لا نعيش لأنفسنا
أعجبت بمقال تحت عنوان " البحر " للأديب توفيق الحكيم ضمن مقرر القراءة للسنة السادسة ابتدائي سنوات التسعينات ، و كنت أجد متعة كبيرة في معالجة هذا المقال مع تلامذتي ، إذ كان يحمل في ثنياه حكمة بليغة ، ذاك أن كاتبه سأل الناس من مختلف الأعمار و المهن ممن لهم علاقة بالبحر ، بدءا بالأطفال الذين يلعبون و يمرحون على الشاطئ ثم الصيادين الذين يترزقون من خيراته ،إلى الغواصين الذين يغوصون بحثا عن لآلئه و اختتم بالربابنة الذين يمخرون عبابه في أسفار طويلة خطيرة .
فكانت إجابة كل فئة منهم تختلف عن الأخرى انطلاقا من نظرتهم للبحر و علاقتهم به ، و من هذا الإختلاف في وجهات النظر استنبط الكاتب الحكمة التي اختتم بها مقاله .
أخذت عن توفيق الحكيم منهجيته في البحث ، لأسأل
أنا بدوي فئات من الناس من مختلف الأعمار و الأجناس
و المهن عن السعادة .
● سألت الأطفال عن السعادة فقالوا هي أن نملك كرة
و دراجة هوائية ، فنلعب و نمرح مع أقراننا من الجيران و نمتطي دراجاتنا و نذهب حيث نشاء .
● و سألت المراهقين عن السعادة فقالوا ، السعادة أن يكون لدينا كل ما نرغب فيه من نقود و ملابس عصرية
و دراجات بخارية و هواتف ذكية و أصدقاء و صديقات
نغامر سويا و نفعل ما يحلو لنا دون رقابة .
● و سألت الشباب خريجي الجامعات و المعاهد العليا
عن السعادة فقالوا أول السعادة هو أن نجد وظيفة تناسب تخصصنا براتب محترم يرضينا ، فنحقق كل
سبل السعادة وفق أهوائنا .
● و سألت فئة العازبين عن السعادة فقالوا ، قمة السعادة في العزوبية ، نشعر بالحرية المطلقةحيث لا مسؤولية تثقل كاهلنا ، نفعل ما يحلو لنا دون رقيب .
● و سألت المتزوجين عن السعادة ، و قد انقسموا إلى ثلاث فئات ، فالفئة الأولى ترى أن السعادة الحقيقية في بيت يأوي زوجة صالحة و أبناءا صالحين تسوده المودة و الرحمة ، و التضحية في سبيل توفير كل ما يبهجهم هي أسمى شعور بالسعادة .
و الفئة الثانية ترى السعادة في عدم وجود الأبناء ،
لأنهم يعانون من عقوق أبنائهم و فساد أخلاقهم ، مما
يجلب الشقاء و التعاسة لوالديهم .
أما الفئة الثالثة التي لم ترزق بالولد ، فهذه ترى السعادة
في وجود الأبناء ، فالبيت في نظرهم بدون أبناء لا مكان للسعادة فيه .
● و سألت التجار عن السعادة ، فحصروها في تنمية الرأسمال و تطوير المشاريع لتذر الربح العميم .
● و سألت الموظفين عن السعادة ، فقالوا السعادة في
الراتب المحترم الذي يضمن العيش الكريم ، و الترقية في المنصب .
● و سألت العاطلين عن العمل فقالوا ، السعادة في إيجاد عمل يحفظ ماء الوجه ، و من خلاله نحقق العديد من سبل السعادة .
● و سألت العجزة عن السعادة ، فاختلف تعريفهم لها إلى نظرين ، صنف يراها داخل الأسرة مع أبنائه البررة
و حفدته المريحين ، حين يلاعبهم يصل إلى قمة تمتزج فيها السعادة بالحمد و الشكر لله ، أما الصنف
الآخر ، فلا يتذوق للسعادة طعما و كيف يتذوقها و قد
أودعه أبناؤه العاقون دار العجزة ، و تناسوا أن لهم والدا أو والدة أو كليهما يعيش التعاسة في أبهى صورها داخل ملجإ تعيس .
● و سألت المثقفين عن السعادة فوجدتهم ثلاثة أصناف ، صنف قليل يرى السعادة في البحث العلمي ،
و الرفع من المستوى الثقافي الجاد ، يجهر بالحق و لا يخاف فيه لومة لائم ، و الصنف الغالب هو الذي يرى السعادة في الانتهازية و التملق و الحصول على الامتيازات ، في حين أن الصنف الثالث يرى السعادة في الحياد ، و التفرغ لهواياته المفضلة مبتعدا عن كل ما يكدر صفو حياده .
● و سألت المرضى عنها ، فقالوا أن السعادة الحقيقية في بدن سليم معافى من الأمراض و العلل ، و ما دون ذلك فهو هين و لا قيمة له بالمقارنة بالصحة و العافية .
■■ و في الختام و من خلال هذه التعاريف المتنوعة استنبطت أن لكل وجهة نظره اتجاه السعادة تختلف من شخص لآخر و من شريحة لأخرى تبعا للظروف التي يعيشها كل صنف من هؤلاء .
أدركت أخيرا أن السعادة تبقى نسبية بين الناس ، فلا أحد يملكها كاملة مطلقة و تلك سنة الله في خلقه ، غير أن النسبة العالية من السعادة تتجلى لدى كل فرد مؤمن
حق الإيمان ، له نصيب وافر من حسن الخلق ، يحسن معاملة الناس ، قنوع بما قسمه الله له من أرزاق ، شكور إذا أصابته سراء ، صبور إذا أصابته ضراء ، و هذا الصنف قليل في وقتنا الحالي ، و لعل السبب الرئيس
في فتور السعادة لدى الكثير من الناس هو غياب
الإيمان الراسخ و انعدام القناعة .