الدواء الشافي
البشر صنفان ، صنف محمود السيرة بين الناس ، عظيم القدر في أعينهم ، نظرا لأخلاقه الفاضلة و علمه الواسع و تعامله
الطيب ، فيكون محبوبا ، و على قدر كبير من الاستقامة يثبت بها وجوده الإيجابي في محيطه العائلي و بين زملائه في العمل و مع الناس عامة في المجتمع .
و صنف مذموم ، ساقط في أعين الناس بسلوكه المنحرف
و جهله المتفشي و تعامله المنفر ، و رغم ذلك فهو يريد كذلك أن يكون وجيها بين الناس محبوبا لديهم كالصنف الأول
و لكنه يفتقر إلى مثل تلك المناقب التي تبوئه مكانة الصنف الأول ، و كيف يتبوؤها ، و لا خصلة واحدة محمودة في سيرته ، و لكي يثبت وجوده هو كذلك يلجأ إلى الأساليب الخسيسة الملتوية كالأنانية و النفاق و النميمة و التملق
و الوشاية و غيرها من الرذائل ، و هو يظن أنه بهذه التصرفات الدنيئة يخدع الناس و يستميل قلوبهم ، و يصنع لنفسه مجدا و لو كان زائفا و فيه يصدق قول القائل :
" لست بالخب و لا الخب يخدعني "
الغريب في كل هذا أن كثيرا من الناس عن غير قصد يعينون الشرير على التمادي في شره، فهم و إن كانوا يقرون بالإجماع على خساسة و سفاهة هذا الشخص الذي لا تستثني بوائقه أيا منهم ، إلا أنهم يستمرون في التعامل معه و كأنه شخص سوي ، فتجدهم و لو بنوع من الحذر يتحدثون معه ،
و يجالسونه و ربما يدعونه إلى ولائمهم و هم في قرارة أنفسهم يكنون له البغض و المقت نظرا لما يقترفه في حق الناس من إذاية .
و الحقيقة أن هذا التعامل مع مثل هذه الحالة التي لا يؤتمن
شرها هو نوع من النفاق و فيه إعانة و تشجيع للسفيه في
التمادي في غطرسته و إذايته ، إذ الحديث معه و مجالسته يجعلانه لا يشعر بمقت الناس له ، في حين لو أن الجميع قاطعوه و صاموا عن الحديث معه و تجنبوا مجالسته
و نبذوه ، فربما قد يتراجع عن غيه بنسبة كبيرة ، إذ يرى نفسه منبوذا ممقوتا لا قيمة له ، و لا أحد ينظر إليه نظرة إكبار ، مما يجعله يراجع نفسه باللوم و يعيد ترتيب أوراقه ليكون عند حسن ظن الناس به .
و لعل أقوى مثال على ذلك ما فعله أهالي إحدى البلدات في حادثة واقعية ، إذ كان بينهم تاجر شاع خبر خداعه و غشه بين الناس ، و أصبح كل من تعامل معه يشكو من سوء معاملته ، فابتعد عنه الجميع و استبدلوه بتجار آخرين ، و لم يعد أحد منهم يرتاد متجره ، مما جعل التاجر الشرير يصاب بخيبة أمل و بإفلاس تام ، و هناك عرف أن ما لحقه من إفلاس و من مجافاة الناس له ، كان نتيجة سوء تصرفه
و كذبه و خداعه و غشه ، فلم يجد بدا من تغيير سلوكه تدريجيا و أصبح يتقرب الى الناس و يتودد إليهم و يظهر أنه تاب و لم يعد كما كان ، و طفق يستعطف الزبناء لارتياد متجره واعدا أياهم بعدم تكرار ما حصل من قبل ،
و هكذا صارت الأمور تتحسن مع مرور الأيام و أصبح متجره يلقى بعض الإقبال من الناس على غرار أمثاله من التجار ، بعدما تأكدوا من توبته .
إذن نستخلص من هذه القصة أن مقاطعة الشرير دواء و علاج له ، في حين أن مداراته تماديا له في الشر .
و نفس الشيء ينطبق على الزملاء في شركة أو مؤسسة ما ، بحيث تجد بينهم شخصا أعمى الجهل بصيرته و زادته قلة زاده العلمي و المعرفي نكوصا و مذلة ، فيدفعه شعوره بالنقص و الدونية إلى استنبات الخبث في نفسه بل و كل أصناف الرذائل من استعلاء و حسد و نميمة، ظنا منه أن بمثل هذا السلوك قد ينال الحضوة ، و لا يدري المعتوه أنه يؤذي من حوله بهذا السلوك المنحرف ، و رغم أن من حوله يعلمون عنه كل ذلك إلا أنهم يتغاضون و لا يصارحونه بما يختلج صدورهم اتجاه سلوكاته المقيتة ، فتجدهم يتحدثون معه و يبتسمون في وجهه تلك الابتسامة ( الصفراء ) مما يجعله يتمادى في شروره ظنا منه أن الآخرين أغبياء لا يعرفون شيئا عن خساسته، و أنه هو على صواب فيما يأتي من النقائص و الصغائر ، وفي هذا السياق يقول الشاعر
صالح بن عبد القدوس الأزدي :
دع الكذوب فلا يكن لك صاحبا
إن الكذوب يشين حرا يصحب
لا خير في ود امرئ متملق
حلو اللسان و قلبه يتلهب
يلقاك يحلف أنه بك واثق
و إذا توارى عنك فهو العقرب
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
و يروغ منك كما يروغ الثعلب
و لهذا فالتعامل مع هذا النوع من البشر بأسلوب المداراة
و اللين أظنه نوعا من النفاق كذلك ، لن يوقف الشرير عند حده ، و لن يصلح من أمره شيئا ، بينما لو قاطعه الجميع بدون استثناء و جفوه و نبذوه ، فلا يكلمه أحد و لا يرافقه أحد ، حينها سيجد نفسه وحيدا و سيشعر بالضيق و يعلم أنه المخطئ إذ لا يمكن أن يتم الإجماع على مقاطعته لو كان تصرفه سويا ، و هكذا سيعمل على تغيير نمط سلوكه ليندمج مع الزملاء و مع الناس عامة ، و بمقاطعته على هذا النحو يكونون قد ساهموا في علاجه من تلك الأمراض النفسية .
ختاما إن مداراة السفيه تزيد من سفاهته و مقاطعته من طرف الجميع قد تصلحه ، و لكن من الصعب الاتفاق على مقاطعته بل يكاد يكون تطبيقها مستحيلا لأن وجهات نظر الناس و معايير تقييمهم و نوع معاملاتهم تختلف حسب العلاقات و المصالح ، فبعضهم يقول هذا شر لا بد منه ، نداريه لنتقي شره ، و نتفادى الاصطدام معه في كل وقت ما دامت ظروف العمل قد جمعتنا معه ، و لكنها في الحقيقة مبررات واهية لا هي أصلحت أمر السفيه و لا هم في مأمن من بوائقه ، و الكل في حيطة منه و توتر دائم ، ما استراح منهم إلا من عمل بمبدإ النهي عن المنكر قدر المستطاع ، و ما المستطاع في مثل هذه الحالات إلا المقاطعة و ذلك أضعف الإيمان خصوصا إذا استنفذ الصبر و لم يأت النصح بنتيجة ، يقول المثل العامي المغربي :
" وريه ، وريه و إلا اعمى سير و خليه "
و المراد به : حذره و انصحه مرات و مرات فإن لم ينته فدعه
و ابتعد عنه .
و لكن ينبغي أن نضع في الحسبان بأن أسلوب المقاطعة لهذا النوع من البشر هو علاج مرحلي ، يجب أن ينتهي متى لمس الناس تراجعا في إذايته للآخرين و شعروا تحسنا واضحا في تصرفاته و أملا كبيرا في استقامته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق