💉 أصل الداء 💉
أمسيت مؤخرا أعاني من الأرق إذ لا أنام إلا بعد منتصف الليل بساعتين أو أكثر .
و السبب في ذلك أنني كنت و منذ زمن غير يسير مدمن على السهر طويلا ، أقرأ أحيانا و أكتب أحيانا أخرى ، و لعل أفضل وقت عندي لمثل تلك الأعمال هو الهجيع الأول من الليل حيث أشعر بالراحة و الهدوء ، ففي ذلك الصمت المطبق مبعث الإهام ، فيه تتفتح قريحة الإبداع ، و قد أنتج عملا أدبيا رائعا -- أقول رائعا في نظري -- ، إذ لا أستطيع أن أنتج مثله روعة في أوقات غير هذه .
و هكذا عودت نفسي على السهر حتى جفاني النوم ، و أخذ مني الأرق مأخذه و صار عادة مألوفة بعمل أو بغير عمل .
و مع تقدم العمر بدأت بوادر الوهن تسري في بدني ، و لم أعد بذلك الحماس الذي كنت عليه من ذي قبل ، مما اضطرني لكسر عادة السهر و محاولة
النوم باكرا ، و تعويد نفسي على القراءة و الكتابة في أوقات أخرى من النهار ، و لكن للأسف الشديد
بقي الحال على ما هو عليه .
أشار علي أحد الأصدقاء أن أعتمد على السمع عوض أن أقرا أو أكتب ، فالإستماع إلى ما تيسر من القرآن الكريم أو إلى محاضرات أو حكايات
أو أشعار سيما في الظلام يعجل بنوم المستمع .
عملت باقتراحه و طفقت في كل ليلة أستمع تارة إلى المقرئ عبد الباسط رحمه الله و تارة أخرى إلى محاضرة أو إلى حكاية أو إلى قصائد شعرية من الفصيح و الملحون ، فلاحظت أن لا شيء تغير خصوصا عند الاستماع للقرآن و العروض
و الأشعار ، لأنني أنصت إليها جيدا بكل تمعن
و روية ، و أتدبر معانيها ، و أهيم في مراميها ، فعادت حليمة إلى عادتها القديمة .
لكنني و مع مرور الأيام لاحظت شيئا غريبا ،
ذلك أنه كلما استمعت إلى حكاية من الحكايات إلا و غالبني النعاس حتى قبل أن تكتمل أحداثها ، قلت في نفسي الحمد لله قد وجدت الحل الذي يبعد عني الأرق ، و هكذا مؤخرا أصبحت أستمع إلى الحكايات خصوصا منها طرائف العرب
و نوادرهم أو حكايات التحقيق في الجرائم المعقدة التي باتت تستهويني أحداثها و طرق حلها ، و كثيرا ما يغالبني النوم دون إتمام وقائع الحكاية .
أتساءل أحيانا عما استفدته من هذه الحكايات التي تروي قصصا غريبة خطيرة عن المجرمين
الذين وقعوا في قبضة العدالة بعد أن اقترفوا
جرائم بشعة تشيب لسماعها الولدان ، ظنا منهم
أنهم سيفلتون من العقاب لأنهم أخذوا بأسباب
الحيطة و الحذر حتى لا تنكشف جرائمهم ،
و لكن جزئيات بسيطة جدا قد لا ينتبه إليها المجرمون تقود التحقيق إلى التعرف على الجناة ،
بفضل محققين أذكياء بارعين صقلت مواهبهم التجربة و حنكت مهاراتهم الوقائع .
من خلال مجموعة من الحكايات التي استمعت إليها ، رأيت أن أغلبها و بنسبة عالية سببها الطمع .
الطمع نقيض القناعة و هو عدم الرضى بما يملكه
الإنسان و طموحه في الحصول على أكثر من ذلك
فإذا لم يتأت له بالطرق المشروعة ، سلك طرقا
غير مشروعة كالإتجار في الممنوعات أو السرقة
و النصب و الاحتيال و التزوير ، و هذه كلها تقوده يوما إلى ارتكاب جريمة بشعة تصل أحيانا كثيرة
إلى القتل .
فلولا الطمع ما تاجر المجرم في الممنوعات ،
و لولا الطمع ما مد السارق يده لمتاع الغير ،
و لولا الطمع ما نصب المجرم على الناس ،
و لولا الطمع ما زور المجرم الوثائق ،
و لولا الطمع ما انتحل نصاب صفة شخص آخر ،
و لولا الطمع في الإرث ما قتل الإنسان قريبه ،
و لولا الطمع ما ارتشى الراشي المرتشي ،
و لولا الطمع ما اشترى الإنسان المسروق ،
و لولا الطمع ما كان الاختطاف و طلب الفدية .
و لولا الطمع ما سلك الجاهل طرق الشعوذة .
و لولا الطمع في جمال زائف ما خان الزوج زوجته،
و لولا الطمع في مال زائل ماخانت الزوجة زوجها .
و لولا الطمع ما زوج الأب صغيرته لشيخ كبير .
كل هؤلاء غشى الطمع أبصارهم و بصائرهم ، و زاد من نهمهم في مواصلة أعمالهم الدنيئة لجمع الأموال ، فلا يستحضرون العواقب إلا بعد أن تقع الجرائم و يتم القبض عليهم ، فيزج بهم في غياهب السجون لمدة طويلة ، فتضيع كل آمانيهم و يبتلون في أبدانهم ، و يتركون خلفهم أسرا مكلومة ، حينها يعضون الأنامل من الندم و لكن أنى يجدي الندم و التحسر ، و ما ذنب أسرة الجاني الذي جنى على نفسه و عليها ، فأصبحت الأسرة بين عشية و ضحاها دون حام لها و لا معيل ، مما يزيد من أوجاعها و تفككها الذي قد يترتب عليه الضياع و الانحراف و ظهور جرائم من نوع آخر .
إذن الأصل في أغلب الجرائم هو الطمع ، في حين
لو سلك الإنسان سبل الحلال في طلب الرزق ،
و قنع بما يملكه و لو على بساطته لعاش سعيدا
مرتاح البال . فليست السعادة في كثرة المال سيما إذا كان مصدره من حرام ، و لكن السعادة الحقيقية في تقوى الله أولا و في القناعة طبعا ،
و في الأخلاق الفاضلة و العلم النافع و ما دون هذه الدعامات فهي مظاهر زائلة و زائفة ،
و المغرور هو من يتهافت على الزائف و يترك الأصل .
هذا ما استنبطته من كل تلك الحكايات و إن كنت
أعرف ذلك من قبل ، و لكنني ازددت يقينا على يقيني و تأكدت أن أبشع الرذائل هو الطمع ، و هو الأصل في أغلب الجرائم .
إذن بعد هذا كله تبقى الإستفادة القصوى من كل هذا هو أنني استطعت أن أكسر عادة السهر طويلا إذ وجدت في الاستماع إلى هذه الحكايات منوما طبيعيا و هو المكسب الذي طالما تمنيته ، و كأني بذاكرتي تسترجع أيام الصبا حيث كانت جدتي رحمها الله تحكي أحاجي أسطورية ، فيها من الخرافات الكثير و لكنها كانت مرغوبة يحلو على وقائعها النوم .
فما أشبه الأمس باليوم ! بالأمس كانت الحكايات أحاجي خيالية ترويها الجدات للصبيان عند المنام فتعجبهم ، و اليوم حكاياته إجرامية خطيرة من صلب الواقع تخيف الصغار ولكن تحمل من العبر
و الدروس ما يكفي للكبار .
✏ بقلم زايد وهنا ✏
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق