🍏بين الاستماع و الاستمتاع🍏
كثير هم الذين يستمعون ، و لكن قليل هم الذين يستمتعون ، إذ بين الاستماع و الاستمتاع أمور كثيرة و أشواط طويلة إذا غابت عن الانسان أفقدته متعة التذوق الحقيقي و الإنتشاء ، فيكون مستمعا عاديا و ليس مستمتعا شغوفا ولهانا و لم لا مستفيدا . و الاستماع لغويا مصدر من فعل مزيد هو استمع و معناه الاستماع لصوت ما بتمعن و روية و تدبر ، بخلاف مجرده الذي هو فعل سمع و مصدره سماع أي سماع كل صوت تلتقطه الأذن و لو كان غير مرغوب فيه ، فأنت جالس في غرفتك بالمنزل تستمع لخبر ما على المذياع أو التلفاز أي أنك تعطي كامل اهتمامك و تركيزك على المعلومات التي تستمع إليها و لكن هذا لا ينفي أنك تسمع أصواتا أخرى تلتقطها أذناك دون رغبة منك كمرور السيارات بالشارع أو هرج الأطفال قرب البيت أو صياح ديك الجيران أو صوت الأواني بالمطبخ فهذه الأصوات تسمعها و أنت تستمع للأخبار ، و الفرق واضح و جلي تسمع أصواتا مختلفة تأتي من كل مكان خصوصا في الأماكن الآهلة بالناس و لكن لا تستمع إلا إلى ما تريده لنفسك ، نستنتج مما سبق الفرق بين فعل سمع و مزيده استمع فسمع يكون لكل صوت يصل إلى أذنيك و استمع لا يكون إلا في الصوت الذي يأخذ منك تفكيرك و تركيزك و تتدبره بكل جوارحك و تتفاعل معه لحد ينسيك سماع الأصوات المشوشة الغير المرغوب فيها ، و لو كان الفعلان يصبان في نفس المعنى لاكتفت العرب بأحدهما ، لأن العرب تميل الى التخفيف و التيسير ، لذلك يقول العارفون بأسرار اللغة العربية أن لا وجود للمرادفات بالمعنى الكلي و الشامل في لغة الضاد ، فالكلمات التي يظنها البعض مرادفات ، لها خصوصية في معناها ، نعم قد يتقارب السياق و لكن لا تفيد نفس المعنى ، فكل كلمة لها مكانها الذي تستعمل فيه لتعطي المعنى المناسب للموقف الذي يراد بها ، فإذا أخذنا مثلا كلمات ( اقترب ، جاء، وصل ، حان ، دنا ، هل ، آن ، ...) فهذه الأفعال تظهر للبعض أنها مرادفات و لكن الصواب غير ذلك فهي متقاربة في المعنى و لكن لكل منها خصوصيته و مواضع استعماله و تلك من بلاغة و ثراء و جمالية اللغة العربية لغة القرآن و الإعجاز الرباني .
قلنا في بداية المقال أن بين الاستماع و الاستمتاع أمور كثيرة هي مفاتيح الاستمتاع و الإنتشاء ، و لتبسيط الأمر قد تجد شخصين يستمعان لنفس الأغنية أو القصيدة ، أحدهما يستمع و لا يتفاعل و لا يتأثر ، في حين أن الآخر بلغ به التفاعل و التأثر مبلغا كبيرا ، فنتساءل ما السبب في ذلك و المصدر واحد ، الجواب بسيط جدا هو أن هذا الذي تفاعل مع القصيدة له ذراية و إلمام بأسرار اللغة من نحو و بلاغة و بالأدب نثره و شعره ، قديمه و حديثه ، بينما الآخر يفتقد لهذه المعارف و المحفزات مما يجعله مستمعا عاديا ، و لتقريب هذه النظرية من ذهن القارئ ، أنطلق من مجال يستهوي الكثير من الناس ، و عاينته بنفسي من خلال محاضرات و ندوات في فن الملحون ،لأن بالمثال يتضح المقال ، فكم من محب لفن الملحون يستمع إلى القصائد غير أنه لا يظفر من استماعه إلا بالقليل من المتعة إذ تغيب عنه أمور كثيرة لو علمها لزادت عنده نسبة الامتاع و لأشعلت في وجدانه نار الشوق و النشوة ، التي يشعر بها و يتذوقها من يعرف أسرار هذا الفن بدءا بالغرض الذي تدور حوله القصيدة أهو غرض : ( العشاقيات ) ، ( المدحيات ) ، ( المصليات ) ، ( الذاتيات ) ، ( الجفريات ) ، ( الورشانيات ) ، ( الخمريات ) ( المسليات ) ، ( التوسلات ) ، ( المرثيات ) ، ( الغزوات ) و ( الحكم و الوعظ ) ، ...
و كذا المرمة ( البحر ) الذي نظمت فيه القصيدة و السرابة وهي مقدمة للقصيدة تتميز بإيقاعها الخفيف و موضوعها يصب في الغرض الذي من أجله نظمت القصيدة ، و الحربة ( اللازمة ) و يقصد بها ذلك المقطع الذي يكرر عند نهاية كل قسم من أقسام القصيدة ، هذه الأقسام التي تتخللها ما يصطلح عليه بالكراسي ( البرولات ، المطلعات ) و هي مقاطع قصيرة جدا في بداية كل قسم و أخيرا الزرب وهو القسم الأخير من القصيدة والذي يزرب فيه الناظم ( الشاعر ) قصيدته أي يضع لها سياجا من أربع جهات لا يمكن اختراقها ، كما يفعل الفلاح و هو يزرب بستانه حتى لا يعيث فيه المتطفلون فسادا ، هذا الزرب عند الناظم يكون على شكل مربع كالتالي :
الضلع 1 : يقدم فيه نفسه و براعته في النظم.
الضلع 2 : يعترف بجميل أشياخه عليه .
الضلع 3 : يذم الجاهل الجاحد الذي لا يفهم
و لا يتذوق بل يتطاول على الفن .
الضلع 4 : فيه يخضع لله سبحانه و يدعو لنفسه بما شاء .
هذه أمور إذا أدركها الفرد تساعده و ترفع عنده نسبة التذوق و الاستمتاع مقارنة بمن يجهلها ،
و لعل أوضح مثال ما تعرضت له من استفسارات من قبل بعض الأصدقاء أو بعض الحاضرين خلال مداخلاتهم عقب عرض من عروض الشعر الملحون ، و كان أغلبها يصب في عدم فك بعض الرموز التي يتناولها الناظم أي شاعر الملحون في قصيدته ، فالمستمع يتتبع القصيدة و لكن يقف عاجزا أمام فهم تلك الرموز مما يفقده لذة الاستمتاع ، فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر قصيدة " فارحة " للشاعر التهامي المدغري الملقب ب" حياح الحاء " لأنه يقفي أغلب قصائده بحرف الحاء ، فقصيدة " فارحة " لها معجبون كثر إلا أن أغلبهم يقف عاجزا عن فهم معاني بعض الحروف ، و كيفية توظيفها ، و هذا بالطبع يفقد المستمع نشوة الطرب ، ففي أحد مقاطع القصيدة يقول الشاعر :
" يا هلال اشرق ليلة و ح "
إذن كلمات المقطع كلها واضحة إلا " و ح "
هنا يتوقف فهم المستمع و تذوقه إذ لا يعرف معنى هذين الحرفين ، في حين لا يعتبر الأمر
عسيرا على من يدرك أسرار الملحون ، فهذان الحرفان الأبجديان يرمزان إلى أعداد ، فالواو
يساوي ستة و الحاء تساوي ثمانية ، و مجموعهما يساوي أربعة عشر ، إذن في ليلة الرابع عشر من الشهر القمري يكون القمر بدرا تام الاستدارة ينير الأرض ، و قد استبدل الشاعر العدد 14 بحرفين هما الواو و الحاء
لضرورة الميزان الشعري و القافية ، و كأنه يقول " يا هلال أشرق ليلة الرابع عشر " .
و هكذا كما سبق و أشرنا ، كلما كان المتلقي متمكنا من الشيء إلا و تكون نسبة التذوق عنده مرتفعة بشكل كبير ، فيستمتع أيما استمتاع بما يستمع إليه .
إذن قد يتضح لك الآن أيها القارئ المحترم الفرق بين الناس في الاستمتاع بالفنون ، فنسبة التذوق عند من يعرف هذه الأسرار تكون أكثر إمتاعا و انتشاء و شغفا و ولها من جاهلها و لو ادعى هذا الأخير حسن الاستماع . و نفس الشيء ينطبق على الفنون الأخرى .
قد يقول قائل أن هذه المسألة تعود إلى اختلاف الأذواق ، و أن للناس فيما يعشقون مذاهب ، و لا سلطة لأحد في أذواق الآخرين و أشياء أخرى من هذا القبيل تبرئ الاختيارات . قد نتفق في أمور و نختلف في أخرى و النقاش لا يفسد للقضية ودا ، إذا نحن تجردنا من الأنى ، ولطالما أرقني موضوع الأذواق في الفنون ، و قد حاضرت فيه مرات عديدة في محافل مختلفة ، و لا بأس أن أدلي برأيي في هذا الموضوع ، فإذا اقتنعت أخي القارئ و سلكت أفكارنا نفس السبيل فبها و نعم و إن اختلفنا فالاختلاف يبقى دائما رحمة ، و يطيل البحث و النظر في هذه و في غيرها من الأمور .
الإنسان جسم و عقل و روح ، الجسم وهو البدن يتقوى بالغذاء و الحركة ، و العقل و هو الدماغ يتغذى بالعلم و المعرفة ، و الروح و هي الوجدان تتغذى بتقوى الله و بالجمال ، هذا الجمال الذي أودعه الله في الطبيعة و في الانسان نفسه ، فجمال الطبيعة يتجلى في سمائها و شمسها ونجومها و بحارها و انهارها و نباتاتها وحيواناتها و اختلاف فصولها و أحوال طقسها و خرير مياهها و دوي رعودها و زقزقة عصافيرها و غيرها مما خلق الله و مما لا نستطيع حصره ...
أما جمال الإنسان ، فقد خلقه الله في أحسن صورة ، و وهبه من المواهب و المؤهلات العلمية و الملكات الفنية ما لم يهبه لغيره من المخلوقات ، و كل انسان ميسر لما خلق له ، و الابداع ليست له حدود ما دام يسعد الناس و لا يتنافى مع السنن الكونية ، و مجالات الابداع عديدة و متنوعة تطلع علينا من حين لآخر في أحد الفنون ، و معيارها الأساسي هو الجمال ، هذا الأخير الذي له ارتباط بالجانب الوجداني تحت مجهر العقل و لكي تتضح الرؤية نضرب لذلك مثالا من واقعنا و مما يشغل بال الكثير من المتتبعين ، على سبيل المثال لا الحصر ، و هو مجال الأغنية ، لأن هذا المجال يستهوي فئة عريضة من الناس على اختلاف أعمارهم و أجناسهم ، و قد كثر الكلام عنه خصوصا في هذه العقود الثلاثة الأخيرة ، بين مؤيدين مدافعين عن أذواقهم و منتقدين مستائين ينادون بتهذيب الذوق ، و حتى لا نكون مجحفين في حق أحد الطرفين ، سنحلل الإشكال بكل موضوعية و عقلانية ، و أقول لهؤلاء المستائين مما وصل إليه تدني الذوق في الأغنية التي اتخذناها كمثال لموضوعنا ، و ينادون بتهذيب أذواق أجيالنا الحالية ، أنهم يطلبون المستحيل ، إذ ماذا تنتظرون من جيل فتح عينيه على هذا الوضع ، و نشأ على الاستماع إلى هذا الصخب و الهراء ؟ ماذا تنتظرون من جيل أغلبه لا يستطيع أن يعبر بجملة مفيدة باللغة العربية الفصحى ؟ ماذا تنتظرون من جيل لا علاقة له باللغة العربية و فنونها من نحو و بلاغة ؟ ماذا تنتظرون من جيل لا يحفظ بيتا شعريا واحدا ؟ ماذا تنتظرون من جيل قطع صلته بالكتاب و المطالعة ؟ فالجهل بهذه الأمور و غيرها انعكس على ذوقه فجعله رديئا منحطا ساقطا ، لأن الذوق يرتقي و يتهذب مع المستوى المعرفي للإنسان ، كيف تطلب منه أن يتذوق قصائد قمة في الإبداع و هو لا يعرف معاني كلماتها و لا علم له بالصور البلاغية الموجودة فيها ، كيف ترجو منه أن يتذوق قصائد ك " رباعيات الخيام " أو " الأطلال " لأم كلثوم أو " مضناك جفاه مرقده " لمحمد عبد الوهاب أو " راحلة " للمرحوم محمد الحياني أو " الشاطىء " لعبد الهادي بلخياط هو يجهل معاني الكلمات ، و لا يفقه في النحو و البلاغة شيئا ،فالحق يقال أن فاقد الشيء لا يعطيه ، لذلك تجده يتذوق ذلك الكلام الدارج المبتذل الساقط الصاخب المتداول في الشارع الذي لا يحتاج إلى جهد في الفهم ، و إنما يعتمد على الإيقاع السريع على صخبه يرقص الشباب ، فيختلط الضجيج بالحركة ، فما هو بالغناء و لا هو بالرياضة ، و لو سألت أي شاب من هؤلاء عن القواعد التي رسمت له حدود الجمال فيما يستمع إليه ، ما استرحت منه إلى جواب ، و لو سألته عم استفاد من الاستماع
لهذا الهراء ما استطاع جوابا ، و لو أشرت عليه بنوع جميل من الأغاني العصرية لروادها فتح الله المغاري ، ابراهيم العلمي ، عبد الوهاب الدكالي ، اسماعيل أحمد ، عبد الهادي بلخياط ، محمد الحياني ، بهيجة ادريس ، عزيزة جلال ، نعيمة سميح .....أو الأغاني الشعبية من تراثنا المغربي كالملحون و العيطة بأنواعها و تمديازت و تماوين و إزلان في التراث الأمازيغي ، لنعتك بالمتخلف و الرجعي ، و نسي المسكين المغفل بأنه مجوف نخب هواء كما قال الشاعر حسان بن ثابت ، و أن مستواه المعرفي الجد المتدني هو سبب إقباله على تلك التفاهة و السخافة لأنها هي التي يستوعبها فهمه القاصر .
ختاما أقول إن الذوق يرتقي و يتهذب موازاة مع المستوى المعرفي و العلمي و مدى حصافة الوعي و تجارب الحياة ، لذلك شتان بين الاستماع و الاستمتاع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق