جزاء من كاد أن يكون رسولا
ألم يان للذين يتخوفون من إفلاس صندوق التقاعد ، أن يتخوفوا بالدرجة الأولى على مصير قطاع التعليم ، فهم يبحثون عن الحلول الترقيعية ، فلم يجدوا حلا غير تمديد سن التقاعد إلى ما بعد الستين ، و هذا الحل هو بمثابة آخر مسمار يدق في نعش التعليم ، إذ بفعلهم هذا تناسوا أن بعد هذه السن لا يستطيع المدرس الذي قضى أكثر من أربعين سنة في التدريس أن يواصل بنفس الجدية و المردودية ، نظرا للعجز الذي ينتابه والأمراض التي تعتريه ،
و هو الفتور الذي ينعكس على أدائه ، و بالتالي ينعكس على تحصيل التلاميذ .
فأي حل هذا الذي يطيل مؤقتا عمر صندوق التقاعد و يقضي تماما على المدرس و على قطاع التعليم بأكمله . و لو أرادوا أن يكونوا منصفين حقا ، و لهم النية الصادقة في الإصلاح ما نحوا هذا المنحى المجحف بل يستجلون الحقيقة في البحث عن أسباب إفلاسه ، و عمن له يد من قريب أو بعيد فيما آل إليه هذا الوضع ، و محاسبة كل متورط تلاعب بأموال الصندوق ، واسترجاع -- على الأقل -- بعض ما اختلس منه ، ثم البحث لإيجاد موارد أخرى دائمة تطعم هذا الصندوق ،
و لو أننا أحسنا التدبير لاستغللنا ما يصرف من أموال على الزوايا و الأضرحة و المواسم و المهرجانات و السهرات المائعة و تخصيص بعض ما تنتجه البلاد من معادن و أسماك و فواكه و خضر و بعض ما تكسبه من الضرائب و السياحة
و الاستثمارات لدعم التعليم و صندوق التقاعد و لو فعلوا لكان أفضل و أنفع بكثير للبلاد و العباد ، و لكن للأسف نزلوا بكل الثقل على المدرس باعتباره الحلقة الضعيفة في بنية المجتمع ( الحيط القصير ) ، الذي كان و ما يزال يراهن على النقابات في الدفاع عن مصالحه ، و لكنها في الحقيقة لا تدافع إلا عن مصالحها و امتيازاتها ، و ما دام الأمر كذلك فلتكن الحلول على حساب صحة المدرس و راحته و معاشه ، أما أمله في قضاء ما بقي من عمره الذي أفنى زهرته في التدريس في حياة هادئة و سعيدة فهذه بينه و بينها أمد بعيد ، بل أضحت الحلم الذي لم و لن يتحقق ، لأن بعد الستين سيغادر المدرس المؤسسة التعليمة إلى مؤسسة استشفائية عساها ترمم بعضا من أوجاعه و لكن هيهات أن يترمم ما أفنته سنوات العمل الطويلة الشاقة المضنية ، و لا سيما منها تلك التي أضافوها له بعد الستين ، غير مدركين أن مهنة التعليم أكثر المهن مشقة و صعوبة ، تستنزف طاقة مزاولها البدنية و العقلية ، و هذا التمديد قد أثار استياءا
و تدمرا لدى فئة عريضة ممن أنهوا المشوار المتفق عليه مبدئيا عند ولوجهم سلك التعليم و الذي ينتهي ببلوغهم سن الستين ، فإذا بهم يجدون أنفسهم أمام هذا التمديد المفروض و الغير المرغوب فيه ، لأنهم و بكل صدق أصبحوا غير قادرين على مواصلة العمل نظرا لظروفهم الصحية و العقلية .
و لعل أولئك المشرعين الأوائل الذين حددوا سن التقاعد في ستين سنة كانوا على حق و كانوا يدركون تمام الإدراك معاناة رجل التعليم . أما هؤلاء فبقصد أو بغير قصد يجهزون على حقوق المدرس و يخنقون ما تبقى من أنفاس التعليم ، فلا المدرس أنصف و كرم و لا التعليم تحسن و ارتقى ، و الكل في دوامة الارتجالية و العشوائية ، و المآسي تزداد يوما بعد يوم ، و لا حول و لا قوة إلا بالله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق