⏲ اليأس القاتل ⏲
يقول الناس فيما يتداولونه من الأمثال الشعبية السائرة باللسان العامي هذين المثلين :
" مصيت صباعي " أي ( لعقت أصابعي )
أو " غسلت يدي "
و المثلان متشابهان في المعنى ، يصبان في نفس
المرمى ، و المراد أن القائل يستشهد بأحدهما عندما ييأس من استقامة شيء ، و يستعصى عليه تقويم اعوجاجه ، رغم جميع المحاولات المبذولة في سبيل إصلاحه .
يضرب المثلان في الأعم عن طباع الناس
و ما يأتونه من سلوك لا يستقيم و طبيعة البشر ،
و مهما قدم لهم من النصح و الإرشاد تجدهم
متمسكين بمواقفهم لا يتراجعون عنها قيد أنملة .
أو يضرب كذلك عند عدم اقتناع الطرف الآخر بالعدول عن أمر ما ، بحيث يكون مصمما على المضي فيه و لو كانت عواقبه غير محمودة .
و الغالب أن قائل أحد هذين المثلين كثيرا ما
يتبعه بمثل آخر هو بمثابة تبرئة الذمة بعد باءت
جميع المحاولات بالفشل ، فيقول :
" وريه وريه إلا اعمى سير أو خليه "
أي نبهه مرات و مرات فإن عميت بصيرته و صمم
على عدم التراجع ، فاذهب إلى سبيل حالك
و دعه و شأنه .
إذن لعل أحد المثلين المشار إليهما في بداية المقال ينطبق تماما على ما نراه اليوم من أعطاب
في مجتمعنا ، فهناك مجموعة من المفكرين
الذين و منذ زمن ينادون بالإصلاح على جميع المستويات و في كل مناحي الحياة عبر مقالات
و محاضرات و ندوات و يسخرون في ذلك كل وسائل التواصل ، لكن لا أثر لدعواتهم في الواقع ، بل بالعكس تزداد الأمور سوءا سنة بعد أخرى ،
و أصبحت الأساسيات و الضروريات المتوارثة عبر العصور ، كالأخلاق الفاضلة و العلم النافع ، و ما
يدعمهما من عزم و حزم و كبرياء و أنفة ، أمورا ثانوية و غير ذات أهمية بالنسبة لكثير من أناس
عصرنا ، فضاعت كل تلك القيم الإنسانية النبيلة
و استبدلت بالرذائل ،فاستشرى الفساد و استفحل الطمع و فسدت الأذواق و انتشر الإجرام و ساد
اليأس و ذهب الأنس ، و لم يعد لأولئك المصلحين
و لا لمقالاتهم شأن يذكر ، لهذا وضع الكثير من
الكتاب أقلامهم بعدما يئسوا من عدم جدوى
أرائهم ، فتراهم يرددون ذاك المثل :
" مصيت صباعي" و " غسلت يدي "
أي لا أمل في مواصلة الكتابة و الخطب و البحث
الجاد ، ما دام السواد الأعظم من الناس قد
انصرفوا إلى التفاهة ، و انساقوا مع هذا الغثاء .
و لهم في يأسهم ذاك العذر المقبول إذ كيف يواصلون العمل الجاد و هم يرون أن لاعبي كرة القدم و المغنيين التافهين و الراقصين و الراقصات و دعاة التفاهة و السفاهة عموما في شتى المجالات هم الأعلى قدرا و الأعظم شأنا و الأكثر ثراء ، حتى أضحى الشك يساور المجدين أن ما يفعله هؤلاء التافهين هو الصواب ، و الدليل أن جميع أبواب التشجيع متاحة لهم لنشر تفاهاتهم ، بينما سدت في وجه دعاة الإصلاح .
لعل ما آل إليه العصر من ميول نحو التفاهة هو
ما جعل الكثير من المثقفين يلتزمون الحياد بعدما
لم تجد انتقاداتهم و دعواتهم للإصلاح أذانا صاغية ، فالسيل جارف لم تعد مجاديفهم تجدي نفعا مع تياره القوي ، لذلك لعقوا أصابعهم و غسلوا أيديهم و انكمشوا على أنفسهم ينظرون
و ينتظرون ما ستؤول إليه نهاية هذا العبث .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق