الملحون و الأغنية المغربية

 🎻    الشعر الملحون وأثره في الأغنية المغربية  المعاصرة🎻


             عرفت الأغنية المغربية المعاصرة حقا ازدهارا ورقيا، داما زهاء ثلاثة عقود ونصف من القرن الماضي بالتحديد من بداية الخمسينات إلى نهاية الثمانينيات، إن على مستوى الكلمات أوالألحان أوالأداء، لأن الأغنية هي هذه العناصر الثلاثة مجتمعة ومتناسقة، وهذا الأوج الذي وصلته الأغنية خلال هذه الفترة المذكورة راجع إلى أنها نهلت من ثلاثة مشارب أساسية، يأتي في مقدمتها شعر الملحون الذي هو صلب موضوعنا، ولكن حتى لا نكون مقصرين أو مجحفين في حق مشربين أساسيين آخرين، لابد من الإشارة ولو بإيجاز إلى دورهما البالغ في الوصول بالأغنية المغربية إلى ذلك الأوج الذي وصلته وهما طرب الآلة (الموسيقى الأندلسية)، وكذا انفتاح المغاربة على الموسيقى الشرقية إبان نهضتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فالتراث الأندلسي الذي حمله المهاجرون الأندلسيون، والذين استقروا به في بعض الحواضر المغربية، كان له أثر كبير في صياغة ملامح الموسيقى والغناء في المغرب وأضاف غنى جديدا للموسيقى المغربية بألحان وميازين لم تكن معروفة ولقد حظيت الموسيقى الأندلسية في المغرب باهتمام الغيورين عليها، وأنشأوا فرقا موسيقية تعنى بها وتحييها في المناسبات كالأعياد والأفراح ومن أشهرها جوق محمد البريهي ، كما تأسست فرقة الخمسة و الخمسين في ثلاثينيات القرن الماضي بمبادرة من الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله، وتم كذلك تأسيس الجوق الملكي للموسيقى العصرية وكان يضم أمهر العازفين والمطربين، وبرزت اسماء لها وزنها في الساحة الموسيقية المغربيةكالمرحوم عبد السلام الرفاعي، أحد أبرز أعلام الموسيقى الأندلسية وانبثقت أجواق أخرى أسسها فنانون وملحنون واحتدمت المنافسة بينها، فكان ذلك بمثابة حافز على الإبداع والارتقاء بالأغنية المغربية.أما المنهل الآخر الذي استقت منه الأغنية المغربية والذي لا يمكن كذلك تهميشه أو إقصاؤه هو الأغنية الشرقية والدور الذي لعبته إبان نهضتها في مصر مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث اكتسحت الأغاني الشرقية بيوت الناس، وشنفت أسماعهم إما عبر أمواج الإذاعة أو بفضل الحاكي ( Tourne disque ) الذي كان يعمل بالاسطوانات، وقلما تجد بيتا يخلو من هذا الجهاز، وأقبل الناس على سماع الأغنية الشرقية وأصبح لها مكانة رفيعة في نفوسهم وأضحى الكثيرون يفضلونها عما سواها ولم يعد الإقبال على الفنون الشعبيةالمتداولة آنذاك كالعيطة و الڭناوي والحضاري بل انساق الجل وراء الأغنية الشرقية وأخذوا يقلدون كبار الموسيقيين المصريين من أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وتأثروا بالملحنين الكبار أمثال القصبجي والشيخ

زكرياء أحمد ورياض السنباطي و محمد الموجي و بليغ حمدي وغيرهم وقد زار عدد من الفنانين المصريين المغرب وأحيوا سهرات في مدن مغربية كما شارك المغاربة في مهرجانات ولقاءات موسيقية بمصر بل منهم من اتخذ مصر قبلة لدراسة الموسيقى كالمرحوم عبد الوهاب أڭومي و أحمد البيضاوي، كل هذا التفاعل ساهم في بلورة وتطوير الأغنية المغربية خصوصا على مستوى الألحان والأداء فتأسست أجواق مغربية عصرية اسوة بمثيلاتها المصرية، كجوق راديو المغرب للطرب العصري في بداية الخمسينيات برئاسة الموسيقار أحمد البيضاوي الذي تشبع بالموسيقى الشرقية وساعدته في تطوير الموسيقى المغربية.

    إذن بعد هذه الإشارة الطفيفة إلى هذين المشربين ننتقل إلى المشرب الأساسي والينبوع المتدفق ألا وهو شعر الملحون وعلاقته بالأغنية المغربية، من المعلوم أن شعر الملحون يعتبر ديوان المغاربة وذاكرتهم الشعبية، وهو فن قديم في المغرب، ولا تجد منطقة تخلو من هذا النوع، حيث كان شاعر الملحون الناظم هو لسان حال قومه والمعبر عن آلامهم وآمالهم في جميع الأغراض وما أكثرها وأجملها في شعر الملحون، كالمداحيات والمصليات والحزريات والورشانيات والجفريات والتوسلات والمسليات والعشاقيات والخمريات والمراسلات والغزوات والسير الذاتية والحكم والتراجم والزهد وغيرها، وقد انتشر شعر الملحون انتشارا سريعا في جميع مناطق المغرب، بل وحتى خارجه إلى المناطق المجاورة، وهذا راجع لعدة أسباب منها:

   شعراء الملحون كان أغلبهم وخصوصا القدامى منهم متصوفة وزهاد يكثرون من الترحال والتجوال، فلا يطول بهم المقام في مكان حتى يبرحونه إلى آخر ولا يمكثون كثيرا بزاوية حتى يغادرونها إلى أخرى، إما طلبا للرزق أو التتلمذ والاستزادة في علم الموهوب على يد أشياخ آخرين كما أن بعضهم اضطرتهم الظروف السياسية والاجتماعية لمغادرة موطنهم الأصلي وهكذا تيسر انتشار شعرهم كما ساهم الحفظة في توسيع نطاقه بما كانوا يرددون من القصائد وسط حلقات كما هو الشأن في جامع الفنا أو البطحاء في فاس أو في الحدائق والعراسي ولم يقتصر الأمر على هذا بل منهم من كان يسترزق بهذا المنتوج حيث يطوف القرى والمدن ويردد القصائد على أبواب المتاجر والبيوت طلبا للصدقة والمعونة، فتوارثت القصائد بين الناس وأصبحت تردد في المناسبات وهذه الميزة نلحظها بإقليم الرشيدية قديما

( تافيلالت )  حيث أن المطربين يقضون ليلة العرس في إنشاد قصائد من شعر الملحون، ولعل هذه كلها عوامل كفيلة لانتشار شعر الملحون، فلقي إقبالا من لدن الناس وأصبحوا يتذوقونه أكثر من أي لون آخر وظهر شعراء آخرون في فترة ما قبل الاستقلال ونهلوا من شعر الملحون وتشبعوا به وفاضت أقلامهم زجلا راقيا، ويعتبر الأستاذ الجليل السيد أحمد سهوم أحد فطاحلهم، وهكذا نخلص إلى أن شعر الملحون هو المهد الذي ترعرع فيه شعراء الزجل وكان له أثر في ظهور مجموعة من الزجالين المرموقين الذين أثروا الأغنية المغربية إما على مستوى القصيدة كأمثال:

  عبد الهادي التازي – محمد بنونة – محمد البوعناني – محمد الغربي – عبد الرفيع الجوهري – علال الخياري – وغيرهم كثير ...

  وفي الزجل ظهر شعراء بارعون من أمثال:

البشير لعلج – محمد الطيب لعلج – عبد الرحمان العلمي – حمادي التونسي – العربي بنبركة – الطاهر سباطة – فتح الله المغاري – علي حداني – مصطفى بغداد، وغيرهم ممن طوروا العامية المغربية وارتقوا بها إلى مستوى لغة إبداعية جميلة، أضفت على القصيدة والأغنية روعة وبهاءا وأطربت الناس وآنست وحشتهم وعبرت عن همومهم فبقيت خالدة ونذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: الشاطئ – القمر الأحمر – راحلة – الأمس القريب – حبيبي تعال – حبيبي لما عاد – واحة العمر – يا صاحب الصولة والصولجان – وأغانى زجلية لا تقل روعة من مثل: كاس البلار- في قلبي جرح قديم – يا الغادي فالطوموبيل – هذا شحال – علاش يا غزالي – بارد وسخون يا هوى – سولت عليك العود والناي – جريت وجاريت وغيرها كثير ...

   إذا كان هؤلاء هم واضعوا كلمات هذه الأغاني الخالدة فإن روعتها وجماليتها كملت يتلحينها من قبل عباقرة الألحان من أمثال أحمد البيضاوي -  عبد السلام عامر – عبد الرحيم السقاط – عبد الوهاب أڭومي – ومحمد بن عبد السلام – عبد القادر راشدي – عباس الخياطي – محمد بلخياط – عبد الله عصامي – عبد الرفيع الشنقيطي – عبد العاطي امنا – حسن القدمير – أحمد العلوي – عز الدين منتصر – عبد القادر وهبي، واللائحة طويلة ... لقد عمل هؤلاء الفطاحل من الملحنين على تطوير وصياغة الأغنية المغربية، فاختاروا لها أصواتا ندية وحناجر صادحة من خيرة ما جاد به زمان الفن الراقي، حتى لقبوا برواد الأغنية من أمثال:

    فتح الله المغاري – المعطي بلقاسم – ابراهيم العلمي – اسماعيل احمد – عبد الوهاب الدكالي – عبد الهادي بلخياط – محمد الحياني – بهيجة ادريس – عزيزة جلال – فاطمة مقدادي – لطيفة رأفت...

  هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح وهو علاقة شعر الملحون بكل ما ذكرنا والإجابة ببساطة هي أن هذا الجيل من الرواد سواء الشعراء منهم أي واضعوا الكلمات أو الملحنين أو المغنيين كلهم تخرجوا من مدرسة شعر الملحون أي أنهم كانوا على إطلاع كبير به وبغيره من الفنون الغنائية الراقية آنذاك مما انعكس إيجابا على أعمالهم الفنية فأضفت عليها الجمالية ورقة الحس وروعة النبرة، ولا غرو في هذا إذ أن أغلبهم كانوا ينحدرون من أسر عريقة في الفن تعودت على سماع الغناء الراقي من مشاربه الأساسية سواء كان شعر ملحون أو طرب أندلسي، أو أغاني شرقية، فكانوا في شبابهم مقلدين لغيرهم مما صقل لديهم الموهبة وسهل عليهم ولوج عالم الغناء وهم على مسكة عظيمة مما يحملونه من رصيد فني لا يستهان به.

     إذا تصفحنا أشعار هذه الأغاني الخالدة نجدها لا تبتعد عن شعر الملحون فعلى مستوى المضمون مثلا: نلاحظ أن الأغراض التي تطرق إليها شعر الملحون نلمسها في الزجل المغنى، ولعل الأغاني الدينية أقوى مثال على ذلك فأغنية " محمد صاحب الشفاعة " للمرحوم اسماعيل احمد. أو أغنية " من ضي بهاك " للمرحوم محمد الحياني أو أغنية " يا قاطعين لجبال " لعبد الهادي بلخياط: كلها مستوحاة من غرض المديح الديني في فن الملحون، نفس الشيء بالنسبة للأغاني الوطنية فقد استمدت مادتها الحماسية والاعتزاز بالوطن والفخر بالانتماء له وتحصينه من كل بأس إلى شعر الملحون الذي جادت به قرائح الشعراء إبان الاستعمار فكان شعر مقاومة ودرء للمعتدين، كما نجد كذلك شعر المناجاة فإذا كان الناظم محمد الشريف بنعلي، يناجي الشمعة في قصيدة من روائع فن الملحون فإن الأستاذ علي حداني يناجي الجرح في أغنية " جريت أوجريت،" التي تغنيها نعيمة سميح أما فن العتاب فحدث ولا حرج، استمع إلى الناظم امبارك السوسي يعاتب المحبوب في أغنية " طال تيهانك يا محبوبي " وقارنه بعتاب ابراهيم العلمي في أغنية " هذا اشحال " أو المعطي بلقاسم في أغنية " علاش يا غزالي " أما على المستوى البلاغي فشعر الملحون زاخر بالمحسنات البديعية والبيانية ونلاحظ أن أغاني الرواد لا تخلو من تلك الصيغ البلاغية.

  أما إذا نظرنا إلى الكلمة المجردة، فكلمات الزجل المغنى هي نفس كلمات شعر الملحون لأن العامية المغربية موحدة في أغانيها: " يا عشراني لا تلموني،" " هذا اشحال،" " فين مشيت يا غزالي ديني معاك "  ، " عيني هي ميزاني "  و قس على ذلك ،

إذن هناك ارتباط وثيق بين شعر الملحون وكلمات الأغاني المغربية، وأقصد دائما أغاني تلك الفترة الذهبية.ولا يفوتني أن استحضر هنا دور المجموعات الغنائية التي ظهرت مع بداية السبعينيات وأقصد بالذكر مجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب في احياء فن الملحون، وتقديمه في حلة جديدة خصوصا مع مجموعة جيل جيلالة حيث تم تخفيف إيقاعه وتحبيبه إلى أولئك الذين كانوا يشتكون من طول قصيدة الملحون ومن إيقاعها البطيء،  فأزالوا باجتهاد منهم تلك الرتابة والملل الذي كان الشباب يشعرون به، فأقبلوا عليه في حلة جديدة واستعملوا كلماته، في حين تمسك أخرون بالأداء التقليدي المعروف للقصيدة وأقبلوا على سماعه من قبل نشادة بارعين وعلى رأسهم الحاج الحسين التولالي الذي لا أظن أن الزمان قد يجود بمثل هذا الرجل في فن الإنشاد.


             🌷  الكاتب  :  زايد وهنا  🌷

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق