أنا الغريب

                     أنا الغريب


            عرف العقد الأخير و بصورة مستعجلة غياب عدد كبير من الناس و من مختلف الأعمار ، الذين كانت تجمعنا معهم روابط الانتماء لنفس البلدة ، منهم معارف و أصدقاء و أقارب ، و الذين قضينا معهم أجمل فترات العمر ، و لكن في فترة وجيزة افتقدنا الكثير منهم ، أغلبهم وراه الثرى رحمة الله عليهم ، و بعضهم اضطرته الظروف لمغادرة البلدة ، و قليل هم الذين مكثوا بها لظروف خاصة ، و فوق هذا و ذاك ،  تبقى مشيئة الله 

فوق كل اعتبار .

و لا أدل على ذلك من أن الزائر للبلدة من أبناء جيلنا 

يلاحظ هذا التغيير الذي طرأ في هذه المدة القصيرة

و يشعر أنه الغريب بين أناس لا يعرف منهم إلا القلة القليلة ، و كأن أولئك المعارف الذين كانت البلدة تضج بهم قبل هذه العشرية قد تواروا عن الأنظار و لم نعد نراهم كسابق عهدنا إلا القليل منهم الذين نصادفهم نادرا

و قد غيرت السنون و نوائب الدهر ملامحهم ، فجفت الإبتسامة التي ألفناها على محياهم ، و لا غرو في ذلك 

فهم  أنفسهم  يشعرون بهذا التغيير ، إذ بين عشية و ضحاها  تبدلت أحوال الناس ، و لم نعد نرى أثرا لتلك القيم و ذلك الدفء الاجتماعي و العلاقات الإنسانية الودية التي ترعرعنا في أحضانها عقودا من الزمن ، و لعل هذا راجع لأسباب عديدة يأتي في مقدمتها الموت الذي غيب الكثير من أهل البلدة و كذا التهميش الذي رزحت البلدة تحت وطأته لعقود كثيرة مما دفع بعض الأسر للهجرة نحو مناطق أخرى حيث الآفاق المساعدة للأبناء في استكمال دراستهم ، و الغالبية امتهنوا وظائف في مدن أخرى ، إضافة إلى هذه الأسباب فقد  عرفت البلدة مؤخرا توافد أعداد هائلة من الناس قصد العمل في ضيعات النخيل التي اكتسحت مساحات شاسعة امتدت شرقا و غربا و لم تترك أرضا صلبة إلا هزت تربتها و صيرتها خصبة لغرس النخيل ، استثمر فيها بعض الأغنياء  الذين قصدوها من مناطق مختلفة من أرض الوطن ، شجعهم على ذلك وفرة المياه الجوفية بالمنطقة .

و هكذا ذاب السكان الأصليون وسط هذه الأعداد الكبيرة من الوافدين و انحلت تلك الروابط و العلاقات الاجتماعية المبنية على التآزر و التزاور و جلسات المرح.

 غير أن ما يثير الخوف في نفوس الواحاتيين هو الاستنزاف العشوائي الذي تتعرض له المياه الجوفية مما ينذر بكارثة في المستقبل و قد بدا أثرها واضحا على الواحات التي تعتبر مصدر عيش لسكانها مما سيضطر معه هؤلاء البسطاء للهجرة بحثا عن سبل أخرى للرزق و هو ما يزيد من غياب أبناء البلدة الأصليين .

فإلى عهد قريب جدا كانت البلدة تعرف إشعاعا ثقافيا

قل نظيره ، حملت مشعله بعض الجمعيات الرائدة ثقافيا و فنيا و رياضيا ، شاع صداها إقليميا و وطنيا و لكن للأسف الشديد ، انطفأت جدوتها مؤخرا ، و لم يبق من بريقها إلا ضوء خافت يبعث الحزن و الكآبة . 

الغريب في الأمر أن كل شيء تغير رأسا على عقب في مدة قصيرة جدا لا تتعدى عشر سنوات . باختصار لم يعد الزائر من أبناء البلدة عند زيارته لها يشعر بذلك الدفء و المتعة التي كانت تغمر قلبه قبل هذا الوقت ، و لعله السبب الرئيس الذي لا يشجع أبناء البلدة المقيمين في مدن أخرى على الإكثار من الزيارات 

مادامت الزيارات مبعث حزن و أسى على بلدة تعيش التهميش على جميع الأصعدة ، بيد أن  لها تاريخ عريق

و خصوصيات  يضرب بأخلاق أبنائها و ثقافتهم المثل ، كما أن مقابرها تذكر بأحبة كانت لهم أيادي بيضاء في صناعة مجدها التليد ، و قد غادروها إلى دار البقاء 

دون أن تتحقق آمالهم في أن تحضى بالحظ القليل من

التنمية على غرار بلدات أخرى .

حب العمل مبعث الإبداع

 حب العمل مبعث الإبداع

          قرأت في تدوينة أحدهم هذه القولة :

 ( علمني أبي حرفة و لم يعلمني أن أحبها )

فأثارتني و انتابتني رغبة ملحة في إبداء رأيي المتواضع فيها ، إذ وجدت في معانيها ما ينطبق على واقعنا البئيس .

لا شك أن الكثير من الناس قد يشاطرونني الرأي و نحن نرى أن أغلب الوظائف يتقدم إليها شبابنا مكرها ، لا رغبة له فيها و لكن اضطرته الظروف لأن يلجها رغما عنه لينجو من مخالب البطالة ، هدفه الأسمى في ذلك أن يعول نفسه و أسرته .

إذن كيف تريد ممن لا يحب وظيفته أو مهنته أن يبدع فيها 

و يطورها و يعطي المردود المرغوب و قد سيق إليها مكرها مما يولد لديه عدم الاهتمام  ، و لعل أكثر القطاعات تضررا من هذه الظاهرة هو قطاع التعليم ، لكونه الأصل في صناعة الأجيال تربية و تعليما و تذوقا ، لهذا  لا يمكن لأي كان أن يبدع فيه و يفيد إلا إذا كان يعشقه عشقا جما ، و لكن الواقع الحالي يثبت عكس ذلك إلا في حالات نادرة إذ  أصبحنا نرى اليوم أعدادا كبيرة من الطلبة الذين سدت في وجوههم أبواب رغباتهم ، يلجأون إلى هذا القطاع لأنه الملجأ الأخير و المنقذ الوحيد من البطالة ، خصوصا و أن الدولة تحتاج في كل سنة إلى أعداد كبيرة لتوظيفها في هذا القطاع الحساس من مختلف الشعب و التخصصات ، بل الأغرب أن أغلب خريجي الجامعات ليسوا على ذلك المستوى الثقافي 

و الرصيد المعرفي و الاتزان الخلقي الذي يؤهلهم للقيام بمهمة التربية و التعليم ، فترى بعضهم يشارك في مباراة التوظيف في شعبة لا تتلاءم و تكوينه الجامعي ، لأنه يرى الطلب عليها كبير فيضطره هذا الخصاص لأن يجتاز  المباراة و لو في غير تخصصه ، فإذا حالفه الحظ و نجح ، تجده يعاني من عدم قدرته على تدريسها بنجاعة ، إضافة إلى أن التكوين الذي يتلقاه في أشهر قليلة لا يكفي لأن يلم بأسرار الشعبة التي اختارها على مضض ، كما أن جودة التكوين خلال هذه المدة الوجيزة لا تؤهل المتدربين للتمكن من العدة البيداغوجية ، و هذه كلها عوامل تنضاف إلى غيرها   مما لا يغرس في نفس المدرس المتدرب حب المهنة 

و إتقانها مادام يشكو تعثرا فيما أسند إليه ،  لأن فاقد الشيء لا يعطيه .

 هذا من جهة و من جهة ثانية فالسواد الأعظم من الشباب لم يختر هذه المهنة عن حب و رغبة و إنما ساقته إليها الظروف مكرها ، إذن ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح :

ترى هل سيؤدي هذا و أمثاله الرسالة على الوجه الأكمل . و هل سيعطون  المردود المطلوب و النتيجة المتوخاة ؟ .

 الجواب بكل بساطة إذا كنا فعلا نروم إصلاح التعليم باعتباره القاطرة الأساس في كل تنمية ، أن نختار له الكفاءات العالية معرفيا و أخلاقيا و نرفع من شأنهم ماديا و معنويا و نوفر لهم كل الوسائل التي تيسر العمل و تشجع الإبداع ، معتمدين في ذلك على المناهج و البرامج المفيدة التي تساير مستجدات العصر .

إضافة إلى هذا فلن تتحقق النتائج إلا  بالقدوة أولا و الكفاءة ثانيا و الإخلاص ثالثا و حسن التواصل رابعا ، و هذه الشروط الأربع من الضروري أن يلم بها كل مدرس في أي سلك كان ، و أي خلل في أحدها ، ينعكس على العملية التربوية التعلمية و هذه الشروط الأربع لا تتوفر إلا في شخص يحب هذه المهنة حبا كبيرا ، مدركا لغاياتها النبيلة ، مفتخرا بانتمائه لها ،  مستعدا للتضحية في سبيل تنوير عقول الناشئة و تحقيق أهداف أمتنا الدينية والوطنية .

الحقيقة المرة

 الحقيقة المرة


الحقيقة التي لا ينكرها عاقل أننا نعيش فترة تاريخية لم تشهد البشرية أسوأ منها ، فكل الفترات الزمنية السابقة لها محاسن 

و مساوئ ، و هذا أمر طبيعي في حياة البشر ، غير أن هذا العصر الذي نعيشه اليوم جمع كل نقائص الفترات السابقة و أدار ظهره للعديد من محاسنها ، و هو ما نلحظه على جميع الأصعدة و في جميع مجالات الحياة اليومية البئيسة التعيسة ، فقد ظهرت في عصرنا هذا أمور لم تكن لتخطر على بال أحد ، بل يعتبرها ذوو العقول السليمة من باب المستحيلات أن تنتشر في أوساط بني البشر ، و لكن للأسف ها هي تحدث في عصرنا ، مما جعل الأسوياء يستغربون من هذا الكائن الذي ميزه الله بالعقل و النطق أن يأتي مثل هذه السلوكات الغريبة و المخزية التي تستحيي البهائم العجماء أن تأتي مثلها ، و لا داعي لعد هذه النقائص الخبيثة مادامت معروفة لدى الجميع ، يقرها الخبثاء و يتبرأ منها الصلحاء و لو أن المصلحين قليلون ، و لا يكاد يسمع لهم صوت في الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ، و كان الأجدر أن يكون عصرنا راقيا بكل المقاييس لأنه عرف طفرة علمية و تقدما تكنولوجيا حبذا لو سخرا في تحضر الإنسان و سعادته ، 

و لكن للأسف الشديد فهذا التطور العلمي صاحبه تخلف و تدني أخلاقي لم يسبق له مثيل ، و هذا راجع لعدة أسباب يأتي في مقدمتها الابتعاد عن النهج الرباني و الفطرة السليمة التي هي الأصل في سعادة الإنسان ، و التي من أجلها استخلف الإنسان في الأرض ، غير أن أنسان عصرنا تمرد على هذه الفطرة  فتجرد من إنسانيته و انبهر بحضارة الغرب المادية في ظاهرها و المنخورة أخلاقيا في جوهرها ، فانجراف مع تيارها اللاديني المعادي للإسلام  في انحلاله الخلقي و استهتاره بالقيم مما أفقد الناس بوصلة الحق و أضلهم عن الطريق السوي ، فانتشر الفساد و عم جميع القطاعات ، و أصبح الإجرام و الطمع و العري و التفاهة 

و غيرها من الفواحش هي العملة الرائجة ، و أضحى السلوك المتزن هو الحالة الشاذة ، فاستبدل العلم  و الثقافة بالجهل 

و الخرافة و الفن الهادف بالتفاهة الساقطة ، و العدل بالظلم ، 

و الاستحقاق بالزبونية و المحسوبية ، و الواجب بالاستهتار ، 

و ... و ... و ...  إلخ مما يثير الغثيان و تشمئز النفس لذكره .

فرطنا في قيمنا الإسلامية الراقية ، و فرطنا في تراثنا بكل أشكاله و تنوعاته ، و تجردنا من خصوصياتنا التي تتبث هويتنا 

و انتماءنا ، و شغلتنا المصالح الشخصية عن القيام بالواجب على أحسن وجه ، فأصبح كل ذي منصب يسعى إلى الثراء و لو بأساليب ملتوية ، مما انعكس سلبا على القطاعات الحيوية التي تعتبر عماد التقدم و التنمية و في مقدمتها قطاع التعليم و الصحة

و العدل و غيرها ، و عدم التدبير المحكم لموارد البلد التي عوض أن تخصص لهذه القطاعات الحية ، أصبحت تصرف على التوافه 

و الكماليات التي لا تزيد البلد إلا تأزما .

فمتى تستيقظ الضمائر ، لنتصالح مع ذواتنا ، فنأتمر بأوامر ديننا 

و نتنهى بنواهيه ، و نتشبت بهويتنا و خصوصياتنا و لا ننساق مع التيارات الخارجية الماجنة و أن نبني وطننا من خلال إصلاح قطاعاتنا الحيوية ، و أن نجعل كرامة المواطن فوق كل اعتبار ، 

و نتصدى للفساد و المفسدين ، و نقطع مع التفاهة و التافهين ، 

و هذا يقينا ما سيجعلنا على السكة الصحيحة لبناء هياكل هذا الوطن على أسس متينة ، نتنعم بها و نورثها لأجيالنا القادمة ، فإن لم نفعل ، فنحن المسؤولون عن كل ما سيؤول إليه هذا الوضع المزري الذي لم يعد يرضي صغيرا و لا كبير ممن يملكون ضمائر حية و عقول نيرة .