليومية .
من الغريب أن أحد الأصدقاء سألني عن الموضوع الذي أنا بصدد كتابته، أطلعته على مغزاه ، فأثار ملاحظة في غاية الأهمية ، إذ قال لي في استغراب أن بعض القراء و خصوصا منهم حملة الشهادات العليا قد يظنون أنك متحامل عليهم لأنك غير حاصل مثلهم على شهادة عليا تؤهلك لانتقادهم ،
و شعورك بذلك النقص هو ما يحرك فيك دوافع التهجم عليهم .
كنت أنتظر مثل هذا التعقيب و سأنتظره عندما يتم نشر هذا المقال ، و أقول بكل تواضع أنني و إن كنت غير حاصل على مثل شهاداتهم فأنا أريد أن أستفيد منهم هم أصحاب الشهادات ، أغترف من علومهم و آدابهم و أكون قارئا شغوفا
لمؤلفاتهم مفتخرا بإنتاجاتهم ، فأنا لست ممن يتحامل على الناس أبدا ، و لا أشعر بأي نقص أبدا ، لأنني أثق في نفسي
و مؤهلاتي ، و أنا الذي أقول دائما :
" قيمة الإنسان فيما قدم و أنجز ، و ليس بالشهادات التي نال و أحرز "
و لكن يحز في نفسي أن أصادف مثقفا ممن يحملون شهادة عليا في الأدب العربي ( ماستر أو دكتورة ) مثلا فألاحظ أنا على قلة زادي أن صاحبنا يفتقر لكثير من المؤهلات في باب تخصصه إن على مستوى سلاسة اللغة نطقا و كتابة سواء في الشعر او النثر أو النقد أو غيرها من فنون الأدب ، مما يجعلك تستغرب الأمر و قد كنت تظن أنك أمام موسوعة في الأدب يفيد أكثر مما يستفيد و كيف لا و هو صاحب أعلى شهادة ،
و الحقيقة أنك لو قارنته بطالب من جيل القدامى حاصل على شهادة الباكلوريا في الأدب و ناقشته لوجدته أكثر منه إلماما و اطلاعا ، تستفيد من معارفه و تستمتع بمجالسته .
طبعا هناك قلة قليلة من حملة الشهادات العليا المشهود لهم بالكفاءة و الإبداع في مجال تخصصاتهم ، و لكنهم للأسف قليلون ، و أبواب البحث العلمي موصدة في وجوههم ، لأن مجتمعنا آثر التفاهة و شجع التافهين و أهمل المفكرين الباحثين ، مما دفع بعضهم للهجرة نحو البلدان التي تقدر
و تحترم العلم و العلماء .
أعود و أقول أن المسؤولية تتحملها المنظومة التعليمية ببلادنا ، لهذا يجب إعادة النظر في هذه الاستحقاقات حتى تكون للشهادات قيمتها العلمية و يكون أصحابها على مسكة عظيمة من المعارف يظهر أثرها جليا على المجتمع ، و هذا
لن يتأتى إلا بفتح سبل البحث العلمي و تيسير الطريق أمام المفكرين و المبدعين و تشجيعهم على مواصلة البحث
و تسخير كل الوسائل المساعدة على ذلك ، و الأكثر من كل هذا و ذاك القطع مع التفاهة و سد الأبواب أمام التافهين ،
فالمجتمع في حاجة إلى غرس القيم الإنسانية النبيلة ، لتسود الفضيلة و تندثر الرذيلة ، هو في حاجة إلى العقول الراقية
و السواعد الجادة التي ترفع من شأنه بين الأمم ، و هذا طبعا لن يتأتى إلا بإعادة النظر في المنظومة التعليمية .
✏ بقلم الأستاذ زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق