الوسام الخالد
الآن و قد توصل بقرار الإحالة على التقاعد ، جلس يتأمله و يسترجع شريط حياته المهنية ، بدءا من ذلك اليوم من شهر شتنبر 1982 ، الذي كان يوما مصيريا في حياته ، لن ينسى ما غمره فيه من شعور ، امتزجت فيه رغبتان متناقضان ، و استبدت به الحيرة بينهما ، فقد تم قبوله بامتياز للالتحاق بمدرسة المعلمين ، و هي المهنة التي كان يعشقها منذ صغره ، و لكن هناك شيء بداخله ينازعه في هذه الرغبة و يلح عليه في متابعة الدراسة الجامعية مبررا إلحاحه باجتهاده و نبوغه الملحوظ في العلم و الأدب ،غير أن ظروف أسرته الاجتماعية ، كانت الدافع القوي في امتهان التدريس ،
و مما شجعه هو إمكانية متابعة الدراسة الجامعية حتى بعد التوظيف .
كان يومها الولوج إلى مركز التكوين يتطلب من كل متدرب
أن يحضر معه إلى جانب الضروريات وزرتين و بذلة و ربطة عنق ، لكي يظهر بمظهر أنيق و كيف لا و هو الأستاذ القدوة الذي سيتخرج بعد سنة من التكوين .
أقول و بكل صدق ، أن هذا الرجل أبلى البلاء الحسن في تلك السنة و كان من بين الأوائل في دفعته ، مما جعل تعيينه الأول في قرية قريبة جدا من بلدته ، كانت الدراجة النارية كافية لتقله بين المدرسة و البيت ، و بعد سنتين انتقل إلى مدرسة في وسط البلدة التي يسكنها و لم يعد في حاجة إلى الدراجة .
منذ أن تخرج و هو يدرس المستوى الإشهادي في المدرسة ،
و كان يومها المستوى الخامس ابتدائي هو المستوى الإشهادي ، حتى سنة 1990 حيث أضافت الوزارة سنة أخرى للإبتدائي ليصبح المستوى السادس هو المستوى الإشهادي ،
و الحقيقة أنه كان يعشق اللغة العربية و آدابها ، فعمل جاهدا على أن يلقن قواعدها الصحيحة لتلامذته ، و فعلا فقد أخذ عنه الكثير منهم فنون لغة الضاد نثرا و شعرا من نحو و بلاغة و تعابيرها الشفهية و الكتابية ، و لا تستغرب أخي القارئ إذا قلت لك أن أساتذة اللغة العربية في الإعدادية القريبة جدا من مدرسته ، يشيدون بهؤلاء التلاميذ بعد التحاقهم بالإعدادية
و كثيرا ما يقولون له و الله شاهد على ما أقول :
" لم تترك لنا شيئا من أمور اللغة العربية نضيفه لهؤلاء التلاميذ ، تبارك الله ، و ما شاء الله " .
قد يظن القارئ أنني أزكي هذا الرجل و أبالغ في الثناء عليه ،
و لكن كن على يقين تام أنها الحقيقة و كأنك تراها بعينيك ، فالزملاء و التلاميذ و أهل البلدة و شواهد التنويه و التقدير تشهد له بذلك و الله أكبر شاهد .
كان ارتباطه بالتدريس و التلقين وثيقا ، تصور أنه و لمدة 41 سنة في التعليم ، لا يمكن بل يستحيل أن يأتي يوما إلى المدرسة و هو يعلم أن إحدى الوثائق التربوية ناقصة ، كان يضبط و يتقن عمله و يحضر الدروس و يعد العدة مسبقا لأنه يكره أن ينتقده أيا كان أو يلاحظ عليه تقصيرا فيما يخص أمور التحضير و الإعداد و التصحيح و غيرها من الوسائل البيداغوجية و الديداكتيكية ، بل كان يعتمد على نصوص من إعداده عندما يرى أن النصوص المبرمجة في المقرر لا تخدم الجوانب التي يسعى إلى ترسيخها في أذهان تلامذته ، مراعيا في ذلك ميولاتهم و ما يثير فيهم عنصر التشويق و يبعث فيهم حس البحث و الاستزادة في العلم ، و فوق هذا و ذاك فقد حباه الله بموهبة الخط ، الذي كان أثره واضحا في كتاباتهم .
كان تلامذته يحبونه و ينتظرون بشوق حصصه ، للأسباب
السالفة الذكر ، و لأسباب أخرى إنسانية كمساعدة فقيرهم
و الأخذ بيد المتعثر منهم ، و قيامه بأنشطة موازية مما
يستهويهم و يفيدهم ، و من تفانيه للرفع من مستواهم ،
كان كلما اقترب موعد الامتحان الإشهادي يخصص من
وقته حصة خارج أوقات العمل لكل فوج ، يستذكر معهم الدروس و يرمم الخلل ، و لعل ذلك ما يجعل نسبة النجاح تفوق المنتظر ، و من حسن حظه و حظ تلامذته أن حباه الله بزميله أستاذ اللغة الفرنسية الذي يدرس معه نفس التلاميذ ، هذا الأستاذ الذي بدوره لم يدخر جهدا في إفادة التلاميذ
و الرفع من مستواهم في اللغة الفرنسية و الرياضيات ، و لهذا ليس من الغريب أن يفوز تلامذتهما في 11 مسابقة من أصل 13 التي كانت تنظمها المفتشية الإقليميةفي شهر أبريل من كل سنة بين مدارس الإقليم ، حتى قيل يومها أن في الأمر سرا عجيبا ، و الحقيقة ليس هناك سر إلا الجد و العمل الدؤوب . و كيف لا يحقق ذلك و هو الذي لم يتغيب يوما عن درسه إلا لضرورة قصوى يستحيل معها الحضور ، و لعل أقوى حجة ، أنه أجريت له عملية جراحية على مستوى البطن ، أصدر الطبيب الجراح على إثرها شهادة طبية ترخص له التزام الفراش في بيته لمدة 25 يوما ، امتثل لأمر الطبيب ، فكان تلامذته يعودونه كل يوم أفواجا أفواجا و هم على بساطة أحوالهم يحملون هدايا ، فلم يطق صاحبنا صبرا ، إذ اقتصر على 11 يوما فقط ، و قام بعد أن لف حول خصره
و بطنه قطعة قماش طويلة ، و تحامل على نفسه ، و طلب من أحد زملائه أن يمر عليه كل يوم ليأخذه بسيارته إلى المدرسة ، أتدري لماذا ؟ لأن معاملة تلامذته أخجلته ، فقرر أن يغامر بصحته في سبيلهم .
لهذا لا غرو إذا قلت أن هذا المدرس يجد ذاته و متعته في التعامل مع العقول ، و لذلك لم يفكر يوما في طلب الإدارة ، كما أنه لم يفكر في اجتياز مباراة التفتيش ، رغم تمكنه من المعارف و لديه من المؤهلات ما يجعله يفوز بها بامتياز ، بل أكثر من ذلك أنه كان يساعد بعض الإخوة الذين يرغبون في اجتيازها ، أما هو فراحته و نشاطه في القسم مع العلم
و الأدب ، و أمله الكبير أن يصنع من تلامذته رجالا صالحين ،
و الحمد لله فقد تم له ذلك مع الأغلبية العظمى منهم ، و هم الآن منتشرون في أرجاء الوطن يشغلون وظائف مشرفة .
في هذه اللحظة و قد بلغ من الكبر عتيا ، تجده يسترجع تلك الذكرى ، و ما تلاها من ذكريات في هذه المهنة الشريفة الشاقة ، التي قضى فيها 41 سنة ، و كل يوم يمر به يعلم أن مثله في العام المقبل لن يجده في القسم ،إذ أصبح لا يفصله عن التقاعد إلا أشهر قليلة من سنة 2024 ، هذا إن كان في العمر بقية .
تصور أستاذا في سن الثالثة و الستين و قد وهن بدنه
و ضعف بصره و تكالبت عليه الأمراض ، هو مصر كل الإصرار على أن ينهي مشواره كما بدأه أو أكثر ، بنفس الجدية
و الحزم المعهودين فيه ، منضبطا للشروط الأربعة التي تبناها منذ التحاقه بسلك التعليم و التي يراها ضرورية لتحقيق الغايات المرجوة من التربية و التعليم ،
و هي *القدوة* *الكفاءة* *الإخلاص* و *حسن التواصل* ،
و يؤمن إيمانا راسخا أن كل تفريط أو إخلال بإحداها ، سينعكس سلبا على مردوديته ، هذه المردودية التي دأب في كل مشواره أن يجعل نسبتها مرتفعة ، و نتائجها مرضية .
لذلك لم يستسلم رغم المتغيرات و العراقيل و لعل تدني المستوى الذي يزداد سوءا سنة بعد أخرى ، جعله يضاعف الجهود و التضحيات أكثر من ذي قبل ، فكل ساعة تمر به إلا و يلوح له خط الوصول وقد أشرف على نهايته ، فيزداد حماسا و يبذل ما تبقى فيه من جهد ليفيد تلامذته ، و لا يرضى عن عمله كل الرضى إلا إذا أحس أنهم استفادوا ،
و تحسن مستواهم ، و تهذب سلوكهم ، و هو لا يبتغي من وراء ذلك إلا أن يريح ضميره بعد أن يحال على المعاش ،حينها فقط يتنفس الصعداء لأنه أدى الرسالة على الوجه الذي ارتضاه و أن يشعر بالسعادة تغمر قلبه عندما يرى تلامذته الذين تتلمذوا على يديه في الثمانينات و ما بعدها
و قد أصبحوا أطرا صالحين لأنفسهم و أسرهم مصلحين لمجتمعهم ، فينسى كل التعب و تتفتح أمامه كل معاني الحياة و هو يسترجع ذلك الماضي التليد الحافل بالحيوية
و النشاط ، و تلك سعادة لا تضاهيها سعادة ، تكون بمثابة البلسم الذي يخفف عنه بعضا مما يقاسيه من أوجاع البدن
و مشاكل الحياة ، و هي الوسام الخالد الذي سيبقى إكليل شرف يوشح صدره إلى أن يلقى خالقه .
فالله جل في علاه أسأل أن يجازيه، و يجازي كل مدرس مخلص ، أفنى زهرة شبابه و خريف عمره في التربية و التعليم ، و ضحى ببدنه و فكره و وقته و ماله و ما ملكت يده في سبيل محو الجهل و غرس القيم النبيلة في نفوس التلاميذ ، كما نسأله جلت قدرته أن يرحم والدينا الذين تعبوا من أجلنا و كذا أساتذتنا الذين أناروا لنا طريق العلم و المعرفة و أن يتغمدالجميع برحمته الواسعة ، و هو نفس الدعاء الذي نرجوه نحن كذلك من تلامذتنا ، فكلنا راحلون و طوبى لمن ترك أثر طيبا يؤجر عليه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق