اقتنع بما أنت أهل له
لعل ظاهرة نفور التلاميذ و الطلبة من الشعب الأدبية
أضحى أمرا شائعا ، إذ يرون و يسمعون غيرهم يستنقص من قيمة هذه الشعب لأنها في نظرهم لا تحقق فرصا للشغل و لا تجعل لدارسيها قيمة في أعين الناس ، لذلك تجد السواد الأعظم من شبابنا يختار الشعب العلمية رغم تعثره فيها و ينفر من الشعب الأدبية و لو كان فيها على درجة من التفوق ، و هنا يكمن الخلل الكبير و الخطير الذي بدأت بوادره تطفو على السطح ، و هذا ما جعل شبابنا يفتقد الكثير من المعارف في الثقافة العامة ، فلا هو يتقن لغته و لا هو يعرف الضروري من دينه و لا هو على علم كاف عن تاريخ بلاده و حضارتها .
و كيف لهؤلاء الشباب أن يتعبوا أنفسهم في دراسة شعب مصيرها البطالة و مما يدعم لديهم هذا التصور ما يرونه من تهميش
و إقصاء لعلماء الدين و الكتاب و الشعراء و كل الباحثين في المجالات الفكرية التي تسعى إلى بعث القيم السامية و تنوير العقول و تهذيب الأذواق ، و ما يزكي هذا الطرح في عقولهم هو هزالة أجور خريجي الشعب الأدبية مقارنة بأمثالهم ممن تخرجوا من الشعب العلمية ، و هذه كلها عوامل ساهمت في الحد من الإبداع الفكري و الأدبي الجادين ، و حلت محلهما التفاهة
و الانتاجات الأدبية التي لا ترقى إلى المستوى الذي كانت عليه فيما مضى .
فالعلوم مهما بلغت في تقدمها تبقى رهينة القيم و المبادئ التي تؤطرها و تنظمها و تخلق لها حدودا لا تتنافى و الغرائز الكونية التي تسعى إلى إسعاد بني البشر ، و لعل التفريط في هذه القيم هو ما نراه اليوم من خراب و دمار للبيئة و البشر و الحيوان تحت ذريعة التقدم التكنولوجي ، إذ أن هذا الانسياق و راء هذه المدنية المتدفقة بخيرها و شرها -- و شرها أكبر -- هو ما انعكس سلبا على الجانب الوجداني لدى البشر ، ففتر الوازع الديني
و الأخلاقي ، و قل الإبداع الأدبي و فسدت الأذواق باختصار هناك فراغ روحي يعاني منه الجميع إلا قلة قليلة ممن وازنوا بين هذا
و ذاك و أخذوا من محاسنهما ما يستطيعون به إسعاد أنفسهم و لو بنسب قليلة .
إن الموازنة بين الاتجاه العلمي و الأدبي ، دون تفضيل أحدهما عن الآخر هو الأمر الطبيعي السليم ، فكما أن المجتمع في حاجة إلى مهندسين و أطباء و محاسبين و مختبراتيين و مخترعين
و غيرهم من خريجي الشعب العلمية ، فهو في حاجة أيضا لفقهاء و لغويين و صحافيين و قضاة و محامين و أساتذة و كتاب
و شعراء و نقاد و فنانين و مربين و غيرهم ممن تخرجوا من الشعب الأدبية ، بل قد لا يستفيد المجتمع من مهندس مثلا إذا لم يكن على جانب كبير من الخلق الحسن ، متشبعا بالمبادئ الإسلامية التي تمنعه من الغش و التدليس ، و هذه المبادئ و القيم لا تكتسب إلا من الشعب الفقهية و الأدبية ، و قس على ذلك باقي المهن و الوظائف .
ختاما أرجو من كل طالب أن يختار الشعبة التي يبرع فيها
و يحبها بغض النظر عما يشاع في مجتمعنا من تفاضل بين الشعب ، فالمطلوب من هذا و ذاك مهما كان توجهه و وظيفته أن يتحلى بالخلق النبيل و أن يتقن عمله و يخلص فيه ، و لا مانع من الإبداع في المجال العلمي ليخترع ما ينفع المجتمع ، أو يبدع في المجال الأدبي فينتج إصدارات أدبية راقية تخدم الجانب التربوي و اللغوي و الثقافي و تسمو بالنفس إلى مراتب عليا من الفكر
و الوعي و التذوق الفني ، كما يجب على الدولة أن تهتم بالجانبين
معا و توفر فرص الشغل ليشعر الجميع بالمساواة و الكرامة
و بذلك نكون قد وضعنا قاطرة التنمية على سكتها الصحيحة .