💜ليلة في جزيرة العرب💜

الروضة الفيحاء

ليلة في جزيرة العرب

********     ليلة في جزيرة العرب    *******

 رأيت فيما يرى النائم ، أني أسير في فلاة جرداء موحشة  ليس بها من الشجر غير أحراش و أشواك متناثرة هنا و هناك و قد يبست وريقاتها بفعل الشمس المتقدة الحارقة ، فأضحت هشيما تدره الرياح في كل الاتجاهات ، و اتخذته بعض الخنافس و العناكب مطية لها تتقي به حرارة الرمال اللافحة ، كل خطوة أخطوها على هذه الرمال تهز في مشاعر الخوف ، الخوف من الظمإ أو من لدغة ثعبان أو من هذا المجهول الذي أسير صوبه ، أرفع بصري نحو السماء فلا أرى غير أشعة حارقة بيضاء تكاد تذهب بالأبصار و أنظر ذات اليمين و ذات الشمال فلا أرى غير السراب ، بدأ الشعور باليأس يدب في نفسي و نبضات قلبي تزيد خفقانا ، فأيقنت أنني في مرمى الهلاك خصوصا و قد أشرف زادي على النفاذ و لم يتبق لي من الماء غير رشفة  ، عقدت العزم و انطلقت أطوي المسافات حتى لاح لي جبل كأنه خيط أسود ، فانتابني بعض الأمل يزداد كلما اقتربت منه ، فما كدت أصل سفحه حتى خارت قواي و شعرت بعياء و عطش شديدين ، جلست على جلمود أستريح و تجرعت ما تبقى من ماء ساخن ، و في نفسي رغبة ملحة على أن أكمل صعود الجبل و أنظر من أعلى قمته ما يخبئه القدر ، استجمعت قواي و جددت العزم و ما كدت أبلغ القمة حتى استوقفتني أصوات غريبة ، حينها امتزج الأمل في النجاة بالخوف من المجهول ، تجمدت مكاني و ألقيت السمع ، فإذا هي أصوات صهيل الخيل ، و لو اطلعت علي ساعتها  لحسبتني أحد رعاة البقر تائه في صحراء كولورادو الأمريكية ، استأنفت تسلق القمة في حرص شديد على ألا يفتضح أمري ، رفعت رأسي ببطء فإذا بي أرى مجموعة من الخيام  قد نصبت على شكل دائري ، و في باحتها ثلة من الرجال جالسين و إلى جانبهم خيول تثير النقع بحوافرها ، طأطأت رأسي و تزاحمت الأفكار في ذهني ، و طفقت أختار أي الحلول أرجح ، فاستقر رأيي على أن أستغيث بهم ، و مهما يكن من أمرهم ، فهو أهون من موت محقق في هذه الفيافي المقفرة من غير زاد و لا ماء ، استخرت الله في مصيري ، رفعت قميصي الأبيض فوق رأسي إيذانا بالإستسلام ، تقدمت نحوهم متمهلا  و نبضات قلبي تتسارع و أنا أرنو إليهم بعين الريبة منتظرا رد فعلهم ، غير أن لا أحد منهم أبدى شيئا مما كنت أتوقع ، حتى لم تعد تفصلني عنهم إلا خطوات قليلة ، و قد هالني ما رأيت فهم نفر بين تسعة و عشرة ، مزنرين بالسيوف و على كتف كل واحد منهم كنانة مليئة بنبال تلمع كعوبها كلما تعرضت لأشعة الأصيل الذهبية ، و الملفت للنظر أنهم ذوو بنيات جسمانية تثير الدهشة ، يضعون عمامات كبيرة لفت على رؤوسهم لفا متقنا و على دقونهم لحى شديدة السواد و قد قست بعناية ، و حباهم الله  احورارا زادهم حسنا و جمالا يقصر عنه الوصف ، تطوف عليهم غانية  حسناء تسقيهم مداما في أقداح  من طين و ضحكاتهم تتعالى من حين لآخر و كأن البيداء خلقت لهم دون غيرهم ،  حينها أداروا رؤوسهم نحوي ،فبادرتهم بالسلام خوفا منهم و طمعا في مساعدتهم ، فرد أحدهم قائلا :
  " عمت مساء أيها الغريب "
بينما قام آخر و أخذ بيدي و أجلسني على رداء من صوف و أمر بإحضار الطعام و الماء ، فردت إلي نفسي بعد أن كادت تزهق من الخوف ، فأقبلت على الأكل و الشرب بنهم شديد خصوصا و أني استأنست بهم و لمست منهم حسن النية ، كل ذلك و هم منشغلون بمعاقرة الخمر و قول الشعر ،
استلقيت بجانبهم وكانت الشمس ضياؤها يتوارى خلف الكثبان الرملية ، فإذا بغلامين من زينة شبابهم قد أوقدا نارا وسط حلقتهم ، فسمعت أحد الرجال يأمرهما بذبح شاتين و سلخهما و الإتيان بهما لطهيهما على النار وسط الجمع ، كان يقول ذلك و هو ينظر باتجاهي و كأن هذه المأدبة ستقام على شرفي كضيف التجأ إليهم و استغاث بهم .
طلب مني أحدهم الانضمام إلى مجلسهم ، فقمت لا ألوي على شيء ، و كيف لا ، و قد شعرت بالطمأنينة و الأنس بعدما كاد اليأس يعصف بي ، اتخذت مكانا بجانب الرجل الذي أكرمني ، و طفقت أنظر إليهم واحدا واحدا ، و لم يسترع انتباهي غير واحد منهم كان أسود اللون مفتول العضلات عريض المنكبين ، يتأبط حساما يختلف عن سيوف ندمانه ، و الشرر يتطاير من عينيه الواسعتين ، لا يتكلم إلا نادرا ، فكنت أتحاشى النظر إليه حتى لا يشعر بشيء مما يريبه .
و بينما نحن على تلك الحال ، بادرني أكبرهم سنا سائلا :
  " من تكون يا هذا "
أجبت بكلام خافت توقيرا له و خوفا منهم :
  " أنا عربي يا سيدي "
ضحك الجميع ، ثم أردف السائل قائلا :
  " ما من شك في ذلك ما دمت تتكلم العربية ، و     لكن نريد أن تسمعنا شعرا "
فكرت قليلا و اخترت من شعري ما أظنه ينال إعجابهم ، فما كدت أنهي البيت السابع حتى نهرني أحدهم :
  " صه ، صه ، ويحك أتحسب هذا شعرا " ؟
ندمت أشد الندم على تسرعي ، فإذا بالرجل المسن يهدئ من روعي و يقول :
  " أتعرف من هؤلاء الذين تجالسهم ؟ "
قلت :
  " و كيف لي ذلك و أنا ابن سبيل ، صادفتكم في طريقي ، فأكرمتم مثواي جزاكم الله خيرا "
فإذا به يأخذ قوسه و يشير به نحو جلسائه موضحا :
  " فالرجل إلى يمينك هو النابغة الذبياني و الذي يليه هو امرؤ القيس و الى جواره طرفة بن العبد و عمرو بن كلثوم فعنترة بن شداد ثم الحارث بن حلزة أما أنا ..." هنا قاطعته قائلا :
  " أنت إذن زهير بن أبي سلمى "
فابتسم الرجل و قال :
  " كيف عرفتني يا هذا ؟ "
أجبت على الفور :
  " أنتم شعراء العصر الجاهلي الذين لا يجاريهم أحد ، و قد درسنا أشعاركم في مدارسنا "
هنا انتفض الجميع ، و إذا بأحدهم  يقول :
  " ويحك ، ماذا تقصد بالجاهلي ، أتنعتنا بالجهل ، و نحن من خيرة العرب ، فهل منكم من يستطيع مجاراتنا في القريض ؟ فرطتم في اللغة العربية و أهملتموها و افتقدتم ملكة و سليقة النظم ، فأضحى شعركم هراء ، فأنتم أحق و أجدر بالجهل "
ارتعدت فرائصي و أنا أرى الرجال كل يتحسس غمد سيفه و لكن سرعان ما تبين لي أنهم اعتادوا على وضع آياديهم عليها و هم يتحاورون .
تنفست الصعداء و قلت :
  " على رسلكم يا جماعة ، لا أقصد بالجاهلية ما تظنون ، فقد بعث الله فينا نبيا اسمه محمد ، جاء بدين الإسلام إلى الناس كافة ، فنبذ الأصنام التي كنتم تعبدون و حرم كثيرا من الفواحش التي كنتم ترتكبون ، و أبقى على بعض القيم النبيلة التي كنتم تتحلون بها ، و لعل تلك الرذائل التي سادت عصركم هي سبب تسميته بالجاهلية "
و لم أشعر إلا و امرؤ القيس يستوي قاعدا على ركبتيه و قال في غلظة و فخر :
  " كيف سولت لكم أنفسكم أن ترموننا بالجهل و نحن أشعر أهل الأرض "
قلت في نبرة يعتريها الخوف و حب الإقناع :
  " أنتم يا سادة أشعر الناس ، و لا أحد في عصرنا ينكر ذلك ، و ما أطلق اسم الجاهلية على عصركم إلا بفعل تلك الفواحش ..."
لم أكد أنهي كلامي حتى انتصب عنترة بن شداد واقفا و صرخ في وجهي مزمجرا كأنه أسد أمام عرينه :
  " ثكلتك أمك أيها المجنون ، أي فواحش تقصد ؟ "
تبسمت في وجهه حتى أهدئ من غضبه و قلت في جرأة وقد استأنست بالجدال  :
  " أنتم تعبدون آلهة من حجر صنعتموها بأيديكم ، و تتقاتلون فيما بينكم ، و تئدون البنات ، و تعاقرون الخمر ، و ترتادون خيام ذوات الرايات الحمر ، و تؤمنون بخرافة الأزلام ، و هذه و غيرها من العادات السيئة حرمها الإسلام بعدكم "
قلت هذا و أنا أرتعد خوفا من ردة فعل أحدهم و التي قد تكلفني حياتي ، غير أنهم انفجروا ضحكا و هم يتهكمون مما قلت ، حينها تقدم نحوي حكيمهم زهير بن أبي سلمى ، و قال :
  "  ليس بيننا و بينكم فرق فيما نسمعه عن فضائحكم ، إن كنا نعبد الأصنام ، فأنتم تعبدون أسيادكم من البشر ، و تقدسون المال و لو على حساب كرامتكم ، و تتمسحون بالأضرحة ترجون عونها ، و تقاتلون بني جلدتكم في الدين و العروبة مقاتلة الجبناء ، حتى شاعت أخبار تخلفكم و مهانتكم كل بقاع الأرض و أصبحتم أذل أمة ، و تفشت فيكم الرذائل مجتمعة من شرب الخمر إلى المخدرات بأنواعها ، أما الزنا و العهر فأنتم بلغتم فيه مبلغ السفهاء ، حتى بات العري و الدعارة أمرا عاديا في أوساطكم ، تئدون أبناءكم ذكورا و إناثا بالإجهاض ، تلدونهم و تلقون بهم أحياء في القمامات  ، عجبا لكم تدعون التحضر و الحداثة و أغلبكم يؤمن بالخرافات ، تمارسون السحر و الدجل  حتى استشرى النصب و الاحتيال ، و عم الظلم و الفساد ، كل هذا و أنتم أصحاب رسالة سماوية جاءت لتخرجكم من الظلمات إلى النور ، فتركتم النور و ولجتم الظلمات ، أي جاهلية أفضع من هذه ؟ أما نحن فلم يبعث فينا نبي و لم ينزل علينا كتاب و رغم ما كنا نقترف من فواحش كانت لنا مزايا و صفات حميدة تفتقدونها أنتم يا أهل التحضر ، من مثل الشجاعة و الأنفة و الكبرياء و الكرم و الغيرة على العرض و الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة حتى صرنا مضرب المثل في المروءة  ".
قال كلامه هذا و ألقى بقدح الخمر على الأرض و هو يتمتم بكلام لم أسمع منه غير هذا :
  " كنا أسياد الأمم و أعزة القوم ، تهابنا الروم و الفرس ، فجئتم أنتم و مرغتم العروبة في الذل و عفرتم الكرامة في الوحل ، تبا لكم و لعصركم ".
ساد صمت رهيب يكسره صهيل الخيل و نباح الكلاب ، و ارتفع دخان الشواء وسط الجمع و انتشرت رائحته الشهية ، فإذا بطرفة بن العبد يرشف رشفة من قدحه و يأمر أصحابه بترك الجدال معي ، لأنني في نظره مغفل مغرور ، و أنني لست ندا لأحدهم شعرا و لا مبارزة .
أحضر الغلامان طعام العشاء ، و تحلق الجمع حوله ، و فسحوا لي مكانا بينهم و استقدموني في الأكل على عادتهم ، أقبلت على اللحم المشوي بنهم شديد ، و لا أذكر قط أنني أكلت مثله لذة و طراوة .
شكرتهم على حسن ضيافتهم و كرمهم ثم تنحيت جانبا و استلقيت على ظهري أنظر إلى النجوم ، و إذا بعنترة بن شداد يمشي على الرمل البارد حافي القدمين و ينشد شعرا في معشوقته عبلة ،  لم أشعر بشيء آخر مما حولي فقد غلبني النعاس من شدة العياء ، فرحت أغط في نوم عميق ، فإذا بعبلتي توقظني و يا ليتها لم تفعل  ، جلست في سريري أعيد شريط الرؤيا ، و كم تمنيت أن أبقى معهم إلى الأبد ....

       ****     الكاتب   :    زايد وهنا    ****

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق