طرائف الحمقى و المجانين

 طرائف الحمقى و المجانين

        في رقعة جغرافية من القارة الإفريقية ،  يعيش شعب مصاب بالجهل و الحمق و البلادة ، و قد لفت أنظار العالم كله لما يصدر منه من حماقات ، حتى أضحى مسخرة الناس جميعا في كل بقاع الأرض ، و تعمدت الشعوب الأخرى ألا توقظه من سباته 

و ألا تنبهه إلى بلادته لأنهم يرون في غبائه ما يضحكهم 

و يروح عن أنفسهم ، و لو أن التاريخ تجاوز مثل هذه الطرائف بفعل التقدم التكنولوجي و الثقافي إلا أنها قد بعثت من جديد عند هذا الشعب ، و ليتها كانت تحمل من المتعة ما كان سائدا في القديم من طرائف الحمقى ، فهذا الشعب بكل أطيافه ممن يظنهم علماء دين و  مثقفين و حكام فالجميع مصاب بهذا الداء العضال الذي جعلهم يفقدون كل مقومات الفكر و المنطق و لأنهم يعلمون أن ليس لهم جذور تاريخية و لا هوية مجتمعية عريقة كجيرانهم صاروا يهرطقون و ينهقون و يفترون عساهم يجدوا لأنفسهم موقع قدم في تاريخ الأمم ، و نظرا لهذا السبب الرئيسي إضافة إلى الجهل الذي يلقي بظلاله على شعبهم مما تولدت عنه

أقصى درجات الحمق و البلادة ، فسحوا المجال لجميع شرائح المجتمع للإفتراء و الكذب حتى بلغ بهم الغباء الى قول ما لا يقبله

عقل أو منطق و لا تأتي مثله حتى البهائم العجماء ، و كيف لا يفعلون و هم يرون و يسمعون رئيسهم الكرغولي يفوقهم جهلا 

و بلادة و هو يهرطق بما لا يعلم ، و بذلك صار هذا الشعب أضحوكة العالم و وجد الناس في حمقه متنفسا يزيح عنهم الهم 

و يضحكهم ، و لو أن مثل هذه الهرطقات تؤلم أكثر مما تضحك ، إذ نرى شعبا بكامله يعيش مشاكل اجتماعية خصوصا في عيشه 

و كرامته ، مستحمرا من طرف حكامه الذين استحوذوا على خيرات البلاد ، يستمتعون بها ، و يوهمون شعبهم بقضية لا ناقة لهم فيها و لاجمل ، و يغرسون الحقد في نفسه و يزرعون الفتنة

تحت ذريعة مساعدة مجموعة من المرتزقة . و الشعب المسكين مستغفل يظنها الحقيقة ، فلا يحرك ساكنا بل يرضخ للأمر الواقع رغم الفقر و الخصاص الكبير في جميع القطاعات و البنيات التحتية ، فقد خدره الكابرانات بهذه الأوهام ، و لعل هذا سبب إضافي جعل حكامهم يكذبون و ينشرون الخزعبلات و يفسحون المجال لكل من ينتهج النهج نفسه في قول مثل ذلك . و رغم أن الناس في كل بقاع الأرض قد علمت ما وصل إليه هذا الشعب من جهل و بلادة ، فلا بأس أن نشير إلى بعض هذه الخزعبلات على سبيل المثال لا الحصر ، لأن عددها كبير لا يمكن أن نحصيه في مقال ، و لكن ذكر القليل قد يفي بالغرض ، و يبين أقصى ما يمكن أن يقوله الحمقى و المجانين ، بل من الحمقى من يستحيي أن يأتي مثل هذا .

#  سمع رئيسهم أن جاره سيقوم بتصفية 

و تحلية مياه البحر في أفق 2030 , بما قدره 350 مليار و 250 مليون متر مكعب سنويا ، فقام رئيسهم و قال مخاطبا شعبه المغفل أنه سيعمل على تحلية ماء البحر بنفس الكمية التي قالها جاره و لكن ليفوق جاره و يستميل قلوب شعبه و يكون أضحوكة العالم ، قال أن هذا القدر ستتم تحليته يوميا و ليس سنويا .

و هذا من سابع المستحيلات بل المستحيل نفسه ، قالها و هو يفتخر و يعتد زهوا بغبائه غير مدرك أنه صار أكبر جاهل ، دجال ، كذاب في العالم . 

# مجموعة من الدجالين ، يسمونهم فقهاء ، و الفقه منهم بريء ، 

و قولهم دليل على جهلهم إذ يقولون أن القرآن الكريم نزل ببلدهم و أن العديد من الأنبياء بعثوا في بلدهم ، و هم من اخترعوا الحروف الأبجدية للغة العربية ، و هم من استعمروا مصر و بنوا الأهرام ، و هم أول من عرف الرياضيات ، و هم من اخترعوا التلفاز ، و هم من كانوا يصدرون الحبوب للرومان ، أما عن عدد الشهداء فهو في تصاعد مستمر ، بدأ بمليون و نصف و الآن قد بلغ عشرة ملايين . و هلم جرا من مثل هذه الخرافات و الهرطقات 

و الافتراءات التي لا يصدقها أحد في العالم و يصدقها شعبهم المغلوب على أمره ، المتعفر في وحل الجهل و الغباء .

و لكن كما سبقت الإشارة إلى أن الناس جميعا أصبحوا يتصفحون مواقع التواصل علهم يظفرون بتصريح جديد لرئيسهم يشبعهم ضحكا ، بل من الناس من يتمنى أن يبقى رئيسهم في الحكم لولايات أخرى حتى لا تنقطع تلك المستبسلات و ليس المستملحات التي يتحفون الناس بها من حين لآخر .

يا بني !!!

                   يا بني !!!

يا بني : لا تقطع صلتك بخالقك على الدوام

        و لا تفرط في القيم فتصنف مع الأنعام

        و لا تضع ثقتك فيمن يحل الحرام

        و لا تفشي أسرارك أبدا لثرثار نمام

        و لا ترجو الجميل من بخيل نحام

        و لا تجحد المعروف فتكون من اللئام

        و لا تتطاول بعلمك في حضرة الأعلام

        و لا تجادل الجاهل فتكون الملام

        و لا تستهين بنفسك فتطؤك الأقدام

        و لا ترضخ لقول دجال يؤمن بالأزلام

        و لا تثق في المنافق و لو دعا للسلام

        و لا تتبع أهواء من جرفته الأوهام 

        و لا تقرب المخدرات فسمومها سهام

        و لا يغرنك الطمع و لو في طبق رخام

        و لا تتكبر فتكون مذموما بين الآنام

        و لا تحقر الفقير فلا أمان مع الأيام        

        و لا تفخر بكسبك فهو مجرد حطام 

        و لا تفاخر بنسبك و أهلك أمام الأيتام

        و لا تعتد بصحتك أمام من به أسقام

        و لا تتكل على أحد و لو كان من الأرحام

يا بني : اعمل بهذا ما دام النبض في الأجسام

           فمن غيرها لا ينفعك أخوال و أعمام

        


الخطر على مرمى الحجر

 الخطر على مرمى الحجر


الأحمق حقا، من ينشد النعرة العربية فيمن هم نيام 

الأبله حقا ، من يهفو الى الوحدة فيمن أسكره المدام 

الحالم حقا ، من يرتجي النصرة ممن به أسقام

البليد حقا ، من ينتظر الإنتفاضة ممن يعيش الأوهام

المخبول حقا ، من يعتقد أن تبعث الأرواح في الأصنام 

الغبي حقا ، من يبحث عن القيم في طبع اللئام 

المجنون حقا ، من ينزل أراذل القوم منزلة الكرام .

المغفل حقا ، من يحسب السمنة فيمن به أورام .

الملوم حقا ، من يرمم قوس من يرميه بالسهام .

           هؤلاء هم كل هذه الأوصاف الذميمة و النعوت الاستهزائية  ، بل هم الخبثاء المتخاذلين ، هم من أنزلوا أنفسهم منازل الهوان ، هم من غيروا ما بأنفسهم إذ تلفعوا بكل الرذائل ، 

و أمات فيهم الجشع و المجون و حب الدنيا حس الغيرة و النعرة و عزة النفس ، فغير الله بهم و باؤوا بغضب منه ، حتى أصبحوا يعيشون الذل في أبهى صوره و أشكاله و ألوانه .

هم كل هذا و أكثر ، فإذا هم لم يعتبروا مما جرى و مما يجري أمامهم من مخططات عدوائية ، و إذا لم يستفيقوا من غفلتهم ،

--  ولا أظنهم بعد هذا السبات المذل سيستيقظون -- و امتدت بهم الأيام على عجزهم و تخاذلهم و مجونهم هذا و لم ينجزوا لأنفسهم عزة ذهبت ريحهم ، و لن يعود لهم في الأرض ذكرا . 

عندئذ اعلم أيها الحالم أنه ما عاد يجدي الكلام و لا الأقلام .

و من حقك أن تضع على شهادة فنائهم كل أنواع الأختام ، 

و اقرأ السبع المثاني ترحما على الوحدة و قل  على العروبة السلام .


 .

بين الاستماع و الاستمتاع 2

 



🍏بين الاستماع و الاستمتاع🍏


كثير هم الذين يستمعون ، و لكن قليل هم الذين يستمتعون ، إذ بين الاستماع و الاستمتاع أمور كثيرة و أشواط طويلة إذا غابت عن الانسان أفقدته متعة التذوق الحقيقي و الإنتشاء ، فيكون مستمعا عاديا و ليس مستمتعا شغوفا ولهانا و لم لا  مستفيدا . و الاستماع لغويا مصدر من فعل مزيد هو استمع و معناه الاستماع لصوت ما بتمعن و روية و تدبر ، بخلاف مجرده الذي هو فعل سمع و مصدره سماع أي سماع كل صوت تلتقطه الأذن و لو كان غير مرغوب فيه ، فأنت جالس في غرفتك بالمنزل تستمع لخبر ما على المذياع أو التلفاز أي أنك تعطي كامل اهتمامك و تركيزك على المعلومات التي تستمع إليها و لكن هذا لا ينفي أنك تسمع أصواتا أخرى تلتقطها أذناك دون رغبة منك كمرور السيارات بالشارع أو هرج الأطفال قرب البيت أو صياح ديك الجيران أو صوت الأواني بالمطبخ فهذه الأصوات تسمعها و أنت تستمع للأخبار ، و الفرق واضح و جلي تسمع أصواتا مختلفة تأتي من كل مكان خصوصا في الأماكن الآهلة بالناس و لكن لا تستمع إلا إلى ما تريده لنفسك ، نستنتج مما سبق الفرق بين فعل سمع و مزيده استمع فسمع يكون لكل صوت يصل إلى أذنيك و استمع لا يكون إلا في الصوت الذي يأخذ منك تفكيرك و تركيزك و تتدبره بكل جوارحك و تتفاعل معه لحد ينسيك سماع الأصوات المشوشة الغير المرغوب فيها ، و لو كان الفعلان يصبان في نفس المعنى لاكتفت العرب بأحدهما ، لأن العرب تميل الى التخفيف و التيسير ، لذلك يقول العارفون بأسرار اللغة العربية أن لا وجود للمرادفات بالمعنى الكلي و الشامل في لغة الضاد ، فالكلمات التي يظنها البعض مرادفات ، لها خصوصية في معناها ، نعم قد يتقارب السياق و لكن لا تفيد نفس المعنى ، فكل كلمة لها مكانها الذي تستعمل فيه لتعطي المعنى المناسب للموقف الذي يراد بها ، فإذا أخذنا مثلا كلمات ( اقترب ، جاء، وصل ، حان ، دنا ، هل ، آن ،  ...) فهذه الأفعال تظهر للبعض أنها مرادفات و لكن الصواب غير ذلك فهي متقاربة في المعنى و لكن لكل منها خصوصيته و مواضع استعماله و تلك من بلاغة و ثراء و جمالية اللغة العربية لغة القرآن و الإعجاز الرباني .

قلنا في بداية المقال أن بين الاستماع و الاستمتاع أمور كثيرة هي مفاتيح الاستمتاع و الإنتشاء ، و لتبسيط الأمر قد تجد شخصين يستمعان لنفس الأغنية أو القصيدة ، أحدهما يستمع و لا يتفاعل و لا يتأثر  ،  في حين أن الآخر بلغ به التفاعل و التأثر مبلغا كبيرا ، فنتساءل ما السبب في ذلك و المصدر واحد ، الجواب بسيط جدا هو أن هذا الذي تفاعل مع القصيدة له ذراية و إلمام بأسرار اللغة من نحو و بلاغة و بالأدب نثره و شعره ، قديمه و حديثه ، بينما الآخر يفتقد لهذه المعارف و المحفزات مما يجعله مستمعا عاديا ، و لتقريب هذه النظرية من ذهن القارئ ، أنطلق من مجال يستهوي الكثير من الناس ، و عاينته بنفسي من خلال محاضرات و ندوات في فن الملحون ،لأن بالمثال يتضح المقال ، فكم من محب لفن الملحون يستمع إلى القصائد غير أنه لا يظفر من استماعه إلا بالقليل من المتعة إذ تغيب عنه أمور كثيرة لو علمها لزادت عنده  نسبة الامتاع و لأشعلت في وجدانه نار الشوق و النشوة ، التي يشعر بها و يتذوقها من يعرف أسرار هذا الفن بدءا بالغرض الذي تدور حوله القصيدة  أهو غرض : ( العشاقيات ) ، ( المدحيات ) ، ( المصليات ) ، ( الذاتيات ) ، ( الجفريات ) ، ( الورشانيات ) ، ( الخمريات ) ( المسليات ) ، ( التوسلات ) ، ( المرثيات ) ، ( الغزوات ) و ( الحكم و الوعظ ) ،  ... 

و كذا المرمة ( البحر ) الذي نظمت فيه القصيدة و السرابة  وهي مقدمة للقصيدة تتميز بإيقاعها الخفيف و موضوعها يصب في الغرض الذي من أجله نظمت القصيدة ، و الحربة ( اللازمة ) و يقصد بها ذلك المقطع الذي يكرر عند نهاية كل قسم من أقسام القصيدة ، هذه الأقسام التي تتخللها ما يصطلح عليه بالكراسي ( البرولات ، المطلعات ) و هي مقاطع قصيرة جدا في بداية كل قسم و أخيرا الزرب وهو القسم الأخير من القصيدة والذي يزرب فيه الناظم ( الشاعر ) قصيدته أي يضع لها سياجا من أربع جهات لا يمكن اختراقها ،  كما يفعل الفلاح و هو يزرب بستانه حتى لا يعيث فيه المتطفلون فسادا ، هذا الزرب عند الناظم يكون على شكل مربع كالتالي :

الضلع 1 : يقدم فيه نفسه و براعته في النظم. 

الضلع 2 : يعترف بجميل أشياخه عليه .

الضلع 3 : يذم الجاهل الجاحد الذي لا يفهم 

و لا يتذوق بل يتطاول على الفن .

الضلع 4 : فيه يخضع لله سبحانه و يدعو لنفسه بما شاء .

هذه أمور إذا أدركها الفرد تساعده و ترفع عنده نسبة التذوق و الاستمتاع مقارنة بمن يجهلها ، 

و لعل أوضح مثال ما تعرضت له من استفسارات من قبل بعض الأصدقاء أو بعض الحاضرين خلال مداخلاتهم عقب عرض من عروض الشعر الملحون ، و كان أغلبها يصب في عدم فك بعض الرموز التي يتناولها الناظم أي شاعر الملحون في قصيدته ، فالمستمع يتتبع القصيدة و لكن يقف عاجزا أمام فهم تلك الرموز مما يفقده لذة الاستمتاع ، فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر قصيدة " فارحة " للشاعر التهامي المدغري الملقب ب" حياح  الحاء " لأنه يقفي أغلب قصائده بحرف الحاء ، فقصيدة " فارحة "  لها معجبون كثر إلا أن أغلبهم يقف عاجزا عن فهم معاني بعض الحروف ، و كيفية توظيفها ، و هذا بالطبع يفقد المستمع نشوة الطرب ، ففي أحد مقاطع القصيدة يقول الشاعر :

" يا هلال اشرق ليلة و ح "

إذن كلمات المقطع كلها واضحة إلا " و ح "

هنا يتوقف فهم المستمع و تذوقه إذ لا يعرف معنى هذين الحرفين ، في حين لا يعتبر الأمر

عسيرا على من يدرك أسرار الملحون ، فهذان الحرفان الأبجديان  يرمزان إلى أعداد ، فالواو

يساوي ستة و الحاء تساوي ثمانية ، و مجموعهما يساوي أربعة عشر ، إذن في ليلة الرابع عشر من الشهر القمري يكون القمر بدرا تام الاستدارة ينير الأرض ، و قد استبدل الشاعر العدد 14 بحرفين هما الواو و الحاء  

لضرورة الميزان الشعري و القافية ، و كأنه يقول " يا هلال أشرق ليلة الرابع عشر " .

و هكذا كما سبق و أشرنا ، كلما كان المتلقي متمكنا من الشيء إلا و تكون نسبة التذوق عنده مرتفعة بشكل كبير ، فيستمتع أيما استمتاع بما يستمع إليه .

إذن قد يتضح لك الآن أيها القارئ المحترم  الفرق بين الناس في الاستمتاع بالفنون ، فنسبة التذوق  عند من يعرف هذه الأسرار تكون أكثر إمتاعا و انتشاء و شغفا و ولها من جاهلها و لو ادعى هذا الأخير حسن الاستماع . و نفس الشيء ينطبق على الفنون الأخرى .

قد يقول قائل أن هذه المسألة تعود إلى اختلاف الأذواق ، و أن للناس فيما يعشقون مذاهب ، و لا سلطة لأحد في أذواق الآخرين و أشياء أخرى من هذا القبيل تبرئ الاختيارات . قد نتفق في أمور و نختلف في أخرى و النقاش لا يفسد للقضية ودا ، إذا نحن تجردنا من الأنى ، ولطالما أرقني موضوع الأذواق في الفنون ، و قد حاضرت فيه مرات عديدة في محافل مختلفة ، و لا بأس أن أدلي برأيي في هذا الموضوع ، فإذا اقتنعت أخي القارئ و سلكت أفكارنا نفس السبيل فبها و نعم و إن اختلفنا فالاختلاف يبقى دائما رحمة ، و يطيل البحث و النظر في هذه و في غيرها من الأمور .

الإنسان جسم و عقل و روح ، الجسم وهو البدن يتقوى بالغذاء و الحركة ، و العقل و هو الدماغ يتغذى بالعلم و المعرفة ، و الروح و هي الوجدان تتغذى بتقوى الله و بالجمال ، هذا الجمال الذي أودعه الله في الطبيعة و في الانسان نفسه ، فجمال الطبيعة يتجلى في سمائها و شمسها ونجومها و بحارها و انهارها و نباتاتها وحيواناتها  و اختلاف فصولها و أحوال طقسها و خرير مياهها و دوي رعودها و زقزقة عصافيرها و غيرها مما خلق الله و مما لا نستطيع حصره ...

أما جمال الإنسان ، فقد خلقه الله في أحسن صورة ، و وهبه من المواهب و المؤهلات العلمية و الملكات الفنية ما لم يهبه لغيره من المخلوقات ، و كل انسان ميسر لما خلق له ، و الابداع ليست له حدود ما دام يسعد الناس و لا يتنافى مع السنن الكونية ، و مجالات الابداع عديدة و متنوعة تطلع علينا من حين لآخر في أحد الفنون ، و معيارها الأساسي هو الجمال ، هذا الأخير الذي له ارتباط بالجانب الوجداني تحت مجهر العقل و لكي تتضح الرؤية نضرب لذلك مثالا من واقعنا و مما يشغل بال الكثير من المتتبعين ، على سبيل المثال لا الحصر ، و هو مجال الأغنية ، لأن هذا المجال يستهوي فئة عريضة من الناس على اختلاف أعمارهم و أجناسهم ، و قد كثر الكلام عنه خصوصا في هذه العقود الثلاثة الأخيرة ، بين مؤيدين مدافعين عن أذواقهم و منتقدين مستائين ينادون بتهذيب الذوق ، و حتى لا نكون مجحفين في حق أحد الطرفين ، سنحلل الإشكال بكل موضوعية و عقلانية ، و أقول لهؤلاء المستائين مما وصل إليه تدني الذوق في الأغنية التي اتخذناها كمثال لموضوعنا ، و ينادون بتهذيب أذواق أجيالنا الحالية ، أنهم يطلبون المستحيل ، إذ ماذا تنتظرون من جيل فتح عينيه على هذا الوضع ، و نشأ على الاستماع إلى هذا الصخب و الهراء ؟ ماذا تنتظرون من جيل أغلبه لا يستطيع أن يعبر بجملة مفيدة باللغة العربية الفصحى ؟ ماذا تنتظرون من جيل لا علاقة له باللغة العربية و فنونها من نحو و بلاغة ؟ ماذا تنتظرون من جيل لا يحفظ بيتا شعريا واحدا ؟ ماذا تنتظرون من جيل قطع صلته بالكتاب و المطالعة ؟  فالجهل بهذه الأمور  و غيرها انعكس على ذوقه فجعله رديئا منحطا ساقطا ، لأن الذوق يرتقي و يتهذب مع المستوى المعرفي للإنسان ، كيف تطلب منه أن يتذوق قصائد قمة في الإبداع و هو لا يعرف معاني كلماتها و لا علم له بالصور البلاغية الموجودة فيها  ، كيف ترجو منه أن يتذوق قصائد ك " رباعيات الخيام " أو " الأطلال " لأم كلثوم  أو " مضناك جفاه مرقده " لمحمد عبد الوهاب  أو " راحلة "  للمرحوم محمد الحياني أو " الشاطىء " لعبد الهادي بلخياط هو يجهل معاني الكلمات ، و لا يفقه في النحو و البلاغة شيئا ،فالحق يقال أن فاقد الشيء لا يعطيه ، لذلك تجده يتذوق ذلك الكلام الدارج المبتذل الساقط الصاخب المتداول في الشارع الذي لا يحتاج إلى جهد في الفهم ، و إنما يعتمد على الإيقاع السريع على صخبه يرقص الشباب ، فيختلط الضجيج بالحركة ، فما هو بالغناء و لا هو بالرياضة ، و لو سألت أي شاب من هؤلاء عن القواعد التي رسمت له حدود الجمال فيما يستمع إليه ، ما استرحت منه إلى جواب ، و لو سألته عم استفاد من الاستماع 

لهذا الهراء ما استطاع جوابا ، و لو أشرت عليه بنوع جميل من الأغاني العصرية لروادها فتح الله المغاري ، ابراهيم العلمي ، عبد الوهاب الدكالي ، اسماعيل أحمد ، عبد الهادي بلخياط ، محمد الحياني ، بهيجة ادريس ، عزيزة جلال ، نعيمة سميح .....أو الأغاني الشعبية من تراثنا المغربي كالملحون و العيطة بأنواعها و تمديازت و تماوين  و إزلان في التراث الأمازيغي ، لنعتك بالمتخلف و الرجعي ،  و نسي المسكين المغفل بأنه مجوف نخب هواء كما قال الشاعر حسان بن ثابت ، و أن مستواه المعرفي الجد المتدني هو سبب إقباله على تلك التفاهة و السخافة لأنها هي التي يستوعبها فهمه القاصر .

ختاما أقول إن الذوق يرتقي و يتهذب موازاة مع المستوى المعرفي و العلمي و مدى حصافة الوعي و تجارب الحياة ، لذلك شتان بين الاستماع و الاستمتاع .


الملحون و الأغنية المغربية

 🎻    الشعر الملحون وأثره في الأغنية المغربية  المعاصرة🎻


             عرفت الأغنية المغربية المعاصرة حقا ازدهارا ورقيا، داما زهاء ثلاثة عقود ونصف من القرن الماضي بالتحديد من بداية الخمسينات إلى نهاية الثمانينيات، إن على مستوى الكلمات أوالألحان أوالأداء، لأن الأغنية هي هذه العناصر الثلاثة مجتمعة ومتناسقة، وهذا الأوج الذي وصلته الأغنية خلال هذه الفترة المذكورة راجع إلى أنها نهلت من ثلاثة مشارب أساسية، يأتي في مقدمتها شعر الملحون الذي هو صلب موضوعنا، ولكن حتى لا نكون مقصرين أو مجحفين في حق مشربين أساسيين آخرين، لابد من الإشارة ولو بإيجاز إلى دورهما البالغ في الوصول بالأغنية المغربية إلى ذلك الأوج الذي وصلته وهما طرب الآلة (الموسيقى الأندلسية)، وكذا انفتاح المغاربة على الموسيقى الشرقية إبان نهضتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فالتراث الأندلسي الذي حمله المهاجرون الأندلسيون، والذين استقروا به في بعض الحواضر المغربية، كان له أثر كبير في صياغة ملامح الموسيقى والغناء في المغرب وأضاف غنى جديدا للموسيقى المغربية بألحان وميازين لم تكن معروفة ولقد حظيت الموسيقى الأندلسية في المغرب باهتمام الغيورين عليها، وأنشأوا فرقا موسيقية تعنى بها وتحييها في المناسبات كالأعياد والأفراح ومن أشهرها جوق محمد البريهي ، كما تأسست فرقة الخمسة و الخمسين في ثلاثينيات القرن الماضي بمبادرة من الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله، وتم كذلك تأسيس الجوق الملكي للموسيقى العصرية وكان يضم أمهر العازفين والمطربين، وبرزت اسماء لها وزنها في الساحة الموسيقية المغربيةكالمرحوم عبد السلام الرفاعي، أحد أبرز أعلام الموسيقى الأندلسية وانبثقت أجواق أخرى أسسها فنانون وملحنون واحتدمت المنافسة بينها، فكان ذلك بمثابة حافز على الإبداع والارتقاء بالأغنية المغربية.أما المنهل الآخر الذي استقت منه الأغنية المغربية والذي لا يمكن كذلك تهميشه أو إقصاؤه هو الأغنية الشرقية والدور الذي لعبته إبان نهضتها في مصر مع مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي، حيث اكتسحت الأغاني الشرقية بيوت الناس، وشنفت أسماعهم إما عبر أمواج الإذاعة أو بفضل الحاكي ( Tourne disque ) الذي كان يعمل بالاسطوانات، وقلما تجد بيتا يخلو من هذا الجهاز، وأقبل الناس على سماع الأغنية الشرقية وأصبح لها مكانة رفيعة في نفوسهم وأضحى الكثيرون يفضلونها عما سواها ولم يعد الإقبال على الفنون الشعبيةالمتداولة آنذاك كالعيطة و الڭناوي والحضاري بل انساق الجل وراء الأغنية الشرقية وأخذوا يقلدون كبار الموسيقيين المصريين من أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وتأثروا بالملحنين الكبار أمثال القصبجي والشيخ

زكرياء أحمد ورياض السنباطي و محمد الموجي و بليغ حمدي وغيرهم وقد زار عدد من الفنانين المصريين المغرب وأحيوا سهرات في مدن مغربية كما شارك المغاربة في مهرجانات ولقاءات موسيقية بمصر بل منهم من اتخذ مصر قبلة لدراسة الموسيقى كالمرحوم عبد الوهاب أڭومي و أحمد البيضاوي، كل هذا التفاعل ساهم في بلورة وتطوير الأغنية المغربية خصوصا على مستوى الألحان والأداء فتأسست أجواق مغربية عصرية اسوة بمثيلاتها المصرية، كجوق راديو المغرب للطرب العصري في بداية الخمسينيات برئاسة الموسيقار أحمد البيضاوي الذي تشبع بالموسيقى الشرقية وساعدته في تطوير الموسيقى المغربية.

    إذن بعد هذه الإشارة الطفيفة إلى هذين المشربين ننتقل إلى المشرب الأساسي والينبوع المتدفق ألا وهو شعر الملحون وعلاقته بالأغنية المغربية، من المعلوم أن شعر الملحون يعتبر ديوان المغاربة وذاكرتهم الشعبية، وهو فن قديم في المغرب، ولا تجد منطقة تخلو من هذا النوع، حيث كان شاعر الملحون الناظم هو لسان حال قومه والمعبر عن آلامهم وآمالهم في جميع الأغراض وما أكثرها وأجملها في شعر الملحون، كالمداحيات والمصليات والحزريات والورشانيات والجفريات والتوسلات والمسليات والعشاقيات والخمريات والمراسلات والغزوات والسير الذاتية والحكم والتراجم والزهد وغيرها، وقد انتشر شعر الملحون انتشارا سريعا في جميع مناطق المغرب، بل وحتى خارجه إلى المناطق المجاورة، وهذا راجع لعدة أسباب منها:

   شعراء الملحون كان أغلبهم وخصوصا القدامى منهم متصوفة وزهاد يكثرون من الترحال والتجوال، فلا يطول بهم المقام في مكان حتى يبرحونه إلى آخر ولا يمكثون كثيرا بزاوية حتى يغادرونها إلى أخرى، إما طلبا للرزق أو التتلمذ والاستزادة في علم الموهوب على يد أشياخ آخرين كما أن بعضهم اضطرتهم الظروف السياسية والاجتماعية لمغادرة موطنهم الأصلي وهكذا تيسر انتشار شعرهم كما ساهم الحفظة في توسيع نطاقه بما كانوا يرددون من القصائد وسط حلقات كما هو الشأن في جامع الفنا أو البطحاء في فاس أو في الحدائق والعراسي ولم يقتصر الأمر على هذا بل منهم من كان يسترزق بهذا المنتوج حيث يطوف القرى والمدن ويردد القصائد على أبواب المتاجر والبيوت طلبا للصدقة والمعونة، فتوارثت القصائد بين الناس وأصبحت تردد في المناسبات وهذه الميزة نلحظها بإقليم الرشيدية قديما

( تافيلالت )  حيث أن المطربين يقضون ليلة العرس في إنشاد قصائد من شعر الملحون، ولعل هذه كلها عوامل كفيلة لانتشار شعر الملحون، فلقي إقبالا من لدن الناس وأصبحوا يتذوقونه أكثر من أي لون آخر وظهر شعراء آخرون في فترة ما قبل الاستقلال ونهلوا من شعر الملحون وتشبعوا به وفاضت أقلامهم زجلا راقيا، ويعتبر الأستاذ الجليل السيد أحمد سهوم أحد فطاحلهم، وهكذا نخلص إلى أن شعر الملحون هو المهد الذي ترعرع فيه شعراء الزجل وكان له أثر في ظهور مجموعة من الزجالين المرموقين الذين أثروا الأغنية المغربية إما على مستوى القصيدة كأمثال:

  عبد الهادي التازي – محمد بنونة – محمد البوعناني – محمد الغربي – عبد الرفيع الجوهري – علال الخياري – وغيرهم كثير ...

  وفي الزجل ظهر شعراء بارعون من أمثال:

البشير لعلج – محمد الطيب لعلج – عبد الرحمان العلمي – حمادي التونسي – العربي بنبركة – الطاهر سباطة – فتح الله المغاري – علي حداني – مصطفى بغداد، وغيرهم ممن طوروا العامية المغربية وارتقوا بها إلى مستوى لغة إبداعية جميلة، أضفت على القصيدة والأغنية روعة وبهاءا وأطربت الناس وآنست وحشتهم وعبرت عن همومهم فبقيت خالدة ونذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر: الشاطئ – القمر الأحمر – راحلة – الأمس القريب – حبيبي تعال – حبيبي لما عاد – واحة العمر – يا صاحب الصولة والصولجان – وأغانى زجلية لا تقل روعة من مثل: كاس البلار- في قلبي جرح قديم – يا الغادي فالطوموبيل – هذا شحال – علاش يا غزالي – بارد وسخون يا هوى – سولت عليك العود والناي – جريت وجاريت وغيرها كثير ...

   إذا كان هؤلاء هم واضعوا كلمات هذه الأغاني الخالدة فإن روعتها وجماليتها كملت يتلحينها من قبل عباقرة الألحان من أمثال أحمد البيضاوي -  عبد السلام عامر – عبد الرحيم السقاط – عبد الوهاب أڭومي – ومحمد بن عبد السلام – عبد القادر راشدي – عباس الخياطي – محمد بلخياط – عبد الله عصامي – عبد الرفيع الشنقيطي – عبد العاطي امنا – حسن القدمير – أحمد العلوي – عز الدين منتصر – عبد القادر وهبي، واللائحة طويلة ... لقد عمل هؤلاء الفطاحل من الملحنين على تطوير وصياغة الأغنية المغربية، فاختاروا لها أصواتا ندية وحناجر صادحة من خيرة ما جاد به زمان الفن الراقي، حتى لقبوا برواد الأغنية من أمثال:

    فتح الله المغاري – المعطي بلقاسم – ابراهيم العلمي – اسماعيل احمد – عبد الوهاب الدكالي – عبد الهادي بلخياط – محمد الحياني – بهيجة ادريس – عزيزة جلال – فاطمة مقدادي – لطيفة رأفت...

  هنا ثمة سؤال يطرح نفسه بإلحاح وهو علاقة شعر الملحون بكل ما ذكرنا والإجابة ببساطة هي أن هذا الجيل من الرواد سواء الشعراء منهم أي واضعوا الكلمات أو الملحنين أو المغنيين كلهم تخرجوا من مدرسة شعر الملحون أي أنهم كانوا على إطلاع كبير به وبغيره من الفنون الغنائية الراقية آنذاك مما انعكس إيجابا على أعمالهم الفنية فأضفت عليها الجمالية ورقة الحس وروعة النبرة، ولا غرو في هذا إذ أن أغلبهم كانوا ينحدرون من أسر عريقة في الفن تعودت على سماع الغناء الراقي من مشاربه الأساسية سواء كان شعر ملحون أو طرب أندلسي، أو أغاني شرقية، فكانوا في شبابهم مقلدين لغيرهم مما صقل لديهم الموهبة وسهل عليهم ولوج عالم الغناء وهم على مسكة عظيمة مما يحملونه من رصيد فني لا يستهان به.

     إذا تصفحنا أشعار هذه الأغاني الخالدة نجدها لا تبتعد عن شعر الملحون فعلى مستوى المضمون مثلا: نلاحظ أن الأغراض التي تطرق إليها شعر الملحون نلمسها في الزجل المغنى، ولعل الأغاني الدينية أقوى مثال على ذلك فأغنية " محمد صاحب الشفاعة " للمرحوم اسماعيل احمد. أو أغنية " من ضي بهاك " للمرحوم محمد الحياني أو أغنية " يا قاطعين لجبال " لعبد الهادي بلخياط: كلها مستوحاة من غرض المديح الديني في فن الملحون، نفس الشيء بالنسبة للأغاني الوطنية فقد استمدت مادتها الحماسية والاعتزاز بالوطن والفخر بالانتماء له وتحصينه من كل بأس إلى شعر الملحون الذي جادت به قرائح الشعراء إبان الاستعمار فكان شعر مقاومة ودرء للمعتدين، كما نجد كذلك شعر المناجاة فإذا كان الناظم محمد الشريف بنعلي، يناجي الشمعة في قصيدة من روائع فن الملحون فإن الأستاذ علي حداني يناجي الجرح في أغنية " جريت أوجريت،" التي تغنيها نعيمة سميح أما فن العتاب فحدث ولا حرج، استمع إلى الناظم امبارك السوسي يعاتب المحبوب في أغنية " طال تيهانك يا محبوبي " وقارنه بعتاب ابراهيم العلمي في أغنية " هذا اشحال " أو المعطي بلقاسم في أغنية " علاش يا غزالي " أما على المستوى البلاغي فشعر الملحون زاخر بالمحسنات البديعية والبيانية ونلاحظ أن أغاني الرواد لا تخلو من تلك الصيغ البلاغية.

  أما إذا نظرنا إلى الكلمة المجردة، فكلمات الزجل المغنى هي نفس كلمات شعر الملحون لأن العامية المغربية موحدة في أغانيها: " يا عشراني لا تلموني،" " هذا اشحال،" " فين مشيت يا غزالي ديني معاك "  ، " عيني هي ميزاني "  و قس على ذلك ،

إذن هناك ارتباط وثيق بين شعر الملحون وكلمات الأغاني المغربية، وأقصد دائما أغاني تلك الفترة الذهبية.ولا يفوتني أن استحضر هنا دور المجموعات الغنائية التي ظهرت مع بداية السبعينيات وأقصد بالذكر مجموعة ناس الغيوان وجيل جيلالة والمشاهب في احياء فن الملحون، وتقديمه في حلة جديدة خصوصا مع مجموعة جيل جيلالة حيث تم تخفيف إيقاعه وتحبيبه إلى أولئك الذين كانوا يشتكون من طول قصيدة الملحون ومن إيقاعها البطيء،  فأزالوا باجتهاد منهم تلك الرتابة والملل الذي كان الشباب يشعرون به، فأقبلوا عليه في حلة جديدة واستعملوا كلماته، في حين تمسك أخرون بالأداء التقليدي المعروف للقصيدة وأقبلوا على سماعه من قبل نشادة بارعين وعلى رأسهم الحاج الحسين التولالي الذي لا أظن أن الزمان قد يجود بمثل هذا الرجل في فن الإنشاد.


             🌷  الكاتب  :  زايد وهنا  🌷

تأملات

             تأملات

 عندما تختار مكانا هادئا ، تختلي فيه بنفسك

لتكسر رتابة الحياة ، لا شك أن هذا المكان الجميل يذكرك بأمكنة أخرى كان لك فيها من الذكريات أبهجها و قد تركتها خلفك ، و لم يبق منها في ذاكرتك إلا أثر من ذلك الأنس ، فترى أن هذا المكان و إن كان يتميز بطبيعته الخلابة التي يقصر الوصف عن جمالها ، يبقى بالنسبة لك مكانا لا روح فيه ، بعكس الأمكنة التي تحتفظ بها في ذاكرتك حيث تتجانس الطبيعة و مجالس الفكر و الأدب ، و تتناغم مجاريها المائية و مجالس الطرب ، و تتآنس أزهارها و أطيارها و مجالس اللهو و الترف ، كل شيء فيها من حولك كان في وقت مضى ينبض بالحياة ، يروح عن النفس و يبعث في جلسائها البهجة و الحبور .

أما في هذا المكان البعيد ، و رغم جمال طبيعته ، فأنت تشعر بالغربة ، تتأمل في أرجائه الهادئة و لا يحرك فيك ساكنا بل تسرح بتفكيرك مستعرضا أشرطة ذلك الزمن الجميل ، فلا تشعر إلا و أنت تسأل نفسك ، تلك الأمكنة من ذلك الزمن لم تغير مواقعها ، و لكن لماذا فتر نبضها و تلاشى بريقها ، و ناحت بلابلها ، لأنه و بكل بساطة غاب عنها جلساؤها  منهم من قضى نحبه ، و منهم من تقاذفته أمواج الحياة و رمته بعيدا ، كما فعلت بك ، أما القلة ممن بقي منهم لم يعد له ارتباط بالمكان كما كان من ذي قبل .

و بينما أنت كذلك شارد في أحلامك ، فإذا بمن 

يلتقط لك هذه الصورة على حين غرة و دون سابق إنذار ، فيوقظك من حلمك الجميل ، فتقول في نفسك ليته ما جاء و ليته ما فعل .

أعاتب نفسي

 



              أعاتب نفسي

إن كان يرضيها بعدنا

                  فما لبعد إذا أرضاها سقم

حسبت القرب منها مودة

                 و لم أدر أن مودتها ألم

أنزلتها منزلة لم تدركها 

                ليلى قبلها و مريم

سعيت إليها سعي المحب

              و لغيرها تالله ما سعت قدم

القلب ينفطر لوعة و هياما

                بها لا بغيرها يهيم و يغرم

حازت من المفاتن حسنها

             فما أدري أيها أصف و أرسم

أمن غرة جبين وميضها

            يشع ضياء و الليل مظلم 

أم من خصلات جدائل قد

              زان ضفيرتها شعر أفحم

أم من أشفار رموشها

               كالسهام تدمي وتهزم

أم من لظى وجنات كأنه

             ورد تضيء لياليه الأنجم

أم من عقيق ثغر قرمزي

            يلمع بريقه حين يتبسم

أم من رشفة رضاب هي 

            الشهد و المنى و البلسم

أم من جيد كجيد المها 

            هف يلفه عقد منتظم

أم من تفاحتين يطلان

            من الكم كأنهما البرعم

أم من أرداف كدنتيها 

           كموجتين عند المشي ترتطم

أم من ساعد تلفه أساور

             قد أخرس رنينها المعصم

أم من ساقين مكتنزين

              يزين كعبيهما خلخال أبكم

جمعت مفاتن الغيد كلها

             فكيف لعاشق مثلي لا يغرم

الغنج و الدلال أوهماني 

              أن الفؤاد بالفؤاد ينسجم

ساقاني إليها مكبل اليدين

             أقاوم الشوق حينا و أستسلم

وضعت قلبي بين كفيها

             مناه بدفء ملمسهما ينعم

أمنيه بعطف منها منتشيا

             عله بظل رقتها يستعصم

لكن الجفا مزقه و رماه

             بأوجاع دامية عليه تجثم

كبركان ثائر في أحشائه

             تفور النيران و تغلي الحمم

لم تأخذها به رأفة و لو

               ظل يستجديها و يتوسم

 صدت في وجهه بابا فأين

               منها ذاك الإحسان و الكرم

إن لم يكن منها ود يؤنس

             فبمن سواها يلوذ و يسترحم

ما كنت أحسب يوما ان

              القرب ممن أهوى محرم

و ما للأدب عنده أسأت 

             بل للمليح العفيف أحترم

ولا علمت قط أن لمن

              أبث لوعة العشق به صمم

ما ضر لو أن لمسة منها

            تطفئ نارا في الحشا تضطرم

أو كلمة منها تفوح طيبا 

            تضمد جراحا مثخنة فتلتئم

لا هي تلمح لحب تكنه

            و لا هي تبدي صدودا يعلم

لا ذاك يغري و لا هذا يثني

           و لا كليهما بصريح القول يحسم

النظرات تشي بما في النفس 

            و اللسان عن الفصح يتلعثم

ستبدي لها الأيام أن هجر

            العشيق الوفي أمر محرم

حينها تعلم حقا أنها قتلت

            محبا  بريئا بها متيم 

يواسي قلبا عليلا أضناه

            الحب و عن سر دائه يتكتم

كقيثارة فقدت أوتارها 

             فناح لفقدها اللحن والنغم

تصبح بلابلها و تمسي 

             بالأسى المرير كالبوم تنأم

لله در عاشق  مخلص

              يرى أسوار أمانيه تهدم

عفا رسمها إلا من أطلال

              ينوح عليها الطير القشعم

ما أتعس قلبا يهده الأسى

             و بلا رفق يسحقه الندم

تجرع مرارة الليالي لكن 

              هجر الجميل طعمه علقم

احتقن القلب منها غيظا 

             والغيظ في نفس الحر يكظم

كيف تسأل عن سبب علتي

             و هي بسر الأوجاع  تعلم

لو جاريت عقلي لكنت 

              عن حب من ينآى محجم

لكن طاوعت قلبي و لست

               فطنا أسمع للعقل و أحتكم

القلب يتوق لهفة و العقل

                في كل حين لعنانه يلجم

ليس كل من تهواه يهواك 

                و لا كل من تصادقه يلتزم

القلوب لبعضها إذا هفت 

                توافقت و دانت لها الهمم

عشق الشاب له عذر و لا

                 عذر لعاشق أدركه الهرم

أضناني يافعا و ضناه عند

                المشيب لو علمت أعظم

إذا لم يكن لي في ودها 

             حظ فماذا يجدي التذمم

سأواري الحب الثرى و على

              الإخلاص و الوفاء أترحم

وألتمس للمحب عذرا و العذر

              في مثل حالها للقلب أسلم

لا ينال المنى في زماننا 

               إلا  كذوب مخادع متهكم

لا يستوي في العشق عذري

               صادق بخب متهور ينقم

قد أكون المغفل حقا إن

              لم أكن لبيبا للعبر أستلهم

لم أر في دنياي مستريحا 

                إلا الكفيف الأصم الأبكم

ما شكواي تضجرا و لست

               بأي حال للمحب أختصم

و ما عتابي تذللا و لكن 

               بلوم نفسي الأبية أختم       

يا ويح قلب هش مرهف 

                عليه أنصال الهجر تلتحم 

لو طاوعت لوعته شعرا 

          ما جف الدمع ولا توقف القلم