لقاء غير منتظر

 لقاء غير منتظر


          استفاق العم مسعود قبيل الفجر بقليل على نباح كلبه الرابض بمدخل الضيعة ، و هو يعلم أن كلبه لا ينبح في مثل هذا الوقت و بهذه الحدة إلا إذا اقترب غريب من باب الضيعة ،

 أخذ بندقيته على وجه السرعة و خرج يعدو نحو الباب ليكتشف الأمر بنفسه ، أضاء جنبات المدخل بمصباحه اليدوي ، و إذا به يرى شخصا واقفا على بعد أمتار قليلة من الباب ، أمسك العم مسعود بيده اليسرى طوق الكلب الذي لم يتوقف لحظة عن النباح ، يحاول الانفلات من قبضة صاحبه لينقض على الغريب ، و بيده اليمنى  بندقيته موجها فوهتها نحو الشخص الواقف الذي تسمر في مكانه لا يبدي حراكا ، اتجه نحوه بخطى وئيدة ، سبابته على الزناد و دقات قلبه تتسارع لأنه لم يتعرض قط لمثل هذا الموقف في مثل هذا الوقت ، خصوصا و أنه لم يسبق لأحد أن زاره في ضيعته غير صهره ، و صهره لا يمكن أن يزوره في هذا الوقت ، 

و هذا ما أثار في نفسه الكثير من الريبة و الشك و جعله يتخذ موقف المدافع عن حوزة أرضه و عرضه .

فهو اليتيم الذي جاء منذ زمن بعيد إلى هذا المكان المنعزل 

و أقام به هذه الضيعة ، و تزوج من ربيعة و هي فتاة قروية تنتمي لإحدى القرى المجاورة ، لم يرزق معها إلا ببنت وحيدة رغم طول مدة زواجهما التي فاقت ثلاثين سنة .

لما دنا من الغريب و قد ترك لنفسه بينهما مسافة أمان ، وجه ضوء المصباح إلى وجهه و سأله بنبرة تجمع بين التهديد و الاستغراب :

 " من أنت ؟ و ما حاجتك ؟ "

أجاب الغريب في انكسار و وجل :

 " ألست مسعود ابن المرحوم السيد العربي الدكالي 

و المرحومة السيدة رقية الراضي ؟ " 

استغرب مسعود كلام الغريب و هو الذي يعلم علم اليقين أن

لا  أحد يعرف عن أصله شيئا .

مسعود : " بلى أنا ابنهما رحمة الله عليهما ، و لكن من أنت ؟

و كيف عرفت والداي ، و ما سبب مجيئك إلى ضيعتي ؟ "

الغريب : " أليس للضيف عندك حق الإكرام "

مسعود : " و كيف آوي إلى ضيعتي شخصا غريبا في هذا

الوقت دون سابق معرفة ، و قد مررت في طريقك على قرية 

أهلها من الأكارم ، و قصدت ضيعتي ، لا بد أن في أمرك سرا "

الغريب : " لست غريبا عنك ، و ما قصدتك إلا من أجل أن أصل الرحم ".

مسعود : " أي صلة رحم تقصد يا هذا ؟ "

الغريب : " لك علي حق و أتيت لأوفيه ، فأنا يوسف الدكالي ، و أنا كذلك ابن المرحوم العربي الدكالي من زوجته الثانية عائشة هرماش ، فبعد موت أمك رقية بعام واحد ، تزوج أبونا أمي عائشة و هذا الأمر تعلمه جيدا ، و لما وافاه أجله هو كذلك ترك أمي حاملا بي في شهورها الأولى ، في هذا الوقت كنت أنت قد غادرت القرية ، و لم تعد أمي تعرف عنك و عن وجهتك شيئا ، و هذا ما أخبرتني به بعد أن بلغت سن النضج ، و ما أن علمت أن لي أخا ، وقر في نفسي أن أبحث عنه ، و لم أستطع أن أترك أمي لوحدها ، و لكن الآن و قد التحقت بأبي و أمك ، لم يتبق لي في هذه الدنيا غير أخي مسعود ، و لمدة ثلاث سنوات و أنا أبحث عنك ، حتى من الله علي بلقائك ، إذ أخبرني أحد أهالي القرية التي تنتمي إليها زوجتك ، أنك تسكن في هذه الضيعة المنعزلة ، فأتيتها مسرعا 

و من شدة فرحي لم أنتظر ضوء الصباح ".

طأطأ العم مسعود رأسه برهة ، و كأنه يسترجع شريط ذكريات مرت عليه أعوام عديدة ، عاد إليه شيء من الإطمئنان ، إذ لمس في كلام الشاب أسرارا لا يمكن أن يعرفها غريب أتى لقصد آخر .

 و ضع بندقيته على كتفه ، و أحكم القبضة على طوق الكلب ،

ثم طلب من الشاب الغريب أن يتبعه إلى الداخل .

في هذه الأثناء كانت زوجته ربيعة و ابنتها مريم يهيئان فطور الصباح ، و قد لاحت بوادر الصبح تمحو مداد الظلام .

توضآ و صليا صلاة الصبح جماعة و جلسا كلاهما إلى مائدة الإفطار ، لاحظ يوسف أن أخاه العم مسعود يراقبه و هو يتناول الفطور بنهم شديد ، فأراد أن يبرر إقباله على الطعام بتلك الشراهة قائلا :

 " لم أتناول طعاما منذ الأمس ، و قد أخذ مني الجوع مأخذه"

أجاب العم مسعود : " لا عليك ، نزلت أهلا و أقمت سهلا "

قال ذلك و هو ينتظر المزيد من الأخبار حتى يتأكد من صدق

كلام ضيفه ، شعر يوسف بما يدور في خلد مسعود ، و استرسل في الكلام يريد أن يبين لأخيه أمورا تطمئنه و تزيد من يقينه ، فقال :

 " تعلم يا أخي بأن أبانا ترك لنا قطعة أرضية بمكان كذا مساحتها كذا و كذا ، مجاورة لأرض رجل اسمه عمي الجيلالي و منزلنا لا زال قائما في حي كذا بالقرب من الجيران فلان و فلان و ووو .." .

لم يتمالك العم مسعود نفسه ، و قام من مكانه و ارتمى على أخيه يوسف يعانقه عناقا حارا و عيناه تذرف دموعا حارة  ، ثم نادى على زوجته و ابنته مريم ، و أخبرهما أن ضيفه يوسف هو أخوه من أبيه ، و طلب منهما أن يرحبا به ، و هو يقول : 

 " الحمد لله الذي جمعني بأخي ، بعدما كنت أظن نفسي وحيدا ليس لي أحد من أقاربي ".

فرحت مريم و احتضنها عمها و هو يقول : 

 " ليس لنا بعد اليوم فراق ، أنتم عائلتي و أنا واحد منكم ".

بعدما هدأت أجواء اللقاء ، التفت  يوسف نحو أخيه قائلا :

 " اعلم يا أخي مسعود ، أن سعر القطع الأرضية في قريتنا قد ارتفع و أصبح الطلب كبيرا على شرائها ، و ما دمنا لا نستغلها و لا المنزل كذلك ، فلنذهب في زيارة لمسقط رأسينا و نبيع ما نملكه فيها ، و نعود إلى ضيعتك هذه لنستثمر ما حصلنا عليه من أموال في مشاريع تعود علينا بالخير و البركة ، فأنا كنت أتنقل بين المدن و القرى أعمل كسابا أشتري الأبقار و الأغنام و أتاجر فيها ، فكان هذا النوع من التجارة يدر علي أرباحا ، و بفضلها تجمع لدي هذا القدر من المال ".

في تلك اللحظة أزاح من حقيبته الجلدية بعض الملابس ، و أخرج رزما من الأوراق النقدية ، و قدمها لأخيه الأكبر قائلا :

 " هذا كل ما أملك ، احتفظ به عندك حتى نضيف إليه ما سنحصل عليه من بيع الأرض و المنزل اللذان ورثناهما عن أبينا رحمة الله عليه ، فننشئ بضيعتك هذه زريبة للأبقار و أخرى للأغنام ، 

و سأتولى أنا البيع و الشراء في الأسواق ، أما أنت يا أخي فليكن عملك هنا بالضيعة قريبا من زوجتك و ابنتك ، فماذا ترى ؟ ".

فغر العم مسعود فمه ، و انفرجت أسارير زوجته و ابنته اللتان لم تخفيا إعجابهما بكلامه .

في هذه الأثناء عانق العم مسعود أخاه من جديد ، و قال :

 " نعم الرأي ما أشرت به ، فأنت شاب ، و لك من الخبرة ما لا أملكه ، استرح لأيام من عناء السفر ، و بعدها فليكن ما تريد ، و ضع في حسبانك أنه آن الأوان لتقطع مع زمن العزوبية ، و تختار لنفسك زوجة صالحة تسعدك و تعينك و تؤنس وحدة زوجتي 

و ابنتي في هذه الضيعة ، قالها و هو يبتسم تارة في وجه يوسف و تارة في وجه زوجته ربيعة ".

أجاب يوسف في استحياء :

 " لن يكون إلا ما يرضيكم جميعا "

بعد أسبوع ، انتقل الأخوان إلى قريتهما و باعا كل الإرث ،و عادا إلى الضيعة  و في حوزتهما أموال كثيرة .

أصر العم مسعود على زواج أخيه الذي لم يبد اعتراضا ، بل بالعكس فهو يرغب في تكوين أسرة أسوة بأخيه الأكبر ،

و شاءت الصدف أن يقع في غرام أخت ربيعة عندما ذهب صحبة أخيه لزيارة أصهاره ، و عند عودتهما من القرية أسر إلى أخيه بما في نفسه من ميل إلى خديجة أخت ربيعة ، فما كان من العم مسعود و زوجته إلا أن تولا الأمر بنفسيهما ، و تم الزواج بعد شهرين من استقرار يوسف ، و اجتمعت الأسرتان في المنزل  الواسع بالضيعة ، و تحقق لهما ما كان قد خطط له يوسف من مشاريع .

بعد مدة وجيزة أصبحت ضيعتهما قبلة للجزارين و الكسابين

و تجار الحليب و مشتقاته ، و رانت الفرحة أرجاء الضيعة ،

 و استعاد العم مسعود بعضا من شبابه و حماسه ، و كيف لا وقد حباه الله بأخ  ودود  يؤازره  و يشد عضده ، بعدما كان وحيدا .

و هكذا عاشت الأسرتان في سعادة غامرة و رغد و تفاهم منقطع النظير ، و تزداد أواصر الود ارتباطا و فرحة كلما ازداد  ليوسف مولود جديد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق