الانتظار
لعل ما يقلق الكثير من الناس هو الانتظار ، و أكثرهم قلقا أولئك الذين يجلسون في قاعات الانتظار بالإدارات العمومية ينتظرون بفارغ الصبر مجيء
الموظف المكلف بقضاء حوائجهم ، و قد مر على وقت بداية العمل ما يزيد عن الساعة و المكاتب خاوية على عروشها ، و لا غرو في ذلك فقد أصبح هذا التأخر معتادا و عاما ، حتى اكتسى صبغة قانونية لا يستطيع أن يجادل في مشروعيتها أحد .
في قاعات الانتظار ترى المواطنين يترقبون وصول الموظفين على أحر من الجمر ، و هم من حين لآخر ينظرون إلى هواتفهم و ساعاتهم اليدوية يعدون الدقائق و قد استبدت بهم الحيرة ، و أخذ منهم التأفف مأخذه، و لعل نظراتهم البئيسة إلى بعضهم توحي بما يختلج صدورهم من امتعاض و سخط .
الحقيقة أن هذا التأخر عن الموعد القانوني لبدء العمل
يضيع على الناس الكثير من الأمور الحياتية ، خصوصا
إذا كان الأمر يتعلق بزيارة إدارات أخرى و التي ترتبط
خدماتها بالإدارة الأولى ، فقد يقضي المواطن يومه
كاملا للحصول على الوثيقة المرغوبة ، و بفعل التأخر لا
يتأتى له زيارة الإدارة الأخرى التي تطلب تلك الوثيقة لأنها أغلقت أبوابها مع نهاية الوقت القانوني و ربما قبله أحيانا ، مما يضطر معه المواطن إن كان مسكنه بعيدا للمبيت في فندق أو عند أحد معارفه في انتظار الغد عساه يتمم الاجراءات ، و في الغد يقصد الإدارة الأخرى و يعيش نفس السيناريو الذي عاشه بالأمس ، التأخر
و التماطل ، و لا تقضى حاجته إلا متأخرا أو قد لا تقضى في ذلك اليوم نظرا لكثرة الزبناء و انشغال الموظفين بالمكالمات الخارجة عن نطاق العمل أو بالأحاديث التافهة مع الزملاء عوض الحزم و الجد ، فيتيه المواطن المسكين في هذه الدوامة بين سائر الإدارات ، سيما إن كان الأمر يستوجب زيارة العديد منها .
و مما يزيد الأمر سوءا أن أغلب المساطر معقدة ، تتعب المواطن تعبا مملا من أجل تسويتها ، إذ تثقل كاهله بعدد من الوثائق من هنا و هناك ، في حين يقضى الغرض نفسه لمواطن آخر دون أدنى صعوبة و ربما دون أن يحضر بنفسه إلى تلك الإدارة لأنه من أقارب الموظف و معارفه أو سبق أن دفع رشوة بمبلغ مفرح ،
و هذا النوع تبسط له الأمور و يسهل له الحصول على المراد ، و إن لم تكن وثائقه المدلى بها كاملة ، فالموظف بفعل تلاعباته يعرف كيف يجعل الملف كاملا مقبولا .
في حين تجد المواطن المسكين الذي لا تربطه بالموظف أي علاقة ، و لم يقدم له رشوة ، و لا يعرف أحدا من الأعيان يتوسط له عند الموظف ، يشقى و يتعب
و يكل و يمل و هو يتنقل بين الإدارات ليقضي حاجة ، كان من المفروض أن تقضى في يومها ، و هذا دليل قاطع و حجة ساطعة أن لا اعتبار للمواطن و لا قيمة له في البلدان المتخلفة ، فهي عوض أن تتدارك أخطاءها
و تلتزم بالانضباط و تقدر المواطنين لعلها ترقى بنفسها إلى مستوى الدول المتقدمة ، نراها ما زالت تتمادى في اللامبالاة و نهج الأساليب المقيتة من زبونية
و محسوبية و ارتشاء ، مما يجعل ثلة من المواطنين يستغنون عن بعض المعاملات الغير الضرورية درءا لما ينتظرهم من مشقة و تعقيدات فيما تفرضه الإدارات من مساطر ، و فيما تمارسه من تماطل .
فرفقا بهذا المواطن ، يكفيه ما يعانيه في حياته اليومية من كد و سعي في سبيل لقمة العيش ، فلا تحملوه فوق طاقته ، و عاملوه باليسر و بنوع من التقدير ، فذاك الذي
تتماطلون في قضاء أغراضه ، قد يكون فلاحا يشقى من أجل أن يوفر لكم الغذاء ، أو أستاذا يعلم أبناءكم
و لا وقت لديه مادام أبناؤكم ينتظرون عودته إلى الدرس ، أو ممرضا أو بناءا أو حارسا أو أي شخص له مهام موكولة إليه ، فقد ترك خلفه عملا و يرغب في الالتحاق به سريعا حتى لا يقع في مشكل مع مستخدمه ، فهلا يسرتم له السبل لقضاء مآربه في أسرع وقت و من غير تماطل ، فإن لم تفعلوا ، فاعلموا أنكم تدفعون به هو كذلك إن لم يكن لديه ضمير حي للاقتداء بكم ، فيتبنى التكاسل و الغش في عمله
و يعامل الناس بنفس المعاملة التي عاملتموه بها ،
و لعل هذا هو السبب الذي جعل هذه العدوى تتفشى بين الموظفين في جل الإدارات .
ختاما لقد كثر القول مؤخرا عن تقريب الإدارة من المواطنين و هو أمر محمود و مرغوب ، و لكنه غير كاف ، ما لم تيسر المساطر ، و تحترم أوقات العمل ،
و يسرع الإنجاز ، و تخفض التكاليف المادية ،
و يتساوى التعامل بين الناس من غير زبونية و لا وساطة و لا رشوة ، فإذا تحقق هذا كله -- و لا أظنه إلا مستبعدا -- ، سيشعر الناس حقا أنهم يتمتعون بحقوق المواطنة ، و أنهم سواسية في الحقوق و الواجبات ،
و سيكون ذلك التعامل بمثابة حافز مشجع لكل مواطن ليقوم بدوره على أحسن وجه ، حتى لا يكون استثناءا
و يعرض نفسه للعقوبات المنصوص عليها في القانون ،
و ذاك لعمري ما يأمله الناس جميعا في تدبير أمورهم ،
و بالتالي يكون المجتمع على السكة الصحيحة التي تبوئه المنزلة الرفيعة بين البلدان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق