موت الضمير

       

                    🔎   موت الضمير  🔎


    يحكى أن مجموعة من اللصوص كانوا يعيشون في منطقة ساحلية ذات بحر مترامي الشطآن يزخر بأنواع لا حصر لها من السمك اللذيذ ، و بها  أراضي فلاحية تمتد امتداد البصر تنتج من الحبوب و الخضر أجودها  و من الفواكه ألذها 

و من المعادن أنفسها ، مما أجج نار الجشع

و الطمع في نفوس اللصوص الذين سخروا

قوتهم و جبروتهم و استبدوا بكل هذه الخيرات

و لم يتركوا لسكان المنطقة غير القليل ذي الانتاج

الضئيل . و رغم ذلك فالسكان قانعون بذلك اليسير

يقتسمونه بينهم و لا يهفون إلا للعيش في أمان

من طغيان اللصوص و سطوتهم ، لذلك قابلوا

فقرهم و تهميشهم بالرضى و الإذعان و عوضوه بالمرح و اللهو من غناء و رقص غير مبالين بالبذخ و الترف الذي يعيشه اللصوص ما داموا لا يستطعون ردعهم ، بل اكتفوا بما فضل عنهم محاولين خلق السعادة فيما ملكت أيديهم ،

غير أن ظلم اللصوص و جشعهم كثيرا ما ينغص

عليهم تلك السعادة الزائفة ، فيرتمون على

أحد حقوقهم المشروعة فيسلبونه منهم و لمكرهم

يترقبون ردة فعلهم إزاء هذا القرار ، لكن لا أحد من المغلوب على أمرهم يبدي انتفاضة ، مما 

يدفع اللصوص للتفكير في سلب حق آخر ، 

و هكذا دواليك ، مثلهم في ذلك كمثل رجل 

تسلط على أحدهم و سلب منه جلبابه عنوة

و أخذ يترقب ردة فعله ، فإذا لمس منه الخنوع ،

تجرأ مرة أخرى و نزع عنه قميصه ، فإن لم يبد

مقاومة سلب منه سرواله و هو يظن أن هذه لن 

يجد معها صاحبنا صبرا و لكن تفاجأ السالب أن المسلوب منه لم يقل شيئا رغم عدم رضاه ، و لم

يبق عليه غير الملابس الداخلية ، ترى هل سينفجر

و يثور إذا ما نزعها هي الأخرى عنه و تركه عريانا

كيوم ولدته أمه ، هذا ما يدور في ذهن الطاغي ،

و هو الأمر نفسه الذي يفكر فيه اللصوص ، فهم 

كذلك لم يتركوا إلا ما يسد به المساكين الرمق ،

فماذا ستكون ردة فعلهم لو أخذوا منهم حتى ذلك الفتات ؟

و كيف سيتصرف هؤلاء المقهورون لو مسوا في أعراضهم ؟

لعل هذا ما أصبح اللصوص يخشونه بعد أن جردوهم من كل الحقوق ، فقد يبلغ السيل الزبى

بهؤلاء يوماو ينفجرون انفجارا يأتي على الأخضر و اليابس إذ ليس لديهم ما يخسرونه وهم الأكثر عددا و طبعا سيكون الخاسر الأكبر هو تلك الشردمة من اللصوص و ينقلب السحر على الساحر 

لذلك ارتأى اللصوص أن يزرعوا الخوف في النفوس و أن يضيقوا عليهم سبل العيش فيجعلوهم يركضون خلف اللقمة ، و يخلقوا لهم أخبارا و حوادث و تفاهات و برامج  في غاية المجون و الاستبلاد و أشياء أخرى من هنا و من هناك يتلهى بها المستضعفون و لا تترك لهم مجالا للتفكير في مواجهة اللصوص و استرجاع بعض حقوقهم ، و لحد الآن يظهر جليا أن  سياسة مكرهم و استغفالهم قد أتت أكلها في الوقت الحاضر ، و لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو إلى متى يدوم هذا الوضع على حاله ؟

       يا من أعمى الجشع بصائرهم وغشيت القسوة قلوبهم و ملأ الثراء الفاحش بطونهم فأصبحتم مجردين من كل القيم الإنسانية ، ألم تستحيوا 

و قد نزعتم عن الشعب كل ملابسه قطعة تلوى الأخرى و لم يبد مقاومة بل ترككم في طغيانكم تعمهون ، اعلموا أنه لم يبق عليه إلا ملابسه الداخلية ، فحذار أن تسول لكم أنفسكم نزعها 

فهي آخر ما تبقى لديه لستر عورته ، فإن فعلتم فأذنوا بانفجار لا يبقي و لا يدر ، لا يستثني و لا يختار ، لا يتوقف و لا يتقهقر و العاقبة للمتقين.


                      💼  بقلم  زايد  وهنا  💼



عودوا إلى رشدكم

 


              ☚  عودوا إلى رشدكم


        الكلام موجه إلى أولئك القيمين على قطاع التربية و التعليم ،  الذين يدعون إصلاحه

و يتمشدقون صباح مساء بالوقوف على مكامن ضعفه و ترديه ،و يحاولون حسب اعتقادهم الرفع من مستواه الذي وصل إلى درجة من التدني يندى لها جبين كل الغيورين المحبين لهذا الوطن .

فمنذ أزيد من عقدين و هم يخبطون خبط عشواء 

يبنون و يهدمون ، يضيفون و يحذفون ، مثلهم في ذلك كمثل المنزل الذي كتب عنه توفيق الحكيم 

و سماه :

  "  بيتنا الذي لم يتم "

و رغم ذلك لم يعترفوا بفشلهم و لم تتم محاسبتهم على ما أهدروه من ميزانيات و ما فوتوه على التعليم طيلة هذه المدة ، و لازال مسلسل الارتجال و العشوائية مستمرا ، و ما زلنا

نتذوق مرارته .

فلهؤلاء أقول إن كنتم فعلا تريدون خيرا بهذا الوطن و أهله و لديكم حسن النية لإصلاح أعطاب التعليم و الرفع من مستواه ،  ضعوا نصب أعينكم خصوصيات بلدنا و بيئتنا ، فربما ما يصلح في بلد آخر قد لا يجدي نفعا في بلدنا ، فلا نتكل على الغير ، و قد أثبتت التجارب فشل العديد من تلك

المحاولات .

لذلك ينبغي التركيز على هويتنا و ديننا  وخصوصياتنا و مقدساتنا و أمجاد تاريخنا و لغتنا و نجعلها منطلقا لاستشراف مستجدات العصر 

و مسايرة الركب الحضاري العالمي و الاستفادة من

حسناته و نبذ مساوئه .

كما ينبغي أن  يضع هؤلاء ( المصلحون ) في حسبانهم أن جميع القطاعات تستمد قوتها و نموها من قطاع التعليم لأنه هو المغذي الرئيسي لها جميعا و هي بدورها بمثابة روافد تصب في المجرى الكبير الذي هو التعليم ، فيحدث التناغم 

و الانسجام إذ لا يمكن أن يؤتي إصلاح التعليم أكله بمعزل عن باقي القطاعات الأخرى .

إذن بكل حرقة و غيرة أود أن أدلي بوجهة نظري التي أرى فيها الصواب و الخلاص و التي استنبطتها من خلال تجربتي في هذا الحقل لأكثر من ثماني و ثلاثين سنة ، خذوا منها ما ترونه صائبا و دعوا عنكم ما ترونه غير ذلك و بالله التوفيق .


⚫  لا إصلاح دون استشارة أهل الخبرة 

و التمرس من رجال و نساء التعليم و الأخذ برأي 

المحنكين منهم .

⚫  الاهتمام بالبنية التحتية ، و توفير جميع مستلزمات العمل التربوي التعلمي ، دون تهميش

للمناطق النائية .

⚫  تحسين وضعية رجال و نساء التعليم المادية 

و المعنوية ، و إرجاع الهيبة و القيمة المعنوية التي كانت قديما عند المربي .

⚫  لا يتقدم لهذه المهنة الشريفة المتعبة 

و الرسالة النبيلة إلا ذوو الكفاءة العلمية و السلوك الحسن ، بحيث يتم الانتقاء وفق هذين الشرطين دون محسوبية أو زبونية ، و لا يهم السن إذا توفرت في صاحبه هذه الشروط مادام لم يتعد سنه الخامسة و الأربعين .

⚫  ينبغي ألا تقل مدة التكوين عن سنتين ، يتلقى فيها المتدربون العدة الكافية ، ليتخرجوا

و هم على مسكة عظيمة من الطرائق البيداغوجية

و حمولة كبيرة من علم النفس و معارف دقيقة شاملة .

⚫  توفير الجو الملائم للمربي للقيام بعمله بعيدا

عن الضغوطات و تخفيف العبء عليه ، إذ لا يصح

تكليفه بمهام إضافية كالحراسة و غيرها .

⚫  التخفيف من ساعات العمل بالنسبة للمربي

و المتعلمين الذين يعملون أكثر من أربع و عشرين ساعة في الأسبوع ، مع مراعاة ظروف سن المتعلمين .

⚫  الاهتمام بالمواد الأساسية التي يتطلبها 

العصر دون إغفال التربية الاسلامية لأنها أكثر المواد التي تقوم السلوك ، خصوصا و أن سلوكات

أغلب شبابنا قد شابها الانحراف ، شعارنا في ذلك

  " لا تعليم بدون تربية "

⚫  إرجاع الهيبة للمؤسسات التعليمية ، بحيث

لا يقبل من أي كان أن يمس كرامة العاملين بها 

أو يخرب تجهيزاتها ، و تطبيق العقوبات الزاجرة الرادعة لكل من سولت له نفسه الإخلال بالنظام العام .

⚫  لا ينتقل من مستوى إلى أخر إلا المجدون

الذين حصلوا على المعدل باستحقاق ، و لو كانوا

قلة ، دون اعتبار للخريطة المدرسية التي كانت

تفرض نسبة نجاح كبيرة دون استحقاق ، و هو

الأمر  الذي  أفرز  أفواجا عديدة من حملة الشهادات  ، أغلبهم يجهل أبسط الأمور في تخصصه ، ناهيك أن يعرف شيئا خارجه ، فما معنى أن يكون الطالب مجازا مثلا في الأدب العربي و هو لا يتكلم لغة سليمة و كتاباته خطها يكاد لا يقرأ ، مليئة بالأخطاء النحوية و الإملائية ، لا علم له بمؤلفات القدامى و المحدثين ، فكيف حصل مثل هذا على الإجازة ؟ و كيف يفيد غيره ؟

لهذا ينبغي ألا تمنح الشهادات سواء الباكلوريا 

أو الإجازة أو الماستر أو الدكتورة إلا إلى من يستحقها عن جدارة  بكفاءته و تمكنه و إلمامه . 

⚫  التراجع عن تمديد سن التقاعد إلى ما كان

عليه سابقا ، إذ لا يمكن للمربي الذي قضى بين خمسة و ثلاثين سنة و أربعين سنة في هذه المهنة 

الشاقة أن يعطي العطاء المرغوب ، ليس تماطلا

منه و لكن لظروفه الصحية التي باتت عاجزة عن

تقديم الدروس بنفس الجدية التي كان عليها ،

مما ينعكس سلبا على المردودية وبالتالي يتضرر

المتعلم الذي هو محور العملية كلها .

⚫  العناية بفئة المتقاعدين الذين أفنوا زهرة

شبابهم في خدمة هذا الوطن ، فهم في أمس الحاجة إلى المساعدة و لا ضير في منحهم بعض

الإمتيازات و التسهيلات لقضاء مآربهم في سائر

الإدارات .

⚫  تقديم المساعدة الكاملة لرجل التعليم عند

قضاء مآربه في الإدارات العمومية الأخرى ليتسنى له الالتحاق بعمله دون إضاعة لوقت المتعلمين .

⚫  تعيين أستاذ مساعد للمدير في مهام الإدارة

و تكليفه بالتدريس في حالة غياب اضطراري

لأحد الأساتذة .

⚫  تحفيز رجال التعليم بالترقية في الدرجات 

و الرتب و تكون تعويضاتها مشجعة ، مع فتح باب

الترقي إلى خارج السلم للذين استوفوا شروط الترقي ، و يشمل ذلك جميع الأسلاك التعليمية .

⚫  ينبغي أن يعيد الإعلام النظر في برامجه

لتكون في خدمة التربية القويمة و العلم النافع .

و ذلك بتقديم برامج إعلامية تلفزية و إذاعية مكثفة تهدف إلى توعية الأسرة بدورها الكبير في تربية أبنائها .

⚫  تشجيع البحوث العلمية و الأدبية الهادفة ،

و مكافأة أصحابها ليكونوا قدوة لغيرهم في الجد

و العمل الذي يرفع شأن الوطن بين الأمم ،

و القطع مع التفاهات التي يشجعها الإعلام حتى باتت هي النموذج في سلوك شبابنا .

⚫  الرفع من قيمة المنح الدراسية بالنسبة لطلبة

الجامعات و المعاهد ، و تقديم العون للمعوزين

من التلاميذ بجميع الأسلاك ، للحد من الهدر المدرسي .

⚫  تشجيع المتفوقين من التلاميذ و الطلبة 

بجوائز قيمة تشجيعا لهم و تحفيزا لزملائهم .


و غير هذا مما قد أغفلناه في هذا المقال ، و من

شأنه أن يساهم في الإصلاح .

لهذا أعتقد اعتقادا راسخا أننا لو أخذنا بهذه الأمور

نكون قد وضعنا القاطرة على السكة الصحيحة 

و لن تمر إلا سنوات قليلة حتى نجد أنفسنا قد

تبوأنا المنزلة الرفيعة و تسلقنا سلم الحضارة

العالمية ، و هذا لن يعجزنا إذا أخلصنا النية 

و تجندنا بكل ما أوتينا من قوة و طاقة لتحقيقه ، 

و غير هذا لا أظنه يوصلنا إلى المبتغى و سنظل

نتعثر و لن يزيد ذلك الارتجال الحال إلا سوءا ، 

و هذا ما لا يتمناه عاقل غيور على بلده و أهله .


                 💼  بقلم   زايد  وهنا  💼



أين أنت من السعادة

 ❔  أين أنت من السعادة  ❔


           منذ أيام و بينما كنت أتنقل بين مواقع التواصل الاجتماعي و التي لا أتصفحها إلا نادرا ، وقع بصري على سؤال طرحه أحدهم يسأل الرواد عن الشعب الأكثر سعادة في العالم ، تصلب نظري على السؤال و أعدت قراءته 

و انطلقت فورا أتفحص التعليقات التي تذيلته ، فلم أرى فيها ما يشفي الغليل إذ كانت بين ساخر من السؤال و جاهل

لمراميه ، مما أثار في نفسي فضولا ، و حرك في بواعث الكتابة ، أغلقت الهاتف و طفقت أفكر في ماهية السؤال برهة ثم شرعت أكتب ما يلي :

لا يمكن أن نصنف شعبا و نميزه بالسعادة إلا إذا كان أهله يعيشون في أمن و أمان و اطمئنان و رغد و كرامة،

 يسود في مجتمعهم العدل و المساواة و تكافؤ الفرص ، الدخل الفردي لديهم مرتفع ، خدمات القطاعات الاجتماعية عندهم في أعلى مستوى ، لا فوارق طبقية ملفتة بين أفرادهم ، الكل يتمتع بحقوقه لا فضل لأحد على آخر ،

الجميع سواسية أمام القانون لا فرق بين رئيس و مرؤوس ، إذا زرتهم تكاد تجزم أنهم جميعا في نفس المستوى من الثراء ، يعتبرون كرامة مواطنيهم فوق كل اعتبار .

هذا الشعب حقا هو الأكثر سعادة ، غير أنني لا أظن أن هناك من يجمع بين هذه المواصفات كلها ، و لكن أخذ القليل خير من ترك الجميع .

 و هكذا تبقى السعادة في نظري نسبية تختلف من شعب إلى شعب و من فرد إلى فرد ، و لعل السعادة الحقيقية بنسبة كبيرة في ديننا الاسلامي لأن فيه من بواعثها و أسبابها ما ليس في غيره من الديانات الأخرى ، فلو أخذ معتنقوه بالقليل مما ذكر سلفا لكانوا أسعد الناس على الأرض .


                  💼   بقلم    زايد  وهنا  💼

لقد أشقيتني يا عقلي

 ✏  لقد أشقيتني يا عقلي ✏


          حدث مرة أن كنت أجول في أحد الأسواق الأسبوعية بإحدى القرى النائية المنسية من الجنوب الشرقي ، و لم يكن يومها يفصلنا عن عيد الأضحى إلا أياما قليلة ، مما استوجب علي اقتناء الأضحية ، توجهت نحو المكان المخصص لبيع الأضاحي و لمحت رجلا من البدو في عقده الخامس على ما يبدو و هو منعزل عن الباعة و ضجيجهم الصاخب يمسك بيده طرف الحبل الذي أوثق به خروفه ، أعجبني شكل الخروف من بعيد فتقدمت نحوه بخطى سريعة لأتفحص الخروف عن كثب ، لاحظت في عيني الرجل نظرة تشوبها الريبة و الحذر و كأن الناس من حوله يريدون به سوءا .

بادرته بالسلام فرد علي التحية و قد طغت عليها لكنة الأمازيغية ، تداركت الأمر و طفقت أتحدث معه باللسان الأمازيغي ، فلاحظت انفراجا في أسارير وجهه و كأن عبئا ثقيلا قد أزيح عن نفسه ،احتدت المساومة بيننا حول ثمن الخروف ، تشتد حينا و تلين آخر ، انتهت بأن اشتريت الخروف بالمبلغ الذي طلبه دون أن ينقص منه شيئا .

ناولته النقود راضيا مقتنعا لا لأن الخروف أعجبني

و لكن أكثر من ذلك أنني أعجبت بدماثة خلق صاحبه 

و صدقه و صفاء سريرته الفطرية ، و هو ما أثار فضولي 

و شجعني لمواصلة الحديث معه في أمور بعيدا عن البيع 

و الشراء خصوصا و قد اطمأن إلي ، سألته لأعرف من أي قرية هو ، تبسم و أخبرني أنه من البدو الرحل لا يقطن بقرية و إنما يسكن في منزل متنقل هو الخيمة بعيدا عن القرى 

و المدن إذ لا يستقر به المقام في مكان حتى يرتحل عنه طلبا للكلإ و العشب لماشيته ، له زوجة أنجبت له بنتا و ولدين ، 

و هنا قاطعته فورا لأعرف كيف يتدبر أمور أبنائه في الدراسة و هم بعيدون عن المدارس ، و ما السبيل إلى العلاج في حالة إصابة أحدهم بمرض يستدعي نقله عاجلا إلى المستشفى ، نظر إلي نظرة المضطر وأعلمني أنه لا سبيل لتعليم الأبناء فالأمر مستحيل لمن هم في مثل حالته ، و أضاف مبتسما أنه يعلمهم الرعي و كل الأمور المتعلقة بتربية الماشية و هذا كاف ليجعلهم يعيشون عيشة الكفاف ، أما عن المرض فقد ضحك و أخبرني أنهم لا يصابون بأمراض تستدعي نقلهم إلى المستشفى ، و كيف تصيبهم و هم يقضون اليوم كله مشيا خلف ماشيتهم في الرعي ، من شروق الشمس إلى غروبها ، يستنشقون الهواء النقي ، يطلقون بصرهم في الأرض الشاسعة و لا يحده شيء غير الأفق ،لا يسمعون إلا صوت الطبيعة الجميل ، و لا يتناولون في وجباتهم إلا الحليب 

و اللبن و الزبدة و الخبز و التمر و كلها طبيعية مما تنتجه الماشية إلا القمح و التمر فهذه يقتنيها مرتين في السنة ،

بعد أن يبيع خروفا أو خروفين ، و في بعض حالات المرض قد يتداوون بالأعشاب و هذا يحدث نادرا .

إلى هنا شعرت بنوع من الغبطة -- لا الحسد -- تتأجج بين جوانحي ، و أردت عمدا أن أعرف كيف هي وجهة نظره عما يجري في بلادنا و بلدان العالم من حولنا ، فاندهش الرجل من سؤالي و قال لي أنه لا يعرف ما أقصده ، و أكد لي أنه

لم يزر قط  أي مدينة من المدن ، يسمع عنها و لا

يعرفها ، كما أنه يجهل تماما ما يجري في العالم ، لأن عالمه محصور في تلك المنطقة التي ترعى فيها ماشيته و التي لا يوجد بها أحد غيره و قد تتسع دائرة معرفته لتلك القرى المجاورة التي يرتادها مرتين في السنة لبيع الخراف و اقتناء 

الضروريات ، و ما عدا ذلك فهو لا يعرف  شيئا .

تعجبت مما قاله و أردت أن أعرف مقدار سعادته بهذا الأسلوب في حياته ، فما كان منه إلا أن أكد لي قطعا أنه 

و أسرته الصغيرة في غاية السعادة إذ ليس لديهم و لا معهم و لا قريبا منهم ما يكدر صفو عيشهم ، عندها أحببت أن أتأكد من قوله فاقترحت عليه أن يسكن معنا في القرية ، فأبدى على الفور رفضا تاما ، و هنا لاحظت عليه نوعا من الامتعاض و كأنني أريد إخراجه من جنته ، فلم يكن منه إلا أن بدأ يستعجلني لأتركه يذهب لقضاء مآربه و العودة إلى عالمه .

شكرته على سعة صدره و صدق حديثه ، ودعته و انطلقت أجر الخروف و لكنني أحسست بضيق في صدري ، و رغم ذلك أوصلت الخروف إلى البيت و خرجت للتو أبحث عن مكان أختلي فيه لنفسي ، جلست على أريكة بإحدى الحدائق

العمومية و استرجعت شريط الحوار الذي دار بيني و بين صاحب الخروف ، فقلت في نفسي :

هذا رجل أمي ، لا يعرف شيئا عما يدور في وطنه 

ناهيك عما يجري في العالم ، يعيش وحيدا مع أسرته في خيمة بالخلاء ، يتمتعون جميعهم  بصحة جيدة ، لا شيء ينغص عليهم صفو العيش ، في حين أن الكثير منا على قدر من العلم و الثقافة يحمل من الشهادات و الدبلومات أعلاها ، يعيش في مساكن جميلة و يركب السيارات الفارهة ،

له إلمام بكل ما يجري داخل الوطن و خارجه ، و رغم هذا كله فهو لم يجد للعيش لذة ، لكثرة مشاغله و متطلبات الحياة المدنية المتحضرة ، يهفو لتحقيق أكثر مما لديه و لو على حساب صحته و سعادته ، فلا يهنأ له خاطر و لا تعرف راحة البال إلى نفسه سبيلا .

فأيهما أكثر استمتاعا بالحياة السعيدة ؟

بكل صدق أعترف و أقول لقد أشقيتني يا عقلي !!!!!


               💼  بقلم  زايد  وهنا  💼

أجرك على الله

                     💼   أجرك على الله  💼


ما أصعب أن تعشق مهنة المتاعب و المشاق ، فرغم نبل رسالتها و ثواب الإخلاص فيها ، تبقى هي المهنة الأكثر استنزافا لطاقاتك البدنية

و العقلية ، فأنت أشبه بسائق الحافلة الذي يعمل لوحده من غير معين ، فهو المكلف بأمتعة الركاب و المراقب لتذاكرهم و السائق الذي يقطع المسافات الطوال ليوصل الركاب نحو وجهاتهم المقصودة ذهابا و إيابا لا يستمتع كغيره من الناس بالأعياد و لا بالمناسبات العائلية ، تراه دائم التركيز شديد الحيطة و الحذر ، يواجه مطبات الطرقات بصبر و تبصر ، ساهرا على سلامة الركاب .

ألست أنت كذلك أيها الأستاذ بل و أكثر ، فأنت المسؤول عن سلامة تلامذتك ، تحرس و تربي 

و تعلم و تنشط و تساعد و توجه و تصحح 

و تقوم و تقيم ، باختصار أنت الكل في الكل .

 يعود الناس من وظائفهم مساء فيسترحون إلا أنت رغم أن وظائفهم أقل تعبا من وظيفتك ، فأنت لا تكاد تستريح قليلا من تعب يومك حتى تنعزل في غرفة فتشرع في تقييم عمل ذلك اليوم مصححا و ملاحظا و لا ينتهي الأمر هنا بل تعمل على تحضير عمل اليوم الموالي حتى أنك في كثير من الأحيان لا تشارك أفراد أسرتك في العشاء بل يتأخر بك الوقت منهمكا في عملك فتتناول عشاءك منفردا بعد منتصف الليل و تخلد إلى النوم

لتستيقظ في اليوم الوليد باكرا ، تستحم و تحلق لحيتك و تضع قليلا من العطر و تعتني بهندامك

لتكون أحسن الناس في نظر تلامذتك ، عسى أن

يتخذونك قدوة في النظافة و حسن السلوك .

هذا دأبك دائما و نادرا ما تقتنص لنفسك لحظة

تستمتع فيها باحتساء فنجان قهوة بأحد المقاهي 

و حتى تلك الجلسة لا تستطيبها أحيانا و أنت

تسمع النكت الساخرة عن أمثالك في المهنة ، يتداولها بعض ضعاف العقول من رواد المقهى دون حياء مما يعكر صفو مزاجك فتقوم عائدا إلى بيتك و الأسى يعتصر فؤادك .

كل هذا لا يؤثر على أملك و غايتك فأنت تهفو أن ترى -- ركابك عفوا -- تلامذتك و قد تفوقوا

و حققوا المبتغى . لا يثنيك عن عزمك حر و لا قر و لا مرضك أنت أو مرض أحد أفراد أسرتك ، فبمجرد ما تدخل فصلك تترك  كل المشاكل خارجا 

و تنغمس في الدرس و التلقين .

فأنت تصل الليل بالنهار في سبيل تربيتهم 

و تعليمهم ، و لا ترضى عن عملك كل الرضى إلا

إذا أحسست حقا أنك تنفعهم و تمدهم بالطاقة

اللازمة لمواجهة الحياة ، رغم ما يعترضك من

عراقيل ، تجدك دوما تبحث عن الحلول بمفردك

دون عون من أحد . و لعل فرحتك بتفوقهم

تنسيك تعب الأنهر و الليالي و تبعث فيك العزم

وتجدد فيك الحماسة للمزيد من العطاء و لا ترجع القهقرى أمام الصعوبات التي تعترضك  .

هكذا أنت أيها الأستاذ تفني زهرة عمرك في القيام بهذه الرسالة النبيلة متحديا الصعاب و ما أكثرها في هذه المهنة ، و لعلك في العقدين الأخيرين من مسيرتك التعليمية بدأت تلاحظ تدني مستوى التلاميذ سنة بعد أخرى ، و قد توالت عمليات الإصلاح و التجديد في المقررات و المناهج 

و الطرق البيداغوجية ، فلا تكاد تطبق إحداها حتى يتبين عجزها فتستبدل بأخرى سرعان ما يظهر عدم ملاءمتها هي الأخرى و هكذا دواليك لا يستقر الحال على رأي ، لأن الذين يبرمجون 

و يخططون لا يستشيرون ذوي الخبرة و التجربة من أمثالك و لا يأخذون برأيهم رغم طول تجربتهم و حنكتهم و تمرسهم ، فيحز ذلك في نفسك كثيرا  

و يؤلمك الوضع الذي آلت إليه المنظومة التربوية ، فعينك بصيرة و يدك قصيرة و لا حول لك و لا قوة ، فأنت مضطر لتطبيق ما يملى عليك و لو على مضض .

إذن أيها الأستاذ لا تستغرب و قد قضيت أربعين 

سنة في هذه الوظيفة إن خارت قواك و ضعف

سمعك و بصرك و تقوس ظهرك و فقدت ثلثي

أسنانك فقد أديت الواجب و ما زلت رغم ضعفك

تكابد لتكمل رسالتك على الوجه الذي يرضي الله

و يريح ضميرك ، و لكن للأسف الشديد فالقيمون على هذا القطاع لا و لم و لن يقدروا جهودك 

و ضعفك البدني و العقلي و قد بلغت من الكبر عتيا فيدعونك تستريح لبعض الأيام المتبقية من عمرك إن كانت فيها بقية،  بل زادوك حملا على حمل و مددوا أجل تقاعدك إلى ما بعد الستين بثلاث سنين غير مراعين لظروفك الصحية و لا لصعوبة الوظيفة .

 كرمك الخالق و أهانك المخلوق و أنت الأصل الذي تتفرع عنه الأغصان التي تثمر ، لذا 

 ها هم يكافئونك بهذا التمديد حتى لا تستطيب للعيش راحة ، فيكون يوم خروجك من الدرس هو يوم دخولك إلى الرمس . 

أعرفت الآن بعض أوجه الشبه بينك و بين سائق الحافلة ؟ 


                  ✏  بقلم  زايد وهنا  ✏