🔍 ما أشبه اليوم بالأمس 🔍
غريب ما يحدث في زماننا هذا ، و لست أدري أأنا
و أمثالي ممن ينتمون إلى الجيل الماضي قد تخلفنا عن هذا العصر بمستجداته و لم نعد نجد في أنفسنا ارتياحا لمسايرته و لا قبولا لمداراته ، لأننا ما زلنا نرزح تحت ما وقر في نفوسنا و عقولنا من ذاك الماضي الذي نعتبره الزمن الجميل بكل المقاييس ؟. أم هو تصور خاطئ منا ينبئ عن تخلفنا
و عجزنا في نظر أجيال اليوم المبرر بالصراع الحضاري الذي عادة ما يخلق ذلك البون الشاسع بين الأجيال ، حتى أصبحت نوبات الشك تنتابنا من حين لآخر فنسائل أنفسنا أنحن حقا الذين ما زلنا في ضلالنا القديم ، نتخبط في عتمة التخلف التي تغشي أبصارنا .
حقيقة الأمر أن وجهات النظر تختلف من جيل لآخر حسب التغيرات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية التي يأتي بها كل عصر ، و لكن إلى عهد قريب لم تكن تلك الهوة تحدث تغييرا متباعدا و محيرا بين أجيال الماضي مثل الذي نراه اليوم في الأجيال الحالية .
فقد عرفت العقود الثلاثة الأخيرة تغيرا جذريا و طفرة سريعة تنصلت من ذلك الماضي بموروثاته و أحدثت قطيعة تامة ، لم تعهد مثلها الأجيال فيما مضى من الزمن .
قديما كان الناس يتنافسون في أمرين هامين يعتبرونهما الأصل في الرفع من قيمة و مكانة الإنسان في مجتمعه ، أولهما مجاهدة النفس للتمسك بالفضيلة و نبذ الرذيلة حتى تبلغ من الاستقامة مبلغا محمودا ، و ثانيهما السعي الحثيث في طلب العلم بشتى صنوفه العلمية والأدبية لأنه نور العقل من الجهل و مصباح الأبصار من الظلمة ، يرفع الله به قوما فيجعلهم قادة أئمة تقتفى آثارهم و يقتدى بفعالهم ، و قد كان العلماء إلى وقت قريب هم صفوة القوم ، لهم المكانة العالية
و الكلمة النافذة في المجتمع ، ينظر إليهم نظرة التبجيل
و التقدير ، و كان القيمون على تسيير و تدبير أمور البلاد يستشيرون هؤلاء العلماء كل حسب تخصصه و يأخذون برأيهم في النوازل و القضايا التي ترفع من وتيرة التنمية
و تسير بالبلد نحو شط الأمان ، لذلك كانوا في زمانهم ذاك يعرضون عن التفاهة ، و يعتبرونها ضربا من الحمق و النذالة التي تحط من قيمة آتيها ، و لا غرو في ذلك إذ كان عدد التافهين في أيامهم قليلا لا يكاد يلفت انتباها ، و لا أحد يعيرهم اعتبارا أو يعتد بآرائهم مادامت آراؤهم تصب في السفاهة لا غير .
و لكن ما حدث اليوم هو العكس تماما عما كان بالأمس ، فقد انقلبت الموازين رأسا على عقب ، إذ عوضت الفضائل بالرذائل و لم يعد للقيم السامية و الأخلاق الفاضلة قيمة تذكر ، و همشت العلوم و الآداب و فقدت جودتها و قيمتها ، و همش أصحابها المجدون على قلتهم ، و فتح الباب على مصراعيه للتافهين المتفيهقين يصولون و يجولون بتفاهتهم ، و وفرت لهم كل السبل المساعدة من قنوات تلفزية و وسائل التواصل
الاجتماعي و غيرها ليبثوا عبرها ما لذ و راق لهم من أطباق التفاهة حتى زاغ الشباب عن جادة الصواب ، و أصبح مفتونا بهذه التوافه ، يعتقد أنها طريق الخلاص ، مما جعله يقلد التافهين في بعض المظاهر التي تشمئز منها النفس السوية ، كالكلام الفاحش الذي يتداول على مرأى و مسمع من الناس من غير حرج و لا حياء ، و اللباس الممزق الذي لا يكاد يستر عورة ، و تصفيفات الشعر المقرفة ، و الأوشام المخزية على أطراف الجسم و الأقراط في الأذنين ، بل الأدهى و الأمر أن بعض نساء و بنات هذا العصر يتفاخرن بإبراز مفاتنهن
و يتباهين بالمؤخرات الممتلئة و لا يضرهن في شيء إن كانت عقولهن فارغة ، حبذا لو كان اهتمامهن بالعلوم بنفس اهتمامهن بالمؤخرات ، لما كن ملومات .
ولعل هذا الانحلال و الانسلاخ عن القيم الانسانية النبيلة
و انعدام الزجر و الردع هو ما أدى إلى تفشي ظاهرة الإجرام بكل أشكالها حتى بات الناس مدعورين من خطورتها ، يتملكهم الخوف ليل نهار على فقدان متاعهم إن لم نقل أرواحهم .
و لا ملامة على الشباب عامة فيما فعل في نفسه من اهتمام بالمظاهر ، لو أولى نفس الاهتمام بالأخلاق و العلم .
و لكن للأسف الشديد مظهر مقزز و سلوك منفر و عقل فارغ ، إلا من رحم ربي ، و لا أظن أن من كان على جانب من الخلق الحسن ، و على جانب من العلم و المعرفة يرضى أن يفعل في نفسه ما يثير اشمئزاز الناس ، و حتى لا نكون مجحفين في حق قلة قليلة ممن هداهم الله ، أولئك الذين رموا وراء ظهورهم كل تلك التوافه ، و أقبلوا على كل ما يزكي النفس
و يرفع مقامها إلى مراتب الفضلاء ، و سعوا في طلب العلم
و تحصيله و جعلوه أولى الأولويات ، فهؤلاء حقا قد تبوؤوا منازل الأخيار سلوكا و علما و لعلهم الأمل الذي يضع عليه المجتمع رهانه في المستقبل ، أما ما عدا هؤلاء القلة الواعية الحازمة ، فالسواد الأعظم من شبابنا قد اقتصر اهتمامه على المظاهر الزائفة المقيتة التي لا تقبلها الطبيعة الحيوانية ناهيك عن الطبيعة البشرية .
لم نعد نرى و نسمع في أيامنا هذه من الفنون إلا رديئها ، و نادرا ما نصادف عملا فنيا رائعا ، و لكن سرعان ما يتجاهله الكثير و يتجاهل صاحبه ، و كيف له أن يعجب مثلا بقصيدة شعرية رصينة و يتذوق رونقها و جمال لغتها و بلاغة أسلوبها و قد ألف التفاهة و تعودت أذنه على المبتذل من الفن ، مما جعل ذوقه منحطا لا يستسيغ إلا الساقط ، لأنه هو نفسه غير مؤهل لفهم و استيعاب الأعمال الفنية الراقية ، فمعينه من الأدب قليل جدا ، لا يسعفه إلا في تذوق تلك العفونات التي أنتجها أمثاله من السداج .
و ما قيل عن الشعر ينطبق تماما على باقي الفنون من نثر
و غناء و غيرها .
و قد استدرك البعض -- ممن يدعون الإصلاح -- ما وصل إليه المستوى الأخلاقي والتعليمي من تدن في أوساط شبابنا ، فعرفوا الداء و لم يعرفوا الدواء ، إذ عمدوا في كل مرة و دون تحليل مخبري دقيق إلى استعمال أدوية يعالجون من خلالها أعراض المرض ظنا منهم أنها ستفي بالمرغوب ، و لكن تلك الوصفات لا تغير من واقع الحال شيئا ، بل تزيد الوضع تدهورا .
فدعاة الإصلاح بيدهم الحل لو كانت لديهم النية الصادقة في الإصلاح ، ولكن التهافت على الثراء و المناصب و تحقيق المصالح الشخصية أعمى أبصارهم ، و طمس بصائرهم
و تركهم في الغواية و الفساد يهمعون ، فلم تعد لهم غيرة على مصلحة البلد ، و لم يعد يهمهم من أمر الشباب شيئا ، متناسين أن شباب اليوم هم كهول الغد الذين على أكتافهم يبنى مجد الوطن ، و تنشئتهم على الصلاح هو السبيل الأقوم لصلاح المجتمع و تقدمه ، إذن كيف يتحقق المراد من غير نية صادقة و لا عزم أكيد ؟
☚ أليسوا هم من ساهم في تردي هذا الوضع بتشجيعهم للتفاهة و تشييء المرأة و منحها حرية من غير ضوابط حتى دب الانحلال في أوساط الأسر ، و لم تعد الأسرة تتحكم في زمام التربية كما كان قديما ، علما بأن الأسرة هي المهد الأول لتكوين جيل ملتزم إذا اشترط فعلا بصلاح العمود الفقري للأسرة الذي هو المرأة ؟.
☚ أليسوا هم من همش الفقهاء و الأدباء و المفكرين الغيورين على القيم الانسانية النبيلة و المجدين في البحث العلمي و الأدبي المفيدين للرفع من سمعة البلد ؟.
☚ أليسوا هم من قلل من قيمة الأستاذ ، و استنقص من قدره ، و أهمل حقوقه و تركه عرضة للضرب و الشتم من غير عقاب رادع للأضناء ؟.
☚ أليسوا هم من أطلق العنان للشباب باسم حقوق الإنسان ، فغاب الانضباط و الحياء في المؤسسات التعليمية و حل محلهما التسيب و الفوضى ؟.
☚ أليسوا هم من رفع نسبة النجاح في جميع الأسلاك إلى أعلى مستوى حتى بات التلاميذ ينتقلون من مستوى إلى آخر بأعداد هائلة و هم لا يمتلكون من المعارف أدناها و أبسطها ؟.
☚ أليسوا هم من يتكرم على كل طلبة الجامعات بشهادات الإجازة ، و لا يستثنون في ذلك أحدا حتى صارت أعداد المجازين كبيرة جدا و أفواج الخريجين تتراكم سنة بعد أخرى و لكن دون استحقاق ، إذ أغلبهم لا يتعدى مستواه العلمي و المعرفي مستوى تلميذ في الإعدادي من الجيل القديم ، و هذا الضعف يلمسه أغلب المجازين في تخصصهم ناهيك عن التخصصات الأخرى ، و هم أنفسهم يعترفون بتعثرهم و قلة زادهم كلما تقدموا لمباراة توظيف أو شاركوا في نشاط ثقافي معين ؟.
☚ أليسوا هم من رفع أيديهم عن مراقبة و محاسبة الإعلام فأضحى يقدم التفاهات و يرفع من شأن التافهين ، فجعلهم قدوة الشباب الذي يحتدى ؟.
لعل هذه و غيرها كثير ما شجع شبابنا على تقليد التفاهة و الاهتمام بسفاسفة الأمور ، و ألقت به في مستنقع الجهل و الرذيلة يتخبط في وحلها ، و هو الأمر الذي لم يستسغه كبار السن و عقلاء القوم في هذه العقود الأخيرة
و جعلهم يستشعرون نوعا من الغربة في أوطانهم دافعهم في ذلك الغيرة على البلاد و العباد .
إن رسالة الرقي لا يمكن أن يقوم بها أبناء أمة عاجزة موبوءة ، إذا لم تأخذ بالأسباب الحقيقية من القيم السامية
و العلوم المفيدة المواكبة لمستجدات العصر ، فزماننا هذا لا يقبل إلا الأجسام التي تجري فيها دماء العافية ، و العقول
التي تجعل العلم أسمى مطالبها ، و لا ترضى عن نفسها كل الرضى إلا إذا أحست أنها تنافس غيرها في جميع المجالات .
أما و الحالة هذه ، فقد صدق من تنبأ و قال أن المجتمع لن يتذوق مرارة خذلانه و نتيجة إهماله هذا إلا بعد بضع سنوات حيث يموت و يتقاعد ما بقي من الجيل القديم الذي كان في عمومه يعمل بجد و إخلاص و كفاءة عالية ، حينها يؤول تسيير القطاعات إلى هذا الجيل الذي تشبع أغلبه بتوافه الأمور ، فتعصف رياح التفاهة بكل ما هو جدي ، و تضيع المصالح في مهبها ، و تذهب الآمال أدراجها ، عندها يتجرع المجتمع ما صنعت يداه ، و يقول العاقل الغيور ليتني مت قبل هذا و كنت نسيا منسيا .
💼 بقلم زايد وهنا 💼
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق