يملكون كل شيء إلا السعادة

                    يملكون كل شيء إلا السعادة


            إذا أقبلت الدنيا على الإنسان أخفت عن عيون الناس مقابحه و أبدت لهم محاسنه ، فإن لم تكن له محاسن ، أضفت عليه محاسن غيره . و إذا أعرضت عنه ، أحجبت محاسنه عن الناس ، و أبدت لهم مقابحه ، فإن لم تكن له مقابح ، لفقت له مقابح غيره . 

و المقصود هنا بالدنيا هو الثراء ، فصاحب المال  عند أهل عصرنا شخص مبجل طيب الذكر و لو كان جاهلا سفيها ،

فترى المتملقين الطامعين في الفتات يطوفون حوله ، كأنهم أسراب ذباب يحوم حول القمامة ، و لعل تلك القيمة الزائفة 

و ذلك التقدير و الإعجاب الخادع الذي يلحظه في عيون

هؤلاء المتزدلفين يصيبه بالغرور ، فيظن نفسه المثقف و هو في الواقع الخب الجاهل ، و يرى نفسه السيد و هو في الحقيقة المستعبد الذليل للمال ، و هذا الغرور و الجشع

و الجهل يدفعونه للبحث بكل الوسائل المتاحة و الغير المتاحة ليكون له موطئ قدم في أوساط الطبقة الراقية 

و ذوي الجاه و السياسة في البلاد ، لا لشيء و إنما لينمي ثروته و يجعل لمصالحه و موارد أمواله حصانة ، و لبلوغ تلك الغاية ينخرط في حزب سياسي ، و لو سألته عن تاريخ الحزب و مؤسسيه و أهدافه و برامجه الحالية  ما استرحت منه إلى جواب ، فهو يبدي علنا رغبته في الإصلاح  ، و لكنه يضمر نواياه الدنيئة ، و لا يفصح عنها حتى يدرك مبتغاه ، فتجده يسخر أمواله ، و يستعين بجيش من الضباع آكلي الجياف الانتهازيين ليحصل في الأخير على مقعد داخل القبة إلى جانب أمثاله ممن نهجوا نفس الأسلوب لإدراك حاجات في أنفسهم يحققونها من غير رقيب و لا حسيب ، أما ما عدا ذلك من مصالح البلاد و العباد فلا تعنيهم في شيء و ليست لهم أي مؤهلات علمية للمساهمة في تحريك عجلة التنمية ، لأنهم أصلا لم يخوضوا السياسة من أجلها .

أما أولئك السذج الذين وهبوا أصواتهم مقابل ذلك الفتات 

و تلك الفضلات ، فسرعان ما تنكشف لهم خيوط اللعبة ،

و الوعود الكاذبة ، و أن ما كانوا يركضون خلفه من مطامع قد ذهبت أدراج الرياح ، و لم يفوزوا إلا بالوسطى من الأصابع ، 

و لكن أكثر هؤلاء غباء و سذاجة من يلدغ مرات عديدة و لا

تنبه مرة أن ما يقدم عليه من دعم للفاسدين يزيد الطين بلا ، يؤثر ضرره على مصالح البلاد و العباد ، و هو أول المتضررين 

لو كان له بصيص من الوعي أو قدر حبة خرذل من الكرامة .

أما تلك القلة القليلة من المثقفين الحقيقين الذين يحملون هم بلدهم و يسعون جاهدين ليروا وطنهم في مصاف الأمم الراقية ، فهم مهمشون و لا يعتد بآرائهم ، و لا يفسح لهم مجال لاقتراحاتهم الجدية ، لأن التفاهة غطت على كل ما هو جدي و نافع ، و هذا النوع من المواطنين الأحرار الأكفاء ليست لهم أموال يسخرونها في الحصول على مقعد ، و حتى لو كانوا يمتلكونها فمبادئهم الصادقة و ضمائرهم الحية تمنعهم من إتيان ذلك طالما ينتقدون الفساد و أهله  .

و هنا يحضرني قول الشاعر :

    إن الكريم الذي لا مال بيده

                 مثل الشجاع الذي في كفه شلل

إذن ماذا تنتظر من مسؤولين و منتخبين أوصلتهم أحزابهم 

إلى مناصب القرار و أغلبهم لا يفقه في السياسة شيئا ، 

و لا تهمهم مشاكل الناس ، و ما يعانونه من تخلف في سائر

القطاعات ، همهم الوحيد أن ينسجوا خيوط الفساد مع أمثالهم ليوسعوا دائرة نفوذهم و بالتالي يخدمون مصالحهم

 و مصالح أبنائهم  لا غير و لأجل ذلك هم هناك .

إذن نحن في زمن انقلبت فيه الموازين ، و أصبحت التقوى

و النزاهة و العلم  من القيم البائدة ، و كل من ينادي بها فهو

متخلف أبله ، في حين أن الفساد بجميع أشكاله هو عين

العقل و العملة الرائجة .

لهذا إذا كنت تشعر بالتقزز مما يجري في مجتمعك ، و يحز في نفسك ما يستشري فيه من فساد ، و تتألم لمعاناة البسطاء ممن لا حول لهم و لا قوة ، فاعلم أن الله حباك ضميرا حيا و قلبا سليما ، و رزقك العفة و القناعة ، فأكثر من الشكر لله ، و لا يغرنك تقلبهم في نعم غيرهم ، و ما تراهم عليه من رفه ، فهم لا يملكون أغلى ما تملك أنت ، ففي قناعاتك الراسخة تكمن سعادتك الدنيوية و الأخروية ، و هي أسمى ما يسعى إليه الإنسان في هذا الوجود ، بينما هم يفتقرون إليها و لو بذلوا الأموال في طلبها ما استمتعوا بحلاوتها ، لأن حلاوتها نابعة من حلاوة الإيمان ، و متى فقد الإيمان فقدت السعادة ، و لا ينالهم من ثرائهم إلا معيشة ضنكى ، لأنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم  . 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق