الأنانية و الطمع

 لعل أخطر الأمراض النفسية انتشارا و أكثرها شيوعا في أغلب أناس عصرنا ، نقيصتان اثنتان تثيران التقزز 

و الاشمئزاز في نفوس الأسوياء و هما الأنانية و الطمع ، صحيح أن كل القيم الإنسانية النبيلة السامية التي يدعو إليها الدين الإسلامي و التي دأب الناس منذ القدم  على التمسك بها قد انحلت أواصرها و أصبحت في نظر هؤلاء تخلفا 

و رجعية ، و لكن تبقى الأنانية و الطمع لدى الأغلبية صفتين طاغيتين أكثر من غيرهما ، و لا غرو إذا صنفنا الأنانية في المقام الأول ، لأنها إذا تملكت نفس الإنسان تقوده إلى الطمع مباشرة ، و منه إلى النفاق فتراه يميل حيثما مالت مصالحه الشخصية و لو على حساب حقوق الآخرين ، و هو ما نلاحظه في المعاملات اليومية بين الناس ، لأن المبتلى بالإنانية لا يرى إلا نفسه و امتيازاتها و لا يهمه من أمر العامة شيئا إذا لم يكن له فيه مصلحة ، بل قد يمتد به الأمر إلى معارضة المصلحة التي لا يرى فيها لنفسه نفعا ، و يؤيد المفسدة إذا رآى فيها لنفسه عائدا .

و الجدير بالذكر أن هذين المرضين هما السبب الرئيس في فقدان الثقة بين الناس في كثير من المعاملات ، إذ أصبح إنسان عصرنا يشك في كل شيء من حوله و يحتاط ألا يقع في شباك النصب و التدليس ، حتى فاعل الخير أمسى مرتابا مما قد يترتب على عمله الخيري من عواقب لم تكن في الحسبان بفعل المكر و الخداع ، و هذا ما أثر سلبا على الكثير من العلاقات الاجتماعية التي كان من المفروض أن تنبني على الثقة و حسن المعاملة .

إذن بفعل الأنانية و الطمع ضاعت الكثير من القيم الحميدة 

و حلت محلها النقائص و المكائد بشتى أنواعها ، و بالتالي غابت الثقة و غاب معها الهناء ، و فقد التراحم و قلت أعمال البر و الإحسان .

جزاء من كاد أن يكون رسولا

 جزاء من كاد أن يكون رسولا


                ألم يان للذين يتخوفون من إفلاس صندوق التقاعد ، أن يتخوفوا بالدرجة الأولى  على مصير قطاع التعليم ، فهم يبحثون عن  الحلول الترقيعية ، فلم يجدوا حلا غير تمديد سن التقاعد إلى ما بعد الستين ، و هذا الحل هو بمثابة آخر مسمار يدق في نعش التعليم ، إذ بفعلهم هذا  تناسوا أن بعد هذه السن لا يستطيع المدرس الذي قضى أكثر من أربعين سنة في التدريس أن يواصل بنفس الجدية و المردودية ، نظرا للعجز الذي ينتابه والأمراض التي تعتريه ، 

و هو الفتور الذي ينعكس على أدائه ، و بالتالي ينعكس على تحصيل التلاميذ .

فأي حل هذا الذي يطيل مؤقتا عمر صندوق التقاعد و يقضي تماما على المدرس و على قطاع التعليم بأكمله . و لو أرادوا أن يكونوا منصفين حقا ، و لهم النية الصادقة في الإصلاح ما نحوا هذا المنحى المجحف بل يستجلون الحقيقة في البحث عن أسباب إفلاسه ، و عمن له يد من قريب أو بعيد فيما آل إليه هذا الوضع ، و محاسبة كل متورط تلاعب بأموال الصندوق  ، واسترجاع -- على الأقل --  بعض ما اختلس منه ، ثم البحث لإيجاد موارد أخرى دائمة تطعم هذا الصندوق ،

و لو أننا أحسنا التدبير لاستغللنا ما يصرف من أموال على الزوايا و الأضرحة و المواسم و المهرجانات و السهرات المائعة و تخصيص بعض ما تنتجه البلاد من معادن و أسماك و فواكه و خضر و بعض ما تكسبه من الضرائب و السياحة 

و الاستثمارات لدعم التعليم و صندوق التقاعد و لو فعلوا لكان أفضل و أنفع بكثير للبلاد و العباد ، و لكن للأسف نزلوا بكل الثقل على المدرس باعتباره الحلقة الضعيفة في بنية المجتمع ( الحيط القصير ) ، الذي كان و ما يزال يراهن على النقابات في الدفاع عن مصالحه ، و لكنها في الحقيقة لا تدافع إلا عن مصالحها و امتيازاتها ، و ما دام الأمر كذلك  فلتكن الحلول على حساب صحة المدرس و راحته و معاشه ، أما أمله في قضاء ما بقي من عمره الذي أفنى زهرته في التدريس في حياة هادئة و سعيدة فهذه بينه و بينها أمد بعيد ، بل أضحت الحلم الذي لم و لن يتحقق ، لأن بعد الستين سيغادر المدرس المؤسسة التعليمة إلى مؤسسة استشفائية عساها ترمم بعضا من أوجاعه و لكن هيهات أن يترمم ما أفنته سنوات العمل الطويلة الشاقة المضنية ، و لا سيما منها تلك التي أضافوها له بعد الستين ، غير مدركين أن مهنة التعليم أكثر المهن مشقة و صعوبة ، تستنزف طاقة مزاولها البدنية و العقلية ، و هذا التمديد قد أثار استياءا 

و تدمرا لدى فئة عريضة ممن أنهوا المشوار المتفق عليه مبدئيا عند ولوجهم سلك التعليم و الذي ينتهي ببلوغهم سن الستين ، فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام هذا التمديد المفروض و الغير المرغوب فيه ، لأنهم و بكل صدق أصبحوا غير قادرين على مواصلة العمل نظرا لظروفهم الصحية و العقلية .

و لعل أولئك المشرعين الأوائل الذين حددوا سن التقاعد في ستين سنة كانوا على حق و كانوا يدركون تمام الإدراك معاناة رجل التعليم . أما هؤلاء  فبقصد أو بغير قصد يجهزون على حقوق المدرس و يخنقون ما تبقى من أنفاس التعليم  ، فلا  المدرس أنصف و كرم  و لا التعليم تحسن و ارتقى ، و الكل في دوامة الارتجالية و العشوائية ، و المآسي تزداد يوما بعد يوم ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .

لا حول و لا قوة إلا بالله

             لا حول و لا قوة إلا بالله


        جميع الناس و لا أبالغ إذا قلت بدون استثناء سواء كانوا  مسؤولين أو مثقفين أو حتى الأميين من آباء و أمهات الجميع يقر بتدني مستوى التعليم ببلادنا إلى درجة مخيفة خصوصا و أن وضعه يزداد سوءا سنة بعد أخرى مما ينذر بكارثة قد تأتي على ما تبقى من ذلك النبض القليل ، 

و لعل أسباب سقمه كثيرة و متنوعة تكالبت عليه حتى أضحى كمريض يصارع الموت في غرفة الإنعاش ، و من أفضع الأسباب التي أوصلته لما هو فيه باختصار :

-- الفهم الخاطئ لحقوق الإنسان .

-- فقدان هيبة الأستاذ .

-- عدم تطبيق العقوبات الزجرية الرادعة .

-- المناهج و البرامج العقيمة .

-- فقر في التجهيزات و البنى التحتية .

-- الخريطة المدرسية ، نجاح من غير استحقاق .

-- انعدام دور الأسرة في التربية و المراقبة .

-- عدم اهتمام الإعلام بالعلم و العلماء .

-- نقص حاد في البحث العلمي .

-- الرفع من شأن التفاهة و التافهين .

-- عدم انتداب النجباء الأكفاء لمهنة التدريس .

-- ضعف التكوين القبلي و التكوين المستمر .

-- عدم تحسين وضعية الأستاذ المادية و المعنوية.

-- تمديد سن التقاعد لما فوق الستين .

-- و...و...و....و...

و غيرها من الأعطاب التي ساهمت من قريب أو بعيد فيما آل إليه الوضع ، و رغم أن بعض الغيورين ممن لهم نية صادقة في الإصلاح ينبهون

و يدقون جرس الخطر عسى أن تبعث روح جديدة في هذا القطاع و تدب الحياة في أوصاله ، إلا أن

صيحاتهم تمضي و تنحصر و لا أحد يعيرها اهتماما أو يحرك ساكنا ، و هذا ما جعل الناس غير

مطمئنين على مصير هذا القطاع الذي يحتضر .