ما ذنبه ؟

                                   ما ذنبه ؟


      كان يوم التحاقه بالمدرسة و هو في سن السادسة ،  يوما فاصلا في حياته ، و نقطة تحول قلبت حياته رأسا على عقب فشهادة ميلاده لا تحمل اسم أبيه و إنما تقتصر على اسم الأم و نسبها و هو نفس النسب الذي التصق باسمه هو كذلك .

منذ تلك اللحظة زاد إصراره على معرفة اسم أبيه و مكان وجوده ، طالما سأل أمه قبل اليوم أسئلة صبي بريء  ،  فكانت تخبره و الدموع في عينيها أن اسم أبيه سليمان و قد فارق الحياة قبل ولادته ، و هو في تلك السن المبكرة كان يقتنع بجوابها و لا يولي الأمر أدنى اهتمام ، فقد استهواه اللعب و المرح و لا يهمه وجود الأب ، ما دام لا يحتفظ في مخيلته بأي صورة له ، لأن خروجه إلى الدنيا كان بعد أن غادرها أبوه كما أخبرته أمه  .

   أما الآن و هو في المدرسة يرى الأباء يصاحبون أبناءهم 

و يسمع الزملاء يفخرون بما اشتراه الأباء لهم ، و الأهم من هذا و ذاك أنهم  يحملون نفس الاسم العائلي لأبائهم إلا هو الذي يرى أن اسم أبيه غير مدرج في شهادة الميلاد ، و أن

اسمه منسوب لإسم أمه العائلي .

بدأت الشكوك تلعب برأسه ، إذ أصبح يرى في الأمر شيئا غير طبيعي مقارنة بأقرانه ، و بات همه الوحيد معرفة اسم أبيه كاملا و نسبه الأصلي منه ، و زاد إلحاحه على أمه في معرفة ذلك ، و لكن دموعها و هي تجيب كل مرة بنفس الجواب ، جعله يرق لحالها و يتجنب كثرة السؤال رفقا بها ، سيما 

و أنه كان يحبها كثيرا إذ ليس له غيرها في هذه الدنيا .

توالت الأعوام و نضج فكر الولد ، فعاد السؤال إلى الواجهة ،

و أيقن أن في الأمر سرا يجب أن يكتشفه ليستريح من عبء

السؤال الذي أرقه و أضناه خصوصا و أن أعين الزملاء 

و الجيران لا ترحم ، فهي و إن لم تتفوه بشيء إلا أنها ترمي 

بإشارات ملغومة تجمع بين الازدراء في أعين أغلبهم و الشفقة 

في أعين بعضهم .

سن المراهقة الذي يعيش الولد تقلباته الفيزيولوجية 

و النفسية لم يترك له مجالا للسكوت ، فقد آل على نفسه أن يعرف الحقيقة مهما كلفه ذلك من ثمن و لو كان على حساب صحة أمه التي تدهورت بفعل المرض الخبيث الذي ألم بها .

و رغم مرضها فهو مضطر لفتح الحوار معها عساه يظفر بالحقيقة كاملة ، حينها لم تجد الأم مفرا من الاعتراف ، 

فأخبرته أن أباه سليمان ما زال على قيد الحياة و لكنها لا تعرف له مكانا و لا عن أخباره شيئا ، فقد غرر بها و وعدها بالزواج ، صدقت كلامه المعسول ، و لفرط حبها له سلمته نفسها قبل أن يتم العقد ، و لما عرف أنها حامل ، اختفى و لم يعد له أثر أو ذكر منذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا ، و مما زاد الأمر تعقيدا أن لها أخا وحيدا في مدينة بعيدة  التجأت إليه لينظر في أمرها و يساعدها و لكن لسوء حظها العاثر ، تبرأ منها و قام بتعنيفها و طردها لأنه خاف من تدنيس شرفه 

و عرضه إن هو قبل بها على تلك الحال .

 كانت تبوح بهذه الأسرار و الألم يمزق أحشاءها ، أخرجت ورقة كتب عليها عنوان خاله و سلمتها لابنها ، ما أن أمسكها يتفحصها حتى سمع شهقة صدرت من أمه نظر إليها فإذا هي جثة هامدة ، فقد أسلمت الروح إلى بارئها .

قام الولد بمساعدة الجيران بدفن أمه ، و بعد ثلاثة أيام سافر

إلى المدينة التي يقيم فيها خاله ، حاملا معه عنوان منزله ،

و بعد بحث لم يطل كثيرا عثر على البيت المقصود ، طرق

الباب و إذا برجل في بداية الخمسينات يفتح الباب ، بادره الشاب بالتحية ، رد عليه صاحب البيت التحية و سأله عن

مبتغاه ، طفق الشاب يبكي و أخبره أنه ابن أخته و أن أخته

قد توفيت قبل ثلاثة أيام مضت ، انفجر الرجل على الشاب

بوابل من الشتائم و القذف و اتهمه أنه ابن زنى و أن أمه 

زانية ، و هدده إن هو عاد مرة ثانية ليخبرن الشرطة 

و يتهمه بالهجوم على مسكنه .

كفكف الشاب دموعه و رجع إلى البلدة التي أتى منها ، باع كل أثاث المنزل و لم يترك غير الأمتعة الضرورية التي تلزمه ، سلم مفتاح البيت لصاحبه ، و اختفى تماما عن الأنظار ،

و لم يبق في نفسه غير ذلك الكلام الجارح الفاحش الذي تفوه به خاله ، و الذي لم يكن يخطر على باله أن يسمعه منه خصوصا و أنه جاء ليحتمي به من غدر الزمان و نوائبه ،

فوجد أن الزمان و فواجعه أرحم بكثير مما فعله أبوه بأمه 

و ما فعله خاله بهما معا .


هكذا قص علي أحد جلسائي بالمقهى هذه الوقائع التي حدثت لهذا الشاب ، و التي أثرت في نفسه تأثيرا بالغا ، خصوصا منها كلام خاله ،  إذ ما زالت تلك الاتهامات و الشتائم عالقة بذهنه لم يستطع أن يمحوها من ذاكرته .

تأثرت أنا كذلك بما سمعت ، و قررت كتابتها و لو  باختصار شديد ، فكانت على هذا النحو و ذيلتها بهذه الخاطرة .


   ##     كل الجروح العضوية و إن كانت غائرة و نزفت دما

 و أوجعت صاحبها إلا أنها تلتئم و تندمل مع مرور الأيام

 و يطويها النسيان ، في حين أن الجروح النفسية ، تبقى راسخة في الأذهان و لا يستطيع الزمن أن يمحوها من الذاكرة ، كلما تذكرها الإنسان تفيض نفسه حزنا و أسى ، 

و تمنى لو لم تحدث حتى لا تترك هذا الجرح الأليم في النفس .

و صدق الشاعر يعقوب الحمدوني إذ يقول :

 جِراحَاتُ السنانِ لها التئامُ *** ولا يُلْتأمُ ما جَرَحَ اللِّسانُ   ##



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق