📍 موت من نوع آخر 📍
الكل يعلم أن للموت معنى واحد و هو مفارقة الروح للجسد بحيث ترتقي الروح إلى بارئها و تدفن الجثة في التراب ، و لا أحد يعلم مصيرها بعد ذلك إلا خالقها ، إن شاء غفر و إن شاء عذب و في كلتا الحالتين فهي عدالة ربانية لا يعلم غاياتها إلا هو سبحانه و تعالى .
إلا أن هناك موت من نوع آخر بحيث يكون الإنسان حيا يرزق و لكن يملك ضميرا حيا يعذبه
خصوصا إذا تكالبت عليه الهموم ، فلا يستلذ لشيء
و تغيب السعادة عنه ، فيصبح شبه ميت .
-- فالذي يعاني من إعاقة مستديمة تمنعه من الاستمتاع بأشياء كثيرة ، و لا يجد عناية .
-- و الذي لا يجد عملا يعول به نفسه و أسرته .
-- و الذي اضطرته الظروف ليعيش عالة على غيره .
-- و الذي يعمل مقابل أجر زهيد لا يلبي له أدنى ضروريات العيش له و لأبنائه .
-- و الذي غشى الجهل بصيرته و لم تتح له فرصة التعلم ، فتعذبه أميته بين الناس .
-- و الذي يعاني من مرض مزمن و لا يجد الرعاية الصحية .
-- و الذي لا يشعر بالأمن و الأمان و يعيش في خوف دائم على نفسه و عرضه و ماله من أولئك
المشرملين حاملي السلاح الأبيض .
-- و الذي يؤمن بالخرافة و يتنقل بين المشعودين
-- و الذي يتسول في الشوارع و الأزقة ،
-- و الذي شاخ و عجز و نبذه أهله فلم يجد ملجأ إلا دار العجزة ،
-- و الذي لم يعرف له أبا و لا أما إلا الإصلاحية ،
-- و الذي يعيش شقاء و تعاسة في حياته الزوجية
و لم يجد لها مخرجا نظرا لظروف ما .
-- و الذي حكم عليه بالسجن ظلما .
-- و الذي لا يستطيع أن يعبر عن رأيه خوفا من بطش الحكام .
-- و الذي يسعى لنشر العلم و القيم الإنسانية النبيلة ، فيرى أن جهوده تذهب أدراج الرياح ،
و أن الاهتمام قد أولي للتفاهة و سفاسفة الأمور التي أصبحت لروادها كلمتهم في المجتمع
و الذين حققوا بسفاهتهم من المال و الشهرة
ما لم يحققه المثقفون الغيورون المجدون .
-- و الذي يكد و يجد و يخلص في عمله ليرفع من شأن بلده ، و لا أحد يهتم لأمره أو يشجعه و لو بكلمة طيبة تجبر خاطره ، فهو كذلك يعتصره الأسى و يغلب على حياته طابع الحزن و الكآبة
و هو يرى التافهين ينحدرون بالبلد إلى الحضيض و رغم ذلك فهم منعمون مكرمون .
أليس هؤلاء أمواتا أحياء ، يلازمهم الضنك
و الحزن و الألم بحيث لا يتذوقون طعم السعادة قط ، ألا تراهم يموتون تدريجيا ، لأن ضمائرهم حية ، و لأنهم يحملون هموما تنهد لها الرواسي الشامخة .
و نفس الشيء بالنسبة للآخرين الذين يظنون أنفسهم يعيشون السعادة ، و هي في الحقيقة
سعادة زائفة ، و مهما يكن فالموت يدرك الجميع ، غير أن الفئة الأولى تشعر به يوميا يحوم حولها ،
لأن البسطاء من القوم يعيشون ظروفا قاسية على مستوى العيش ، و المثقفون النوابغ يعيشون التعاسة على المستوى الفكري .
أما الفئة الشبه المرتاحة فأغلبهم لا يتحرك ضميره و لا ترق عيناه رحمة بالآخرين ، فهم كالأنعام يعلفون و لا يشعرون بمعاناة من حولهم ،حتى الموت لا يذكرونه إلا في الجنائز و بعدها ينغمسون في ملذات الحياة و لا يستفيقون إلا عندما تختطف يد المنون أحد أقربائهم ، و رغم ذلك لا يتعظون فيعودون لما كانوا عليه ، و كيف يتعظون و قد مات الحس الإنساني فيهم .
ختاما يمكن القول أن في أيامنا هذه و ما تشهده من أوضاع مزرية ، فقد أصبح كل ذي ضمير حي
يتعذب إذ يأمل أن يرى كل القطاعات في بلده تتقدم نحو الأمام و هو الأمر الذي لا يتأتى إلا
بالعلم و التعليم على مستوى عال ، و الرفع من
قدر العلماء و المفكرين و الباحثين و الفنانين
الموهوبين المتميزين و القطع مع التفاهة
و التافهين ، و قطع الطريق على كل ما يهدم القيم
الاسلامية السامية و المبادئ الإنسانية الراقية ،
و مادام هذا لم يتحقق ، و لا رغبة لهم في تحقيقه ، فقد بات من الأكيد أن يتعذب ذوو الضمائر الحية ، و بذلك فكل يوم يمر عليهم إلا
و يموت جزء منهم ، حتى يأتي اليوم الذي
يغادرون فيه هذه الدنيا إلى دار البقاء ، و في قلوبهم حسرة على ما خلفوه وراءهم من أوضاع غير مريحة في بلدهم ، و رغم الفراغ الفكري الذي يتركوه هؤلاء إلا أنهم في الحقيقة استراحوا من عناء ما كان يحز في أنفسهم و يؤرق مضاجعهم من مثل هذه الاختلالات التي تزيد من أوجاع الشعب و تثني البلد عن النمو .
و قد صدق الإمام الشافعي حين قال :
قد مات قوم و ما ماتت مكارمهم
و عاش قوم و هم في الناس أموات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق