😥 على شفا حفرة 😥
قبل أيام قليلة بإحدى المكتبات ، و أنا منهمك في قراءة كتاب " مقدمة ابن خلدون "
لمؤلفه العلامة عبد الرحمن بن خلدون أحد أقطاب علم الاجتماع ، و رغم أنني قرأته أيام شبابي ، إلا أنني وجدت في نفسي ميلا و رغبة في إعادة قراءته و استحضار ما غاب عن ذاكرتي من أفكاره .
و بينما أنا كذلك دخل المكتبة صدفة أحد أصدقائي المقربين ممن تحلو مجالستهم و يطيب
الحديث معهم ، رجل في مثل سني أو يصغرني قليلا ، كريم الخلق مهووس بالهم الثقافي ، دائم
القلق عما آلت إليه الثقافة و الإبداع الفكري الجاد
في أيامنا هذه .
تفاجأ لرؤيتي و هرول نحوي ، صافحني و عانقني كعادته و قد علت وجهه علامات البشر و الارتياح ، شاكرا في الوقت نفسه هذه الصدفة التي جمعتنا .
و بعد أن سألني عن أحوالي الصحية ، تصفح الكتاب الذي كنت بصدد قراءته ، ثم ابتسم ابتسامة عريضة و جذب إليه كرسيا و اتخذ مكانه في الجهة المقابلة أمامي و قال دون تردد متهكما :
" أتعلم يا صديقي أن هذا الكتاب ، و غيره من الكتب التي تزخر بها هذه المكتبة قد أصبحت من
الماضي و لم تعد لها فائدة عند أناس عصرنا ،
لهذا سأدلك على مؤلف في علم ( الانضباع ) صدر مؤخرا ، يتهافت على قراءته كل من يرغب في
المال و الشهرة ، لكاتبه العلامة :
" عبد السفه بن فسدون التافهي "
بعنوان :
" مؤخرة ابن فسدون "
يتألف الكتاب من عدة فصول ، يتناول فيها الكاتب
الطرق الحديثة في التفاهة التي تسير بالبلاد خطوات بل أميال إلى الوراء ، و التي تكسب روادها الملعونين المال و الشهرة و المنزلة العالية في المجتمع ، فعوض أن يهتموا باستنارة عقولهم
و شحنها بالعلم النافع و الإبداع في مواهب فنية راقية ، سهل عليهم صاحب الكتاب الأمر ،
و أطلعهم على أيسر الطرق التي لا تحتاج إلى تعب التعلم و البحث ، و ذلك بأن يصبوا اهتمامهم على المؤخرة لتكون ممتلئة و مكتنزة سيما إذا اقترنت بالرقص الماجن و الغناء الفاحش ، و بذلك تكون صاحبتها قد ضربت عصفورين بحجر واحد ، أولهما أنها حركت في المرضى الشعور بالسعادة
و هم يرونها ترقص و تغني و تستعرض مفاتنها
و ثانيهما و هي الأهم أنها تكسب من وراء فسوقها هذا المال و الشهرة ، فيتم النداء عليها لتحيي السهرات و تشارك في اللقاءات الفنية و لم لا البرامج التلفزية ، و هي محاطة بهالة من المعجبين و لها من الحظوة ما ليس لعالم .
و لبلوغ هذه المنزلة الراقية في نظر الكاتب لا يتطلب الأمر شهادات جامعية و لا دبلومات
و لا مهارات حياتية ، بل يكفي في الرجل سفاهته
و تفاهته و أوشامه و أقراطه و تصفيفة شعره الغريبة و غناؤه المائع الساقط و عربدته لينال الحظوة و المال ، و يكفي في الأنثى جمالها و كبر مؤخرتها و رقصها و عريها و إيحاءاتها المشبوهة لتكون رائدة من رواد السفاهة و العهر ، و ذاك ما يبوئ الرجل و المرأة كليهما المنزلة العالية التي تشرف المجتمع و تساهم في ازدهاره و تقدمه نحو الهاوية .
و في فصل آخر ، أطلع قراءه على أقصر السبل
للوصول إلى النجومية و كسب الأموال الطائلة ،
و ذلك بإهمال العلم و إراحة النفس من مشقة طلبه ، مادام العلم في أيامنا هذه لا يصل بصاحبه إلى النجومية و لا يكسبه الغنى ، و أن يروض الشباب أقدامه منذ الصغر على مداعبة كرة القدم و إتقان المراوغات ليلتحق بأحد الفرق التي تغدق عليه من الأموال في موسم واحد ما لم يجمعه الأطباء و الأساتذة طيلة حياتهم المهنية .
كما أن هناك فصولا أخرى في التدرب على النصب
و الاحتيال و التزوير للحصول على الأموال بطرق سهلة غير شرعية لا تتطلب علوما و لا عناء السهر
في البحث و المدارسة .
كنت خلال حديثه أستمع إليه استماعا يمتزج فيه الاستغراب بالإعجاب ، أتأسف حينا و أتحسر حينا إذ أيقنت أن كلامه على صواب ، و سألت الله العون و الصبر لفئة من عباده المجدين الغيورين
على دينهم و بلدهم الذين ملئت صدورهم غيضا
مما آلت إليه الأمور .
أظلمت الدنيا في عيناي ، و لم أعد أرى أمامي إلا أفقا معتما لا يبعث على الارتياح ،تأففت و تنهدت و أخرجت زفيرا حارا ، و دون أن أعلق بكلمة
واحدة عدت لما كنت عليه أتابع قراءة الكتاب الذي بين يدي و لسان حالي يقول :
ليتني عشت في عصر ( ابن خلدون ) أو أي عصر قبله أو بعده و أنني مت قبل أن أرى عصر
( ابن فسدون ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق