☻ بين يقظة و غفوة ☻
ليس الحالم اليقظ كالحالم النائم ، فالأول يهيم بخياله و يستحضر ما يريد ، و يختار لنفسه ما يوافق هواه ، فهو أشبه ما يكون بالمخرج السينمائي أو المسرحي .
لكن الثاني لا يد له فيما يراه في منامه ، و لا خيار له فيه ،
و الحلم في حالته لا يخضع إلى منطق ، قد تتداخل فيه الأزمنة و الأمكنة و الشخوص و غريب الوقائع و الأحداث، مما يجعل المستحيل في الواقع ، ممكنا في الحلم ،
و المتناقضات فيه تبدو متجانسة طبيعية .
إن كان الكذب محرما في عقيدتنا ، فإنه يحل أحيانا إذا كنا ننسج من سديم خيالنا صورا حية و نبني مواقف انسانية لم نعشها حقيقة و إنما أوحى بها الخيال ، فجعلنا منها مشاهد تحمل من العبر ما تحمله لمن أراد أن يعتبر .
لهذا كنت يقظا و سرحت بخيالي بعيدا و كأنني نائم أحلم ، فرأيت فيما يرى من هو بين يقظة و منام أنني أتجول في مدينة لم يسبق لي أن رأيتها و لا سمعت بها . مدينة عربية إسلامية ، تدل عمارة بناياتها أنها من الطراز القديم ، أسوار عالية و صوامع شاهقة و ساحات فسيحة تتوسطها حدائق جميلة تشبه في نقوشها و هندستها حدائق الحمراء بالأندلس ، تذكر زائرها بالمدن العربية العتيقة كبغداد
و دمشق و القاهرة و فاس .
و بينما أنا مشدوه في ذلك النمط المعماري الفريد
رفع المؤذن صوته بالتكبير من أحد المساجد القريبة إيذانا بصلاة الجمعة ، أعجبت كثيرا بعذوبة صوته و بعث في نفسي خشوعا لم أعهده من قبل ، أسبغت الوضوء من نافورة بفناء
المسجد و دخلت بيت الله و قد ران في أرجائه صوت شجي يتلو القرآن ، تكاد تجزم أنه صوت من أصوات السماء ، جلست أستمع إليه في خشوع و تدبر منقطعي النظير ، لم يطل الأمر كثيرا حتى صعد الإمام المنبر و ألقى خطبة لا تقل تأثيرا و تدبرا من التلاوة السابقة .
قضيت الصلاة ، تأخرت قليلا في الخروج ، تجنبا للزحام و أنا أقول في نفسي ليت مؤذن قريتي و إمامها بنفس درجة هذان من التأثير .
في إحدى ساحات المدينة توجد مجموعة من المطاعم ، كل منها مخصص في تقديم نوع معين من الطعام ، و لكن كنت مصرا على تناول الكسكس أنى وجدته .
دخلت أول مطعم ، فلم يكن به غير مجموعة من الرجال ، جميعهم ملتحون ، علمت من خلال حديثهم أنهم من علماء الفقه و الحديث القدامى ، كان كل واحد منهم يمسك بكتبه التي ألفها بين يديه و هم منهمكون في مناقشة الأمور الفقهية ، خرجت مطأطأ الرأس خجلا و حياءا و أنا أقول في نفسي عجبا ، كم مر من الزمان بين هؤلاء و فقهاء عصرنا الحديث ، و ما زال علماؤنا يعتمدون على مؤلفات هؤلاء القدامى ولم يضيفوا جديدا .
دخلت المطعم الثاني ، فإذا به مجموعة من الرجال و قد تحلقوا حول مائدة كبيرة تتسع لهم جميعا ، تسمرت في مكاني و استرقت السمع فعلمت من حديثهم أنهم من علماء أمتنا الأقدمون ،كان كل منهم يستعرض على الآخرين ما توصل إليه من اكتشافات و ابتكارات في علم الرياضيات
و الهندسة و الفلك و الطب و الفلسفة و غيرها ، أعجبني حديثهم و تلذذت لسماعه أكثر من تلذذي بالروائح المنبعثة من مطبخ المطعم ، غادرت المكان و أنا أقول عجبا ما زال علماء عصرنا الحديث يجترون ما تركه هؤلاء ، و لم يضيفوا جديدا .
رأيت مطعما كبيرا ، و ظننت أن فيه سأجد ضالتي،
و ما أن تجاوزت عتبة بابه حتى انتابتني الدهشة ،
فقد كان مكتظا برجال أنيقين ، علمت من دردشتهم أنهم أدباء ، فيهم كتاب و شعراء و نحويون من كل العصور إلا من عصرنا ، أعجبت غاية العجب بمقالاتهم و أشعارهم الرائعة الهادفة ، و غادرت المكان و أنا أتحسر على ما آل إليه الأدب في أيامنا هذه من ابتذال و تدني .
توجهت نحو مطعم آخر ، و أنا مصر على أن يكون هو الأخير ، و أن أطلب أي شيء يقدمه ، لأنني لم أعد أطيق صبرا على الجوع الذي بدأ يمزق أحشائي . عند بابه سمعت صوت موسيقى هادئة تريح الأعصاب و تطرب الوجدان ،
و ما أن دلفت إلى الداخل حتى رأيت مجموعة من الفنانين ،
رواد الزمن الجميل ، منهم الملحنون و المغنون
و الموسيقيون و هم يعزفون و ينشدون روائع الشعر و بديع الزجل ، فقلت في نفسي لعله المكان المفضل ، اتخذت موضعا قريبا منهم ، و أخذت أستمع و أستمتع ، حتى كدت أنسى الجوع ، لولا أن النادل وضع أمامي طبق الكسكس ، أكلت بنهم شديد ، فقد كان طبقا لذيذا و لكن ما أسمعه من حولي كان بحق ألذ منه ، انفض جمع الفنانين ، و كم تمنيت أن يستمر لأغسل أذناي و أطهر و جداني مما لحقهم من تلوث ممن يسمون أنفسهم فناني أيامنا هذه .
خرجت من المطعم و الأسى يعتصرني و أنا أقارن بين أمس مشرق و يوم مظلم ، و أتأسف على ما لحق العلوم و الآداب من خمول و تدهور ، و ما لحق الفن من انحطاط و تفاهة .
توقف خيالي و لم تعد أسطوانات شريطه تدور ،
نظرت يمينا و شمالا ، فإذا أنا لوحدي في غرفة الجلوس بمنزلي ، و أمامي على المائدة صينية شاي التي لا أدري من وضعها و متى وضعها .
أعدت النظر من حولي ، و أنا أحمد الله أن لا أحد من أفراد أسرتي لاحظ شرودي ، و إلا كنت موضع سخريتهم .
🚶 المسافر في الزمان ( زايد وهنا ) 🚶
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق