🗝 المفتاح المفقود 🗝
أول ما بدأت أعي ما حولي ، وقر في نفسي حب جدي و جدتي طيب الله ثراهما ، فمنذ تلك السن المبكرة تعلقت بهما تعلقا فاق تعلقي بوالداي ، حتى صارت أسعد أوقاتي تلك التي أقضيها في حضنهما أو بالقرب منهما .
كان جدي و جدتي لا يفترقان ، يجلسان بمحاداة بعضهما
و قليلا ما ترى أحدهما منفردا عن شريكه ، و لا يكون ذلك إلا لضرورة كوضوء أو صلاة .
كنت كلما رجعت من المدرسة ، أطوي الطريق جريا لأرتمي في أحضانهما ، و أبدأ في سرد كل ما لقننا إياه المعلم من آيات قرآنية و أناشيد ، فكانا رحمهما الله يصغيان لما أقول رغم تفاهته الصبيانية و هما يربتان على ظهري ، مبديان إعجابا مبالغا فيه لإرضائي و تشجيعي على الدرس
و التحصيل ، و في المساء أنتظرهما بفارغ الصبر حتى ينهيا صلاة العشاء فأرتمي في حضن جدتي لتسمعني حكاية جديدة أو تتمم حكاية الأمس التي غالبني النعاس و حرمني متعة أحداثها الشيقة ، و لعل هذا كله ما جعلني أرتبط بهما ارتباطا ، يغنيني عن بقية أفراد أسرتي بما فيهم أبي و أمي .
كنت رغم صغر سني ألاحظ الفرق بين العلاقة التي تربط جدي بجدتي و بين تلك التي تربط أبي بأمي ، فتجدني أقارن و أسائل نفسي دون أن يهتدي عقلي الصغير إلى جواب .
لماذا لا يجلس أبي بالقرب من أمي كما يفعل جدي بجدتي ؟.
لماذا لا يبتسم أبي لأمي أو تبتسم له هي كما يفعل جدي
و جدتي لبعضهما ؟.
لماذا جداي متفاهمان و ما حدث يوما أن تجادلا أو رفع أحدهما صوته على الآخر ، في حين أن والداي كثيرا ما يتجادلان بصوت مرتفع يوحي للسامع أن أحدهما لا يطيق الآخر ، و لا يكن له أدنى تقدير ؟.
لماذا والداي لا يتحدثان معي و يسلياني كما يفعل جداي ؟.
لماذا جدي و جدتي لا يمتلكان الهاتف المحمول ، بينما أبي
و أمي و إخوتي الكبار لكل منهم هاتفا يتصفحه في صمت
و لا يحيد بصره عنه إلا نادرا ، بل منهم من يتصفحه و هو يأكل ؟.
لماذا أبي و أمي ليسا بنفس سعادة جدي و جدتي رغم امتلاكهما لكل وسائل الراحة و الرفه ؟.
كانت هذه الأسئلة و غيرها بمثابة مطارق تدق في رأسي ،
و تكبر معي يوما بعد يوم ، و لكن في أحد الأيام قررت أن أطرحها على جدي ، فهو لا يتضجر من أسئلتي عساني أشفي غليلي منها و أطوي صفحتها التي باتت تؤرقني .
كان الفصل صيفا ، و لا يحلو التنزه إلا وقت الأصيل حيث تنفطر الحرارة ، و يهب نسيم عليل ينسينا لفح الضحى ، طلبت من جدي أن يصاحبني إلى الحديقة المجاورة لبيتنا ، استحسن الفكرة إذ كان هو أيضا في حاجة لمثل تلك الفسحة .
اقتعدنا أريكة في مكان ظليل ، أخرج جدي سبحته التي لا تفارقه و طفق يمرر حباتها بين سبابته و إبهامه ، يحمدل تارة و يسبحل أخرى بصوت خافت ، انتظرت حتى مرر آخر حبة من السبحة ، فاستوقفته قائلا :
" جداه ، أراك و جدتي تنعمان بالهدوء و السكينة ،متفاهمان ، منسجمان ، تغمركما السعادة رغم أنكما بلغتما من الكبر عتيا ، و لا تمتلكان ما يمتلكه والداي من أسباب الرفه التي من المفروض أن تجعلهما أكثر سعادة و سكينة " .
نظر إلي نظرة المستغرب ، إذ لم يكن يتوقع أن يصدر هذا الاستفسار من طفل لم يتجاوز عمره الثالثة عشر ، اعتدل في جلسته و هو يضمني إليه بيد و يربت بالأخرى على ركبتي ، صمت برهة و كأن لسان حاله يقول لم تعد ذلك الصبي اللعوب ، فقد بلغت من النضج و الذكاء ما يمكنك من فهم بعض الأمور في الحياة ، ضمني إليه في حنان مرة أخرى
و قال :
" يا بني لا تقاس السعادة بما يمتلكه الإنسان ، فقد عشت
و جدتك عمرا طويلا في زمن لم نكن نملك آنذاك منزلا فخما و لا سيارة فارهة و لا ملابس فاخرة و لا هواتف و لا أي شيء مما جاد به زمانكم من المخترعات ، و لكن كنا نملك مفتاح السعادة ألا و هو القناعة .
عشنا حياة بسيطة يغشاها الحب الصادق و التمسك بالقيم النبيلة ، من احترام و صبر و تسامح و تعاون ، كنا قانعين
و مقتنعين بما لدينا و لا ننظر إلى ما في يد الآخرين ، و تلك
القناعة أكسبتنا سعادة لا تضاهيها سعادة .
أما أنتم فقد استبدلتم تلك القيم السامية بما جد في عالم التكنولوجيا ، و أصبحتم تتنافسون على الثراء و امتلاك مثل ما يمتلكه الأثرياء رغم محدودية طاقاتكم المادية ، فضيعتم بهذا التهافت على أنفسكم أسباب السعادة ، و أصبحتم تركضون ركض الوحوش في البرية تطاردون الماديات فغابت عنكم الروحانيات ، إذ استشرى الطمع و الجشع و رمى بالناس في براثين الفساد ، فضاع الصدق و العفة و الحياء
و الاحترام ، و فقدت لذة العيش ، فعمت الكآبة و التضجر
و السأم ، حتى أصبح الزوج لا يطيق زوجته و لا هي تطيقه ،
و لا الأبناء ينصاعون لأوامر أبائهم و لا الأباء أصلا يهتمون بأبنائهم لأن طوفان العصر جرفهم و انساقوا وراءه كمن يطارد خيط دخان .
أعرفت الآن يا بني سبب شقاء أجيالكم ؟ "
أومأت برأسي موافقا و مؤيدا ، و سكتت برهة أسترجع فيها كل ما قاله ، و تزاحمت الأفكار في ذهني ، لقد اكتشفت للتو أمورا كانت غائبة عني و قررت في نفسي أن تكون هي موضوع الإنشاء الحر الذي أمرنا المعلم بإنجازه .
💼 بقلم زايد وهنا 💼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق