مشاهد مقززة

                         مشاهد مقززة 


         حكى لي أحد الأصدقاء عن مشهد عاينه في الحافلة ، و بقي أثره عالقا بذهنه ، فما أن التقيته حتى انطلق يحكي

 و كأنه يريد أن أقاسمه نفس الشعور الذي حز في نفسه

 و أبدي رأيي الذي لن يكون طبعا إلا من نفس رأيه ، أخبرني و الأسى يعتصره ، أن رجلا من ركاب الحافلة عمره بين الثلاثين و الأربعين كان جالسا بجانب رجل في مثل سنه تقريبا ، يظهر من خلال حديثهما أنهما على معرفة ببعضهما .

كانت الحافلة في هذه اللحظة غاصة بالركاب ، و عندما لم 

أجد مقعدا فارغا اضطررت للوقوف ، و شاءت الصدف أن 

أقف بجانبهما مستندا للعمود المنتصب و ممسكا بطرفه العلوي حتى أحافظ على توازني من الارتجاجات التي تحدثها

الفرملة كلما توقفت الحافلة لينزل منها ركاب و يصعد آخرون ، و كان أمام الرجلين عجوز طاعن في السن ، ذو لحية بيضاء ، لم يترك الدهر علامة من علامات الكبر و الهرم إلا 

و رسمها على محياه ، يقف المسكين متمايلا ، يكاد يخر على الأرض كلما توقفت الحافلة أو استأنفت سيرها ،  يمسك بيده اليمنى عكازا يستعين به ، محكما قبضته بيده اليسرى على حافة المقعد الذي يجلس به الرجلان ، حتى أنه يكاد يهوي على ذاك المحادي له بفعل الحركة و من فرط وهن بدنه .

في إحدى المحطات صعدت سيدة في أواخر العشرينات ،

شابة متبرجة ، تفوح منها روائح العطر ، تضع على شعرها الأشقر نظارات فاخرة ، انتهى بها المقام بالقرب من العجوز ، وقفت بجانبه و هي تمسك بنفس العمود الذي أمسكنا به جميعا و تتأفف من الزحام ، و ما هي إلا ثوان قليلة ، حتى قام أحد الرجلين من مقعده و طلب من الشابة أن تجلس مكانه رفقا بها ، و لبت هي الأخرى شاكرة له حسن صنيعه ، 

و هنا تعجبت من هذا التصرف ، إذ كيف أخذته الرأفة بهذه الشابة و لم تأخذه بهذا العجوز المنهك الذي أتعبه الوقوف ، 

و الغريب أنه لما ترك مقعده للشابة القوية ، وقف بجانب العجوز و لم يخجل من نظرات هذا المسن البئيسة ، التي تخفي الكثير مما يشعر به من الاحتقار و الإقصاء .

إلى هنا عرفت بل أيقنت أن هذا التصرف بين قوسين في حق هذه الشابة ، لم يكن بدافع الإنسانية ، و إنما يشوبه ما

يشوبه من الشكوك و النوايا المضمرة في نفس الرجل الأنيق ،

و إلا لكان جلوس العجوز أسبق و أولى من هذه ، لو كان الدافع حقا إنسانيا .

استمعت إليه و هو يحكي هذه الواقعة بنوع من الحسرة 

و الأسى ، حينها تدخلت و هدأت من روعه و أخبرته أنه لا داعي للاستغراب ، فكثير من المشاهد اليومية في مجتمعنا تثير التقزز و الامتعاض من خلال تصرفات و سلوكات بعض الناس ، و هذا راجع لعدم تمسكنا بالقيم الإسلامية السمحاء ، حيث غاب الحياء و الاحترام ، و لم يعد لكبار السن أي تقدير في نفوس الشباب إلا من رحم ربك ، و هؤلاء قليلون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق