العيد في غزة
اجتمعت الأسرة حول مائدة الفطور صباح العيد ، و هم يتبادلون التهاني تعلو وجوههم الابتسامة ،
و تغمرهم الفرحة ، هذه الفرحة التي تختلف دوافعها بين فرد و آخر حسب السن و الجنس ، فالصغار منهم لا تعنيهم وجبة الفطور بقدر ما تعنيهم الملابس الجديدة ، التي ينتظرون ارتداءها بفارغ الصبر ، ليظهروا بها أمام الأقران و الجيران ، أما الأم فلا يشغل بالها إلا الثناء الذي تنتظر أن تسمعه من الجميع على ما حضرت
و قدمت من حلويات و مشروبات لتفخر بموهبتها في إعداد الأطباق خصوصا أيام الأعياد و المناسبات .
غير أن في هذا الصباح المبارك لم ينلها من ثناء زوجها شيئا ، و هو ما لم يحدث من قبل ، و لاحظت تغيرا في تصرفاته و مسحة من الحزن تكتنف أسارير وجهه ، رأته على غير عادته يرد التهاني بابتسامة فاترة لا توحي بالبهجة و السرور ، و إنما يردها مجاملة و محاباة لأفراد أسرته ، و هو الأمر الذي لاحظته فيه منذ أن دخل البيت عائدا من صلاة العيد ، استبدت بها الحيرة و لم تستطع صبرا ، فسألته عن السبب ، تلكأ قليلا في الإفصاح عما في نفسه ، حتى لا يفسد عليهم فرحة العيد ، و لكنه اضطر تحت إلحاح الزوجة أن يفصح عن السبب الذي جعله كذلك ، فقال و الحزن يعلو تقاسيم وجهه :
" يا زوجتي و قرة عيني ، يا أبنائي فلذات أكبادي ،
نحن اليوم مجتمعون على مائدة الفطور ، و المائدة تزخر بكل أنواع الأكل و الحمد لله ، سعداء بهذا اليوم السعيد الذي هو عيد الفطر ، مؤمنون في بيتنا ، في كامل صحتنا و عافيتنا ، أدامها الله علينا ، كل أفراد أسرتنا حاضرون ، لا ينقصنا شيء من ضروريات العيش ، و لكن هل تبادر إلى أذهانكم أن هناك أسرا مكلومة حزينة لا تستمتع بفرحة العيد تعيش الرعب
و الهلع من جراء القصف الوحشي ، و كيف تجد الفرحة إلى قلوبهم سبيلا ، و بيتهم قد هدم عن آخره ، لا مأوى لهم غير خيمة مع النازحين ، و رب أسرتهم أسير عند العدو ، تاركا زوجته تشق الثوب و تنفجر بالبكاء
و الصراخ على فقدان واحد أو أكثر من أبنائها ،
و تحتضن البقية ممن أخطأهم الموت و هم يرتعدون خوفا من أي صاروخ قد يمزق أشلاءهم في أي لحظة ، لا يرغبون في شيء إلا النجاة بأرواحهم ، أما ما عدا ذلك من ملذات العيد و متعه فهي مستبعدة في مثل ظروفهم ، لا استحمام و لا دواء و لا ملابس جديدة
و لا حلويات و لا أفرشة و أغطية تقيهم برد الشتاء ، المعابر أغلقت و حالت دون وصول الإمدادات الغذائية
و الطبية ، فقط بعض ما تبقى لديهم من الفتات يوزع عليهم في المخيمات ليسدوا به رمقهم في انتظار فرج قد يأتي أو لا يأتي ، أما الموت فهو قريب منهم يرصدهم .
فكيف يا زوجتي و يا أبنائي يحلو لنا الفرح و نحن نرى و نسمع عن هذه الإبادة الصهيونية الوحشية التي أتت على الأخضر و اليابس ، لا تستثني شيخا و لا صبيا و لا امرأة ، و العالم كله لا يحرك ساكنا ، سيما الأقطار العربية الإسلامية التي تعتبر الأقصى من مقدساتها ، فكل مسلم غيور ينبض قلبه بقليل من الرحمة ، لا بد أن يشعر بالحزن و الأسى على ما يجري من تقتيل و أسر
و تنكيل و تخريب في بيت المقدس ، و لا يطيب له العيش إلا عندما يرى الأمة الإسلامية بخير تنعم في الأمن و الأمان ، مصداقا لقول الرسول الكريم : " مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى " .
ما أن أنهى حديثه حتى اغرورقت عينا زوجته بالدموع
و لكنه كفكفها بيده و طمأنها بأن الله يمهل و لا يهمل ،
و ما دمنا لا نملك لنصرتهم حيلة ، فالدعاء هو السلاح الوحيد ، فلا تبخلي عليهم به أناء الليل و أطراف النهار عسى بالدعاء تنكشف الغمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق