أدوية قاتلة
لعل أكبر خطإ ارتكبته الحكومة في حق التعليم ، و الذي سيقضي على ما تبقى من بصيص أمل في إصلاحه هو تمديد سن التقاعد إلى ما فوق الستين ، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال لأستاذ قضى أربعين سنة أو أكثر أن يبقى بنفس الحماس و العطاء و المردودية المرغوبة ، لأن مهنة التعليم بالخصوص شاقة و متعبة تستنزف قوى الأستاذ البدنية
و النفسية و العقلية .
و قرار التمديد هذا صراحة هو آخر مسمار يدق في نعش التعليم ، إذ بموافقة النقابات عليه ، و سكوت الشغيلة التعليمية ، تم وأد أي خطة للإصلاح و الخروج به من الأزمة التي أرقت و تؤرق مضجع الغيورين عليه .
لماذا لا يمكن تمديد سن التقاعد في هذه المهنة بالخصوص ؟
لأنها و بكل موضوعية تعتبر المهنة الأكثر مشقة و صعوبة بالنسبة للمهن و الوظائف الأخرى .
ذلك أن الأستاذ يتحمل مسؤولية تربية و تعليم عدد كبير من التلاميذ ، يختلفون من حيث الذكاء و الطباع حسب نوع التربية التي تشبعوا بها في أسرهم و بيئاتهم ، لذلك هو ملزم بأن يكون قدوة لهم في كل شيء في سلوكه و نظافته
و هندامه ، لا يمكنه مغادرة قسمه إلا لظرف قاهر ، لا يليق به أن يأكل أو يشرب أمامهم ، يراقب جيدا تصرفاته حتى لا يصدر منه ما يتنافى و أصول التربية الحسنة ، داخل المؤسسة و خارجها مما يجعل عليه حصارا يحد من حريته الشخصية ، فهو يحسب ألف حساب قبل أن يقدم على أي تصرف ، و لا يقدم عليه حتى يتيقن بأنه لا يخل و الرسالة السامية الملقاة على عاتقه ، تجده يصل النهار بالليل في التحضير و التصحيح ، فهو المربي و المرشد و المصلح الاجتماعي و الطبيب النفساني و الحارس الأمين على سلامة تلامذته ، يدرس و يمتحن و يصحح و يقيم و يقوم
و يتدارك التعثرات و يتواصل مع الأسر ، يساعد من ماله الخاص المحتاجين من التلاميذ ، يقتني من ماله الخاص بعض لوازم العمل و وسائل الإيضاح و غير هذا كثير من المهام التي تثقل كاهله و لا تظهر للعيان .
بينما الوظائف المدنية الأخرى لا تشترط في موظفيها ذلك الالتزام و الانضباط و الحرص الشديد الذي يطوق الأستاذ ، فأي موظف يمكنه الحديث مع زميله أثناء العمل و قد يضع على مكتبه فنجان قهوة يرتشف منه من حين لآخر ،
و قد يتوقف عن العمل متى شعر بالتعب فيضع القلم
و الأوراق أمامه على المكتب ، و يأخذ لنفسه قسطا من الراحة ، و ليس هناك من يحاسبه عن ذلك التوقف ، كما يمكنه أن يغادر مكتبه إلى مكتب آخر لغرض أو بدون غرض ، له الحرية في ارتداء ما يرتاح فيه من لباس ، لا يجد حرجا في التفوه بأي كلام مع زملائه و المزاح معهم ، ماداموا كلهم كبارا و ليس معهم أطفال ، كل شيء لديه متوفر لا يقتني شيئا من ماله الخاص .
و غير ذلك من أمور هي مسموحة للموظفين عموما و لكنها ممنوعة على الأستاذ الذي هو تحت المجهر مراقب من طرف تلاميذ المؤسسة في الصغائر قبل الكبائر و في خارج المؤسسة قبل الداخل . و لا يقتصر الأمر على مهمته التربوية بل تتعداها إلى الحياة الاجتماعية مع الناس بحيث يحاسب على كل تصرف صدر منه و لو كان طفيفا و يعاتب عليه لا لشيء إلا لأنه أستاذ ، بينما لا أحد يعلق أو يعاتب موظفا في قطاع آخر و لو صدر منه ما هو أبشع مما صدر من الأستاذ .
فكيف بمن قضى أربعين سنة أو أكثر في التربية و التعليم على هذه الوتيرة الملتزمة أشد الالتزام و المقيد بشروط الاستقامة في كل شيء أن يمدد في سن تقاعده إلى ما بعد الستين ، دون مراعاة لظروفه الصحية و النفسية ، إنه لظلم كبير في حقه و في حق التلاميذ الأبرياء و عائق أمام أي إصلاح يتمشدقون به .
الحكومة تبرر موقفها بالعجز الذي يعرفه صندوق التقاعد ،
و لم تجد حلا لهذه المعضلة إلا على حساب صحة و جيوب رجال و نساء التعليم ، و هذا حيف كبير و تحطيم لمعنويات المدرس فالقانون المعمول به و الذي على أساسه التحق
المدرسون بهذه المهنة هو الإحالة على التقاعد عند بلوغ سن الستين ، و الغريب في الأمر أن النقابات وافقت على قرار الحكومة رغم أنها تعرف تمام المعرفة أن هذا التمديد إجحاف في حق رجال و نساء التعليم و ضربة قاضية للمنظومة التربوية .
و الواقع أنه كان من الواجب على الحكومة أن تدبر أمورها بمراقبة و محاسبة القيمين على هذا الصندوق قبل وقوع الكارثة ، أما و أنها لم تفعل فلتبحث عن حلول بديلة لتمويل الصندوق دون اللجوء إلى هذه الحلول الترقيعية التي لا تزيد وضع التعليم ببلادنا إلا انحطاطا و تسير به من سوء إلى أسوأ .
فأي إصلاح هذا الذي ينادون به ، و هم ممن ينطبق عليه المثل العامي المغربي الذي يقول :
"" جا يبوسو و عماه ""
أو "" جا يحبو و عماه "".
خلاصة القول أن قطاع التربية و التعليم ببلادنا
يعاني من أمراض خطيرة ، ظهرت عليه أعراضها منذ عقدين من الزمان ، و مما زاد حالته سوءا و خطورة هو أن الساهرين على علاجه لم يلتجئوا إلى التحليلات المخبرية و التشخيص الدقيق لحالته و لكنهم و بكل عشوائية يمدونه بأدوية
و مسكنات لا علاقة لها بمرضه ، فازدادت حالته خطورة
و دخل في غيبوبة ، مما استوجب نقله على وجه السرعة إلى غرفة الإنعاش .
فهل يا ترى سيتم تشخيص حالته بدقة و توصف له أدوية ناجعة ليستفيق أم سيبقى طرح الفراش في غيبوبته إلى أن يسلم الروح إلى بارئها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق