أظنك عشت مثل هذه اللحظة

 #   أظنك عشت مثل هذه اللحظة  #


             قد يميل الإنسان أحيانا للجلوس وحيدا ، فيختار لنفسه مكانا غير الذي ألفه مع الأصدقاء ، حيث يرغب في مجالسة نفسه و الاختلاء بأفكاره و أحلامه ، دون أن يعكر صفو مزاجه أحد . 

و هو الأمر الذي يستهويني أحيانا ، إذ أشعر في جلوسي وحيدا براحة نفسية و أجد في نفسي ميلا و شغفا شديدين لكتابة خاطرة أو مقال أستوحي مضمونه مما أراه أمامي و أعيشه في مجتمعي من الأمور التي أنجذب إليها إما استحسانا و مدحا 

أو انتقادا و ذما ، فأنصب نفسي حكما و كأن ليس بي عيوب إلا ما أراه في غيري .

في هذا اليوم المشمس من أيام الخريف ، قررت أن أجالس نفسي ، فاخترت إحدى المقاهي التي لم يسبق لي أن ارتدتها من قبل ، في موقع جميل يطل على شارع كبير  يعج بالحركة ، استرعى انتباهي كثرة الحركة بالشارع المكتظ بالمارة ، الراجلين منهم و الراكبين ، و اتخذت موقف المتفرج المتفحص لما أراه أمامي ، و سرعان ما انتابني شعور غريب عن الدنيا في تناقضاتها و اختلاف أحوال أهلها .

فهذا رجل ثري بهندام أنيق يركن سيارته الفارهة و يتجه نحو

المقهى في خيلاء .

 و هذا متسول رث الثياب يستجدي العطاء من رواد المقهى .

 و هذا كهل يدفع عربة يوصل بها متاع الناس إلى بيوتهم 

و العرق يتصبب من جبينه .

و هذه شابة متبرجة تستعرض مفاتنها و السيجارة بين أصابعها . 

و هذا طفل دون سن الرشد يعرض مناديل ورقية للبيع . 

و هذا رجل يحمل بين يديه كتابا ، لا يلهيه شيء مما يلهيني أنا ، فبصره لا يزيغ عن صفحات كتابه .

 و هذه امرأة منقبة لا يظهر منها شيء على الإطلاق و قد انزوت و زوجها في ركن بعيد من حديقة المقهى . 

و هذا ماسح أحذية ، شاب في مقتبل العمر ، بوجه ملأته النذوب و أسنان مخربة .

و هذا رجل يعرض بضاعته على الزبناء ، و لسانه لا يفتر عن مجاملتهم و الإشادة ببضاعته ، و عينه على كل حركة من أحدهم عساه يبتاع منه شيئا .

و هذا رجل مسن ، غزا الشيب شواة رأسه و لحيته ، و خط الزمان أخاديد على محياه ، فاضطره وهن بدنه ، و قلة حيلته ، أن يتخذ له مكانا دائما قرب مدخل المقهى يبيع بذور عباد الشمس و أنواع السجائر بالتقسيط .

 و هذه امرأة تمشي الهوينى ، و علامات اليأس و الكآبة تعلو تقاسيم وجهها ، تضع على كل طاولة أمام الزبناء ورقة تطلب من خلالها المساعدة لإجراء عملية جراحية . 

و هذا شاب بتصفيفة شعر غريبة و لباس يكاد يكشف عورته قد غادر المقهى و امتطى دراجة نارية كبيرة تثير ضجيجا مهولا ، 

و في لمح البصر انطلق بها بسرعة جنونية أرعبت المارة . 

و هذا شاب مختل عقليا ينام في الشارع على الرصيف ، يفترش الأرض و يلتحف السماء .

و هذا شاب أنيق بلباس لا يلفت انتباها يحمل محفظة

 و حاسوبا لعله طالب أو موظف مبتدئ .

 و هذا رجل يجري مكالمة بصوت مرتفع أزعج من حوله من الزبناء و لو تأدب لانتحى بعيدا تفاديا للإزعاج .

 و هذا سكير يدخل المقهى يترنح و يعربد و يتفوه بما لا يرضي ، فترى النادل قد توجه نحوه و بنوع من الاستعطاف و اللين يحاول أن يصرفه عن المقهى تفاديا لأي شر منتظر .

و هذه سيارة تمر في الشارع و أبواق مذياعها ذات الصوت الصاخب المزعج ترعب المارة . 

و هذه أسرة اجتمعت حول مائدة يتناول كبارها ما لذ  و طاب ، 

و صغارها يلعبون و يجرون هنا وهناك يخترقون الممرات بين الزبناء و ضجيجهم يكاد يصم الآذان .

و هؤلاء ثلة من الرجال تظهر عليهم علامات اليسر و سعة اليد

مجتمعين حول مائدة دسمة و قهقهاتهم تملأ أرجاء المقهى غير مبالين بمن حولهم .

و هذه مجموعة من الشباب يرتدون زيا موحدا بنفس اللون

و الشكل يعزفون بالمزامير و يدقون على الدفوف ، يتنقلون بين زبون و آخر لعلهم يظفرون بدريهمات قليلة من أحدهم .

و هذا ...و ذاك ... و هذه ... و هؤلاء ...و أولئك...

          و هذا أنا الذي أرقب عن كثب كل ما يدور في المقهى 

و خارجه ، أستغرب أحوال هذه الدنيا و ما تفعله بأهلها .

لا أنكر أنني حمدت الله و شكرته على ما أنا عليه ، و لكن لا

أخفي كذلك أنني تأثرت لأحوال المستضعفين و البؤساء ،

و ضجرت من طيش بعض الناس و جهلهم و تكبرهم ، و فوق هذا و ذاك وطنت نفسي ألا أتصرف أي تصرف من شأنه أن يزعج الناس أو أقوم بشيء مخزي يلفت انتباههم نحوي ، فينطبق علي قول الشاعر أبي الأسود الدؤلي :

          لا تنه عن خلق و تأتي مثله 

                           عار عليك إذا فعلت عظيم 

و بعد أن أخذت على نفسي عهدا بذلك ، شرعت مباشرة في كتابة هذه السطور ثم غادرت المقهى في اتجاه البيت .


              بقلم : زايد وهنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق