♨السجن أحب إلي♨

لا تحزني أمي، واهدئي بالا، فالأسر غير ما تعتقدين، فقد أصبح لي أهل خير من أهلي، وإخوان لم يلدهم رحمك، يبثونني نجواهم، فأستريح لأحاديثهم، وما ألذها في السجن.

أمي لقد أتعبتك حينا من الدهر، وشاب شبابك في رعايتي وتعليمي، فلما كبرتُ صرتِ تنوئين بثقل همي وأنت تتطلعين إلى ذلك اليوم الذي أزيح فيه الهم عنك، وأن أكون محظوظا كسائر أقراني، أعولك ونفسي من مخالب الزمان وبراثين الفقر وأعوض يُتْمِي وتَرَمُّلَكِ بما ينسيك شقاء الماضي والحاضر، فأملأ البيت بهجة وسعادة بعدما ملئ يأسا وكآبة، لكنني خيبت ظنك ولم يحصل شيء مما كنتِ تتوقعين، حتى جاء يوم فرجي، أتذكرين ذلك اليوم السعيد الذي اعتصمت فيه رفقة زملائي المعطلين، وأصبحت ولأول مرة شخصا مهما، يتزاحم حولي رجال الشرطة كأنهم ظفروا بصيد ثمين، ويأخذونني في حنان إلى سيارة مصفحة لم أركب مثلها قط، ومن وقتها وأنا محفوف بالرعاية المخزنية حتى أودعتُ السجن، لا أخفي عليك يا أمي أنني خفت وارتعدت فرائصي في الوهلة الأولى، لما كنتُ أسمع عن السجن من أنواع التعذيب والتنكيل، لكن سرعان ما تنفستُ الصعداء، وأنا ألج مكانا دافئا بساكنيه، مغمورا بالعطف والحنان، فاستقبلني السجناء وكأنهم يعرفونني من زمن خلا، استقبالا لم أشعر بمثله أيام كنت أدق أبواب الإدارات بحثا عن عمل، فكانت كل مجموعة من نزلاء السجن تدعوني لمشاركتها في زنزانتها التي كانت تتسع لأربعة أشخاص، فنظرت من حولي وقلت في نفسي: لقد أصبحت إنسانا مرغوبا فيه على الأقل داخل السجن، وتساءلت: لماذا هؤلاء المجرمين كما يسمونهم أرحم من غيرهم، فعرفت أن قساوة الآخرين وجشعهم جعل منهم كذلك، فتوالت أمام ناظري سنوات البؤس التي قضيتها خارج أسوار السجن، ولم أستفق إلا على نداء حارس السجن الذي ربت على كتفي بيد كأنها من حديد، وهو يزهو اعتدادا بنفسه وبقوة عضلاته وعلى محياه ابتسامة يائسة، تكشر عن أنياب تَآكلت بفعل الزمان وقال: هناك من يريد رؤيتك، اذهب ولا تطل الزيارة، فاندهشت من كلامه وسرت بخطى وئيدة نحو غرفة الزيارات، وإذا بأختي جالسة على كرسي خشبي تعلو وجهها مسحة من شقاء العنوسة، وكأنها تنذب حظها العاثر هي الأخرى إذ لم يتقدم إليها أي من الرجال ليخرجها مما هي فيه، حينها شعرت باليأس والندم، غير أنني تمالكت وأظهرت من الشجاعة ما يخفف عنها عبء الزيارة، وأخذت ترمقني بنظرات وكأنها تغبطني على ما أنا فيه، وحمدت الله أنني لم أعد عالة على أحد، ثم انصرفتْ تجر أذيال الخيبة، وانطلقتُ أعدو نحو زملائي المساجين، فهم ينتظرونني لأقاسمهم غنيمة الزيارة التي لا تعدو أن تكون خبزا وتمرا، بل ينتظرونني لأحكي لهم سبب التحاقي بهم كما جرت العادة عند قدوم أي وافد جديد.
الكاتب الأستاذ: زايد وهنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق