⭕ العبودية ⭕

العبودية
مخدوع و مغفل من يظن أن عهد العبودية قد ولى و انتهى زمانه ، نعم لم تعد هناك أسواق النخاسة حيث يباع و يشترى العبيد ، و اعتقد الناس أنفسهم أحرارا ، و أنهم قطعوا الصلة بزمن الرق و الاستعباد ، و حقيقة الأمر أن تلك القيود و الأغلال التي صفدت بها أرجل العبيد قديما قد صفدت بها ضمائر بعض البشر حاليا ، إذن  فالعبودية مستمرة و موجودة و أن الذي تغير بين الأمس و اليوم هو الظروف السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و ما عرفته القرون الثلاثة الأخيرة من مستجدات و أحداث كبرى قلبت وجه العالم و جعلت الهيمنة الاقتصادية و الرأسمالية المتوحشة الجشعة هي الأساس الذي به تسود الأمم و تتبوأ مقدمة الركب الحضاري ، و لبلوغ أهدافها  اتخذت كافة الأسباب العلمية و التكنولوجية ، و استغلت ضعف بلدان أخرى ، فجعلت منها موردا لكل ما ينقصها من مواد خام ، و هي تعمل جاهدة على أن تبقى هذه الدول المتخلفة رازحة في براثين الجهل و الفقر ، حتى لا تقوم لها قومة ، و تحاول جاهدة أن تسد أمامها أي طريق يمكن أن ينهض بها و يجعلها تتسلق سلم النمو و الرقي ،  و لأجل ذلك فهي تتدخل في أنظمتها و تملي عليها ما يخدم مصالحها هي أولا كقوى عظمى ، فتشجع الريع و الفساد اللذان تستفيد منهما شريحة قليلة في هذه المجتمعات المتخلفة لأن هذه الشريحة ذات الثراء الفاحش هي التي تحافظ و ترعى مصالح الغرب ، فتجد هذا الأخير يقدم  معونات و مساعدات يظهر من خلالها حسن النية ، أما سوء النية فيضمره في قروض يثقل بها  كاهل الشعوب المستضعفة  فيجعلها في تبعية  دائمة له ،  أليست أصفاد  هذه العبودية أشد إذلالا من سابقتها ؟
كن ثاقب الفكر واسع النظر ، و انظر من حولك ترى أشكالا و ألوانا من الاستعباد تختلف صوره و تجلياته بين طبقات الشعوب المتخلفة خصوصا ، يظهر ذلك جليا في الهوة السحيقة و البون الشاسع بين الأقلية البورجوازية في هذه المجتمعات و الأغلبية  الكادحة المغلوب على أمرها ، فتجد العمال يكدحون و يهرقون عرقهم من أجل أجر زهيد لا يكاد يسد ضروريات الضروريات ناهيك عن الكماليات فهي مجرد أحلام بالنسبة لهؤلاء ، في حين ترى الملاك الكبار و أرباب الشركات و ذوي المقاولات الكبرى و أصحاب المناصب العليا ينعمون بالأرباح الطائلة الخيالية و بأقل مجهود بل و بدونه ، فالعبد قديما كان يقوم بالأعمال الشاقة ويسكن زريبة محادية للاصطبل و الحظيرة ، و يقتات على فضلات أسياده ، فأي فرق بينه و بين الكادح في أيامنا هذه ، فهذا كذلك يكتري بيتا جد متواضع هو أشبه بخربة ، و في أحسن الأحوال قد يمتلك بيتا في أحياء الصفيح لا يقيه حر الصيف و لا قر الشتاء ، و يقتات على الحد الأدنى من العيش الذي يتناسب و أجرته الهزيلة ، و هو عيش يسد رمق الجوع بكل ما هو ضروري و رخيص ، و لو كان كسابقه من العبيد يعيش على فضلات الارستقراطيين لكان أفضل بكثير من عيشته الحالية ، لأن فضلات و بقايا طعام الأغنياء في أيامنا هذه هو أفضل و أدسم و أغنى فيتامينات مما يعيش عليه الكادح المقهور ، و الأدهى و الأمر أن بقايا الطعام ترمى في القمامات و لا يستفيد منها ذلك المحتاج ، و لشدة فاقته و احتياجه تجده يتملق بل يرتعد أحيانا أمام مشغله لا لشيء و إنما للحفاظ على ذلك الأجر الزهيد ، و منهم من يستغل العامل خارج أوقات العمل في مآربه الشخصية و العائلية ، أليست هذه عبودية في أبهى صورها بل و في أبشع تجلياتها ؟
لا يخفى على كل متتبع للشأن التعليمي ما وصل إليه المستوى التعليمي في بعض البلدان المتخلفة من تدني و انحطاط نتيجة العشوائية و التبعية للغرب في انتقاء البرامج و المناهج دون مراعاة خصوصيات البلد و دون رسم خريطة طريق يفضي إلى الغايات المنشودة ، و عدم تهييء الجو الملائم من بنيات تحتية و ما يناسبها من مستلزمات ، بل نكتفي باستيراد الدواء دون تشخيص دقيق للداء مما يضيع علينا الكثير من الوقت و الجهد من غير نتيجة تذكر ، و نستغيث بالغرب و مناهجه ، أليست هذه التبعية نوع من العبودية ؟
لقد انساق الناس وراء التقليد في كل شيء دون تفكير فيما يقدمون عليه و دون عرضه على الشرع و العقل ، و كأنهم قطيع يهيم على الأرض لا وجهة لهم و لاغاية ، أليس هذا التقليد الأعمى الأصم الأبكم شكلا من أشكال الاستعباد و التبعية .
ألا يعتبر التلوث السمعي البصري الذي طال الفنون التعبيرية ، و أفسد الأذواق و بلد الحس الجمالي و الوجداني نوع من الاستعباد للتافه من سفاسفة الأمور .
و يأتي أحدنا اليوم و يقول عن جهل إننا ننعم بالحرية ، أي حرية حين لا تطمئن الجنوب في المضاجع ، حين يبيت الكادح المسكين يفكر في كيفية توفير كيس من الدقيق لعياله ، و يا حبذا لو اقتصر الأمر على ذلك ، بل ينشد الأمن و الآمان فلا يجده ، فهو يسمع في كل يوم إن لم نقل في كل ساعة عن الاعتداءات بالسلاح الأبيض التي يتعرض لها الأبرياء من بني شريحته في واضحة النهار ، أما الخروج ليلا فقد أصبح من سابع المستحيلات ، فكيف لا يصاب الناس باليأس و الإحباط و الكآبة و هم يعيشون بين مطرقة الفقر و سندان الإجرام ، أليس الاستعباد المصحوب بالأمن أرحم من الفقر المصحوب بالخوف ؟
اذا قارنا حياة الرقيق قديما بحياة الكادحين حاليا وجدنا تشابها في نمط الحياة ، فقد كان أغلب العبيد يتعرضون لأنواع الإساءة و التنكيل من قبل أسيادهم ، و المحظوظ منهم من أعتق أو استغني عنه ، بل منهم من أقدم على الانتحار إراحة لنفسه من العذاب ، و هو الأمر نفسه يتكرر مع الكادحين من بسطاء القوم في يومنا هذا و إن لم يكن بنفس الحدة التي كانت لدى العبيد ، فتجد السواد الأعظم منهم صابرين متحملين ضنك العيش ، و القلة القليلة منهم ساعدهم الحظ و أراد  الله بهم خيرا ففتح لهم سبل العيش في بلدان المهجر التي تجعل كرامة الإنسان أولى أولوياتها ، و تؤمن بالديمقراطية قولا و فعلا ، حتى بات العبور نحو هذه الجنان حلم كل مقهور ، و أصبح الشباب يجازف بحياته في قوارب الموت عساه ينعم بعيش كريم ، غير أن أغلب المهاجرين السريين كانوا طعاما للحيتان الجائعة ، فلما شبعت الحيتان من جثثهم ، عافتها ، و إذا البحر يلفظها نتئة على الشواطئ ، فأي قهر هذا الذي يدفع بالانسان في عرض البحر و هو يعلم أن فرص نجاته ضئيلة جدا ، إنه حقا انتحار معنون ببصيص من الأمل لا أقل و لا أكثر ، في حين يرى البعض أنه لا داعي للانتحار غرقا ، فينتحرون شنقا أو بأي وسيلة تريحهم من عذابهم ، و هم بذلك لا يختلفون عما كان العبيد يفعلونه ، و لعل هذا أكبر دليل على استمرار الاستعباد نتيجة الفوارق الفضيعة .
ما قيل لا يعتبر إلا غيض من فيض ، و لا حصر للأمثلة في هذا السياق ، فمتى يمكن أن نجزم القول بأننا قطعنا مع العبودية و الاستغلال هو عندما نرى أن الهوة بين الطبقتين قد تقلصت ، و أن المواطن مهما كان عمله أو وظيفته ينعم بالعيش الكريم و أن جميع الضروريات متوفرة له و لا يجد مشقة في اقتنائها ، و لم لا بعض الكماليات البسيطة ، وفوق هذا و ذاك ان ينعم بالأمن و الآمان يتجول حيث يشاء و يجلس حيث يطيب له الجلوس دون أن يتعرض للأذى ، نعم الفرق وارد و معقول بين شرائح المجتمع ولكن المطلوب أن يكون هذا الفرق في الكماليات ، فأذا كان الارستقراطي يسكن القصور و الفيلات وهو أمر عادي ، فينبغي أن يسكن العامل أو الموظف البسيط منزلا لائقا يرتاح فيه مع أسرته فهو لا يطمع في أكثر من ذلك ، و إذا كان البورجوازي يأكل الفواكه و الأسماك و اللحوم الباهضة الثمن فلا بأس بذلك ،  غير أن ذلك البسيط ينبغي أن يأكل الفاكهة و السمك و اللحم الرخيص ، إذا كان الغني يقضي عطله خارج البلاد ، فلا ضير أن يقضيها المواطن البسيط داخل البلاد ، إذا كان الميسور يمتلك عددا من السيارات الفارهة ، فذلك الموظف و العامل البسيط تكفيه سيارة واحدة من النوع الرخيص جدا ، و هكذا يكون الفرق بين الناس غير ملحوظ و ليس له نفس التأثير الذي نراه اليوم ، أما والحالة هذه فلا أظنها إلا عبودية و استغلالا ، مما يزيد الغني غنى و تسلطا و استبدادا  و يزيد الفقير فقرا و خنوعا و إذلالا فلا تستغرب إذا قلت أن استعباد البشر ما زال مستمرا في غياب الأخذ بعين الاعتبار كرامة الانسان فوق كل اعتبار ، و هو في الخفاء يتشكل بأشكال السياسة و يتلون  بألوان الاديولوجية ، ليخفي الشمس بالغربال و لكن الكثير من الناس منخدعون ببعض المظاهر و الشعارات البراقة ، من قبيل حقوق الانسان و التنمية المستدامة و الاصلاح الاداري و ربط المسؤولية بالمحاسبة ، و المقاربة التشاركية و غيرها من المصطلحات الرنانة ، و كلها شعارات خادعة لا وجود لها على أرض الواقع ، و إنما تدر الرمد في العيون ، ليتعلق الكادحون بآمال وهمية ، و يستمرون في طاعة الميسورين مقابل لقمة العيش ، و إن كانت على حساب كرامتهم و انسانيتهم ، و لكن هيهات أن ينخدع  كل ذي عقل راجح و فكر حر ، يرى الأمور بمنظور المنطق السليم ، و ختاما إذا اجتمع الجهل و الفقر و الخوف فتلك عبودية كاملة الأركان و لا مجال للجدال في ذلك ، لهذا إذا كان الإنسان الأبي لا يرضى أن تكبل يداه و رجلاه ، فكيف يرضى أن يكبل ضميره .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق