💼 أجرك على الله 💼
ما أصعب أن تعشق مهنة المتاعب و المشاق ، فرغم نبل رسالتها و ثواب الإخلاص فيها ، تبقى هي المهنة الأكثر استنزافا لطاقاتك البدنية
و العقلية ، فأنت أشبه بسائق الحافلة الذي يعمل لوحده من غير معين ، فهو المكلف بأمتعة الركاب و المراقب لتذاكرهم و السائق الذي يقطع المسافات الطوال ليوصل الركاب نحو وجهاتهم المقصودة ذهابا و إيابا لا يستمتع كغيره من الناس بالأعياد و لا بالمناسبات العائلية ، تراه دائم التركيز شديد الحيطة و الحذر ، يواجه مطبات الطرقات بصبر و تبصر ، ساهرا على سلامة الركاب .
ألست أنت كذلك أيها الأستاذ بل و أكثر ، فأنت المسؤول عن سلامة تلامذتك ، تحرس و تربي
و تعلم و تنشط و تساعد و توجه و تصحح
و تقوم و تقيم ، باختصار أنت الكل في الكل .
يعود الناس من وظائفهم مساء فيسترحون إلا أنت رغم أن وظائفهم أقل تعبا من وظيفتك ، فأنت لا تكاد تستريح قليلا من تعب يومك حتى تنعزل في غرفة فتشرع في تقييم عمل ذلك اليوم مصححا و ملاحظا و لا ينتهي الأمر هنا بل تعمل على تحضير عمل اليوم الموالي حتى أنك في كثير من الأحيان لا تشارك أفراد أسرتك في العشاء بل يتأخر بك الوقت منهمكا في عملك فتتناول عشاءك منفردا بعد منتصف الليل و تخلد إلى النوم
لتستيقظ في اليوم الوليد باكرا ، تستحم و تحلق لحيتك و تضع قليلا من العطر و تعتني بهندامك
لتكون أحسن الناس في نظر تلامذتك ، عسى أن
يتخذونك قدوة في النظافة و حسن السلوك .
هذا دأبك دائما و نادرا ما تقتنص لنفسك لحظة
تستمتع فيها باحتساء فنجان قهوة بأحد المقاهي
و حتى تلك الجلسة لا تستطيبها أحيانا و أنت
تسمع النكت الساخرة عن أمثالك في المهنة ، يتداولها بعض ضعاف العقول من رواد المقهى دون حياء مما يعكر صفو مزاجك فتقوم عائدا إلى بيتك و الأسى يعتصر فؤادك .
كل هذا لا يؤثر على أملك و غايتك فأنت تهفو أن ترى -- ركابك عفوا -- تلامذتك و قد تفوقوا
و حققوا المبتغى . لا يثنيك عن عزمك حر و لا قر و لا مرضك أنت أو مرض أحد أفراد أسرتك ، فبمجرد ما تدخل فصلك تترك كل المشاكل خارجا
و تنغمس في الدرس و التلقين .
فأنت تصل الليل بالنهار في سبيل تربيتهم
و تعليمهم ، و لا ترضى عن عملك كل الرضى إلا
إذا أحسست حقا أنك تنفعهم و تمدهم بالطاقة
اللازمة لمواجهة الحياة ، رغم ما يعترضك من
عراقيل ، تجدك دوما تبحث عن الحلول بمفردك
دون عون من أحد . و لعل فرحتك بتفوقهم
تنسيك تعب الأنهر و الليالي و تبعث فيك العزم
وتجدد فيك الحماسة للمزيد من العطاء و لا ترجع القهقرى أمام الصعوبات التي تعترضك .
هكذا أنت أيها الأستاذ تفني زهرة عمرك في القيام بهذه الرسالة النبيلة متحديا الصعاب و ما أكثرها في هذه المهنة ، و لعلك في العقدين الأخيرين من مسيرتك التعليمية بدأت تلاحظ تدني مستوى التلاميذ سنة بعد أخرى ، و قد توالت عمليات الإصلاح و التجديد في المقررات و المناهج
و الطرق البيداغوجية ، فلا تكاد تطبق إحداها حتى يتبين عجزها فتستبدل بأخرى سرعان ما يظهر عدم ملاءمتها هي الأخرى و هكذا دواليك لا يستقر الحال على رأي ، لأن الذين يبرمجون
و يخططون لا يستشيرون ذوي الخبرة و التجربة من أمثالك و لا يأخذون برأيهم رغم طول تجربتهم و حنكتهم و تمرسهم ، فيحز ذلك في نفسك كثيرا
و يؤلمك الوضع الذي آلت إليه المنظومة التربوية ، فعينك بصيرة و يدك قصيرة و لا حول لك و لا قوة ، فأنت مضطر لتطبيق ما يملى عليك و لو على مضض .
إذن أيها الأستاذ لا تستغرب و قد قضيت أربعين
سنة في هذه الوظيفة إن خارت قواك و ضعف
سمعك و بصرك و تقوس ظهرك و فقدت ثلثي
أسنانك فقد أديت الواجب و ما زلت رغم ضعفك
تكابد لتكمل رسالتك على الوجه الذي يرضي الله
و يريح ضميرك ، و لكن للأسف الشديد فالقيمون على هذا القطاع لا و لم و لن يقدروا جهودك
و ضعفك البدني و العقلي و قد بلغت من الكبر عتيا فيدعونك تستريح لبعض الأيام المتبقية من عمرك إن كانت فيها بقية، بل زادوك حملا على حمل و مددوا أجل تقاعدك إلى ما بعد الستين بثلاث سنين غير مراعين لظروفك الصحية و لا لصعوبة الوظيفة .
كرمك الخالق و أهانك المخلوق و أنت الأصل الذي تتفرع عنه الأغصان التي تثمر ، لذا
ها هم يكافئونك بهذا التمديد حتى لا تستطيب للعيش راحة ، فيكون يوم خروجك من الدرس هو يوم دخولك إلى الرمس .
أعرفت الآن بعض أوجه الشبه بينك و بين سائق الحافلة ؟
✏ بقلم زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق