الشقاء بعينيه
ارتدت القفطان الجديد الذي أعدته خصيصا للمناسبات و ما أكثرها في هذا الفصل الحار ، و تزينت بكل ما تملك من حلي ، و في طريقها عرجت على منزل جارتها ، لترافقها إلى مكان الحفل ، ما دامتا مدعوتين إلى نفس الوليمة لدى إحدى الصديقات .
عند وصولهما همست في أذن جارتها ، قائلة :
" أنظري فلانة و قد اصطحبها زوجها في تلك السيارة الفارهة ، ليت زوجي يستبدل سيارته المتواضعة بمثل هذه الأيقونة ".
تجاهلت الجارة البسيطة كلام جارتها ، إذ ليس في كلامها ما يستحق الرد ، و عند دخولهما إلى فناء البيت حيث المكان المخصص للمدعوات ، همست مرة أخرى لجارتها :
" يا لروعة هذا المنزل و فخامته ، ليتنا نملك مثله " .
لم يهنأ لهذه المرأة الحالمة بال ، و طفقت تجول بنظرها في أثاث البيت و قد أعجبت برياشه ، فلم تتمالك نفسها و أسندت رأسها لجارتها هامسة :
" سأرغم زوجي على استبدال أفرشة صالوننا فقد مرت عليها ثلاث سنوات لم نغير فيها شيئا ، و أن أجبره على اقتناء مثل هذا و لم لا أحسن منه " .
لم تكتف صاحبتنا بهذا بل أخذت تختلس النظر في كل الحاضرات و هي تقارن لباسها بلباسهن و مجوهراتها بمجوهراتهن متمنية في قرارة نفسها أن يكون قفطانها أحسن قفطان على الإطلاق ، و أن تمتلك من الحلي و المجوهرات ما يلفت انتباه النساء إليها دون غيرها ، و لكنها سرعان ما تصاب بنوع من الامتعاض و الغيرة الممزوجة بالحسد كلما رأت عند بعضهن قفاطين تفوق قفطانها قيمة ، أو رأت عند أخريات مجوهرات أغلى من مجوهراتها ، رغم أن قفاطينها هي و حليها أرهقت زوجها عند اقتنائها مما اضطر معه للاقتراض من البنك ، لتحقيق رغبة هذه الزوجة المتعجرفة .
لم يتنه الأمر هنا بل راحت تنظر بعينين زائغتين إلى ما حولها ثم مالت بجسمها على جارتها ، و قالت لها بصوت خافت :
" أنظري فلانة و قد انسدل شعر رأسها على ظهرها حتى كاد يلمس باطن ركبتيها ، لا شك أنها ترتاد صالون الحلاقة و لم لا أرتاده أنا كذلك فشعري أكثر كثافة من شعرها ؟" .
باختصار شديد لم تقتصر ملاحظاتها على الذي ذكر ، بل أبدت إعجابها بالحلويات و الأطعمة الشهية و كل شيء أثارها و نال إعجابها إلا و رغبت في مثله أو أفضل منه ، و كأنها تضمر في نفسها أن تحصل عليه مهما كلف ذلك زوجها من ثمن ، حتى تكون هي أفضل النساء في كل شيء ، و تمني النفس أن تتحقق لها رغباتها الجامحة ، حينها تأخذها العزة بنفسها و تنتشي بما لديها
و لا يمتلكه غيرها من النساء و هو ما سيجعلها تتباهى عليهن جميعا .
كل هذا و جارتها المسكينة تتحمل هذه الهرطقات ، فكانت عند كل همسة تومئ برأسها نزولا عند رغبتها ، رغم أنها تشعر بالتقزز من ملاحظاتها و كلامها ، إلا أنها كتمت غيضها و نفورها ، و كيف لها أن تبديه و المكان غاص بالمدعوات .
انتهى الحفل و خرجت الجارتان ، في طريق عودتهما إلى منزليهما ، أعادت الجارة المفتونة بصوت مسموع و بكلام ممل منفر كل الملاحظات السابقة ، بل غادت تغتاب بعض المدعوات البسيطات .
إلى هذا الحد لم تطق جارتها المسكينة صبرا ، فانفجرت قائلة :
" لا أظنك استمتعت بشيء مما كنا فيه ، فقد ضيعت على نفسك متعة الحفل ، و كدرت صفو الجلسة بما شغلت نفسك به ، فلا أنت أدركت ما عند الغير ، و لا أنت أرحت قلبك و استمتعت ، اعلمي يا جارتي أن السعادة في القناعة ، و لا يمكن بأي حال من الأحوال
أن يكون لديك كل ما ترينه عند غيرك ، فالكمال في كل شيء أمر لا يدرك و لا يمكن أن يجتمع في شخص واحد ، و السعادة لا تقاس بامتلاك كل جميل ، و لكن تدرك بالقناعة و الرضى ، فالله سبحانه و تعالى قسم الأرزاق و فضل بعضنا على بعض لحكمة يعلمها هو ، و لكنه جلت قدرته جعل السعادة الحقيقية في البساطة و القناعة ، و العيش الحلال وفق إمكانيات الزوج ، فالزوجة التي تحمل زوجها أكثر مما يطيق لتتباهى أمام الناس ، فهذه تهدم بيتها بيدها و تسعى في خرابه ، و لن تتذوق طعم السعادة أبدا ، لأن مفاتن الدنيا لا حد لها ، و من سعى في الحصول عليها من غير استطاعة ، أتعب نفسه و أشقاها ، و لا يناله منها إلا ما قدره الله له ، و لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب .
أنت تملكين منزلا و سيارة و زوجك موظف يتقاضى راتبا شهريا ، فما قولك فيمن هن أدنى منك ، أولئك اللواتي لا يملكن شيئا مما أنعم الله به عليك أنت ، ماذا سيفعلن بأنفسهن ، فاللائي كنت تغتابينهن و تحتقرينهن فأغلبهن سعيدات في حياتهن على بساطتها لأنهن قانعات راضيات ، و لا يحملن أزواجهن فوق المستطاع ، و فوق هذا وذاك تبقى الأخلاق الفاضلة هي المعيار الحقيقي للإنسان ، هي من تبوؤه المنزلة الرفيعة بين الناس ، أما المظاهر فهي زائفة و زائلة و لا يدوم لها حال .
أستسمح إذا قلت لك أنني لن أرافقك مرة أخرى إذا بقيت على هذا الجشع و الطمع ، و هذه الغيرة الزائدة التي تضرم في نفسك نار الحسد ، تبا لمن ينظر إلى ما في يد غيره و يجحد ما أسبغ الله به عليه من نعم ، حاولي أن تغيري هذه السلوكات المقيتة فهي التي جعلت النساء ينفرن منك و لا يرغبن في مصاحبتك " .
قالت الجارة المسكينة كلامها هذا و دلفت إلى منزلها مهرولة مزمجرة دون أن تودع جارتها المغرورة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق