خاب الظن فيك يا ...
من أغرب ما سمعت في حياتي ، قصة عجوز جمعتني به الأقدار و أنا في زيارة لإحدى القرىالنائية بالجنوب الشرقي من وطننا بل من وطنهم .
شيخ وقور مكفوف مقعد نقشت عاديات الدهر على محياه تجاعيد بارزة كأنها أخاديد شقت بإزميل من حديد مخلفة نذوبا في الوجه و جراحا في النفس ، غزا الشيب ثناياها كندف ثلج تناثرت حباتها فزادته بياضا في الوجه و أخفت دونها عتمة في القلب ، لا يشعر بمرارتها إلا أمثاله ممن خانهم الدهر و جفاهم البشر ، ماتت زوجته منذ أكثر من عشرين سنة ، و لم يتزوج غيرها لأن موانع الزواج كلها توفرت فيه من قلة ذات اليد و وهن في البدن ، كما أن الطباع التي ألفها من المرحومة لن يجد لها مثيلا في بنات حواء على حد قوله .
عجوز يعيش مع ابنته الوحيدة الأرملة في بيت جد متواضع من تراب و أخشاب ، و قد نسجت العناكب أشعة خيوطها في سقوفه و جدرانه ، و عاثت الجرذان في أركانه فسادا .
ابنته الأرملة في بداية عقدها الرابع ، نحيفة القوام شاحبة الوجه ، لم تسلم هي الأخرى من مخالب الزمان الذي أخذ منها زوجها و هي في عنفوانها و كأنه يريد منها أن تتفرغ لخدمة أبيها ، فهي كل شيء بالنسبة إليه ، إذ ليس له غيرها من الأهل و الأقارب .
كان يحدثني و كأنني شخص مقرب إليه أو كأنه يعرفني معرفة الصحاب و الخلان ، يتكلم حينا و يسكت برهة ليلتقط أنفاسه ثم يسترسل و أساريره توحي برغبته في الفضفضة و تجاذب أطراف الحديث ، وكيف لا و قد مر عليه زمن لم يحادثه أحد فهذه فرصته ليفجر مكنوناته الدفينة فربما لن تتكرر مرة أخرى ، خصوصا و قد وجد مستمعا شغوفا مثلي .
نعم كان لكلامه وقع كبير على نفسي ، و انتابني إحساس غريب امتزجت فيه رغبة الاستماع بالحزن و الأسى ، و كادت دموعي تفضحني لولا أني تمالكت نفسي ، تنهدت و أخرجت زفيرا مرا مرارة الحنظل و سألته عن مصدر رزقه ، هز رأسه ناحيتي و كأنه يراني و وضع يده على بطنه ، ثم قال بصوت خافت :
" قد لا تصدقني يا بني لو قلت لك أننا نقتات على مبلغ لا يزيد عن 340 درهما في الشهر ، تحصل عليه ابنتي كمعاش بعد وفاة زوجها الجندي في الصحراء الغربية "
تساءلت مندهشا :
" و كيف تدبران هذا المبلغ الزهيد ؟ "
" نعيش على الحد الأدنى مما هو ضروري ، كما أن ابنتي " رقية " تعمل كخادمة مساعدة لدى بعض الأسر الميسورة ، و بذلك تساعد ببعض ما تحصل عليه " .
" و أي حادث هذا الذي تعرضت له ، فأعاقك و أفقدك بصرك ؟ ".
سكت قليلا كأنه يسترجع ذكريات مريرة و إذا به يتنهد تنهيدة تنهد لها الجبال الراسيات ، و قال :
" ذكرتني يا بني بأيام شبابي و عنفوان قوتي ، فكنت أومن بأن لا قيمة لهذا الجسد القوي إذا لم يسخر في الدفاع عن حوزة الوطن ، و لا خير يرجى منه إن لم يقاوم الاستعمار الفرنسي ، فانضممت دون تردد إلى جيش التحرير و انخرطت في العمليات الفدائية ، و لا أنكر أنني قتلت ثلة من جنود الاحتلال ، لكن شاءت الأقدار أن أصاب بشظية في عيني اليمنى ، فذهب نورها ، و منذ ذلك الحين و أنا أبصر الدنيا بعين واحدة ، و أقول في نفسي ، الحمد لله أنني فقدتها قربانا لوطني ، أما عن إعاقتي ، فدائما في سبيل الوطن تهون الصعاب ، فقد كنت من بين المتطوعين في المسيرة الخضراء ، و حدث أن انقلبت الشاحنة التي كانت تقلنا عند عودتنا ، فأصيبت رجلي بكسر خفيف لم يمنعني ساعتها من المشي ، و لم أعره اهتماما فقد كنت في قمة النشوة و الحماس باسترجاع صحرائنا الى وطننا ، لكن بعد وصولي إلى بيتي هذا ، بدأ الألم في رجلي يزداد يوما بعد يوم ، فكنت ألتجئ إلى مداواتها بالأعشاب و المراهم و لكن دون جدوى ، و لم يقتصر الألم على الرجل ، فالعين التي أبصر بها ، بدأ هي الأخرى يضعف بصرها و تؤلمني ألما حادا أنساني ألم الرجل ، و استمر الحال على حاله حتى انطفأ ضوء العين ، و قطعت الرجل ... "
هنا وضع العجوز يده على عكازه و كأنه يتفقد مساعده الوفي ...و أضاف قائلا :
" اسمح لي يابني لم نقدم لك الشاي ، فابنتي رقية تعمل خارج البيت ، و ليس في مقدوري فعل شيء كما ترى "
ربتت بيدي على كتفه و أجبته مسرعا :
" لا عليك يا عم ، فقد تناولته قبل أن أجالسك بقليل ، و لا رغبة لي في شيء "
و لسان حالي يقول : كيف لنفس أن تشرب الشاي و هي تتجرع سموم ما تسمع .
مر وقت قصير من غير كلام ، و كيف أطيق الكلام و أنا أسمع الألم و أشاهده ، لكن ثمة سؤال يتبادر إلى ذهني و يلح في الخروج ، و أنا أمنعه رحمة بهذا الشيخ المقهور ، فلم أشعر إلا و أنا أسأل :
" و لماذا يا عماه لم تذهب إلى المستشفى قبل أن يستفحل الأمر ، فتعالج عينك و رجلك ؟ "
اعتدل قليلا في جلسته ، و مرر يده على عينيه و وجهه و أمسك بلحيته قليلا ثم قال :
" فعلت يا بني ، و لكن ضيق ذات اليد ، كان سببا فيما آلت إليه صحتي ، فقد زرت أطباء العيون في المستشفيات العمومية ، و قد أجمعوا على أن العدوى انتقلت إليها من العين اليمنى ، و أن الأمل كبير في إعادة البصر إليها ، فأشعر بفرحة عارمة تغمرني و لكن سرعان ما تخبو و تنطفئ عندما يطالبونني بالمصاريف الباهظة التي تتطلبها العملية ، فانسحب و أنا أجر أذيال الخيبة ، و أتساءل في قرارة نفسي : ألا يمكن لهذا الوطن الذي فقدت عيني اليمنى من أجل استقلاله أن يعالج لي عيني اليسرى مجانا ؟ ، و نفس الشيء يتكرر كلما زرت طبيبا للعظام ، يطالبني بشراء لوازم العلاج و هي كما تعلم يا بني باهظة الثمن ، فكيف لي أن أحصل على ثمنها و أنا بالكاد أحصل على قطعة خبز ، و في كل مرة يراودني السؤال نفسه : ترى ألا يمكن لهذا الوطن أن يعالج مجانا هذه الرجل التي أصيبت في سبيل استكمال الوحدة الترابية ؟ ألهذا الحد يتنكر الوطن لأبنائه الأوفياء ، الذين استرخصوا أرواحهم و أبدانهم في سبيل عزته و مجده . و هكذا يا بني لازمت بيتي و قطعت الصلة بالعالم الخارجي ، بعدما أيقنت أن الإخلاص جزاؤه النكران " .
حينها رفعت عيناي إلى صورة معلقة على الحائط ، كانت قد استرعت انتباهي منذ الوهلة الأولى ، يظهر فيها الشيخ جالسا بين شخصين بالباب الخارجي للبيت ، فدفعني فضولي للسؤال :
" من هذان الرجلان اللذان تتوسطهما يا شيخنا في الصورة أعلاه ؟ ".
لمس العجوز الحائط بيده ، و كأنه يريد مصافحتهما ، و ابتسم ابتسامة للذكرى و قال :
" كم أنت قوي الملاحظة يا بني ، هذه الصورة لها حكاية عجيبة ، تعود لخمس سنوات خلت ، حين زار هذان السائحان القرية و استرعى انتباههما جلوسي بباب بيتي ، و أنا أردد بعض ما تيسر من القرآن و الأذكار ، فجاءني مرشدهما السياحي و هو شاب مجاز من أبناء القرية العاطلين و أخبرني أن هذان الرجلان عالمان من علماء الآثار ، أحدهما فرنسي و الآخر إسباني ، و أنهما يريدان أن أمدهما ببعض المعلومات حول معلمة أثرية قديمة تتواجد بقريتنا ، و سيتولى هو نفسه الترجمة ، فوجدتها فرصة لأبدد بعض الهم و الغم و لأكسر رتابة الوحدانية و لو لبعض الوقت .
جلس الرجلان أمامي و طفقا يسألان ، فكنت أجيب عن أسئلتهما ، فشعرت بالفرح يغمرهما إذ وجدا ضالتهما فيما يبحثان فيه ، و في الأخير اقترح علي الرجل الفرنسي أن أصاحبه إلى فرنسا حيث يتولى أحد أصدقائه وهو طبيب خبير معالجة بصري ، و سيتكلف هو بكل المصاريف من ألفها إلى يائها ، حينها تدخل الباحث الاسباني متحمسا و قرر أن يساعدني هو الآخر برجل اصطناعية عند عودتي من فرنسا مرورا بإسبانيا " .
سكت العجوز برهة كأنه يتحسر على شيء فاته ، و هنا لم أطق صبرا فقلت :
" الحمد لله ، هذه فرصة ذهبية قد سنحت لك ، فماذا فعلت ؟ "
طأطأ رأسه قليلا ثم رفعه و أجاب :
" و الله لقد شعرت بالخجل يا بني ، إذ كيف أجيب الطبيب الفرنسي إذا سألني ، أليس من العيب أن أقول أنني أصبت في عيني بشظية من سلاح جنودكم و أنا أحاربكم ، أيعقل أن يعالجني من حاربته و قتلت بعض مواطنيه الفرنسيين أيام الاستعمار ، و الله لموقف صعب ، لن أستطيع تحمل أثره على نفسي ، لذلك فضلت العمى على هكذا موقف " ، ثم استرسل قائلا :
" هب يابني أنني استرجعت بصري ، فماذا سأرى غير المنكر و الفساد الذي استشرى في البلاد ، و افترض أنني أصبحت أسير على قدماي ، و خرجت لقضاء مآربي فما أظن ذلك إلا مجلبة للهلاك ، حيث المشرملون يجوبون الشوارع و الأزقة شاهرين أسلحتهم البيضاء في وجه المارة ..ألا ترى أن وضعي الحالي الذي ألزمني بيتي أفضل بكثير في الوقت الراهن " .
ساد المكان صمت رهيب ، مزقه صوت رقية ، التي دخلت البيت قبل لحظات قليلة و هي تقول :
" عجبا يا أبتاه ! وجدت الإحسان فيمن كرهته و حاربته ، و لم تجده فيمن أحببته و حاربت لأجله "
عندئذ عرفت أنها سمعت آخر كلام أبيها ، فإذا بها تقف عند باب الغرفة بقامتها الطويلة ، و استطردت قائلة :
" إخواننا المهاجرون في البلدان الغير الإسلامية ينعمون بالأمن و الأمان خارج بيوتهم و داخلها ، و نحن في بلدنا المسلم نخاف ليل نهار من المشرملين ، و الله إنها لطامة كبرى " .
قالت ذلك و انطلقت إلى حال سبيلها و هي تتمتم بكلام غير مسموع ..
عندها قررت أن أغادر البيت حتى يخلو لها الجو لتقدم لأبيها بعض الخدمات خصوصا و قد أطلت في الجلوس معه .
قمت لتوي من مكاني و قبلت رأسه و ودعته بعد أن وضعت شيئا في يده ثم انطلقت إلى حال سبيلي و عيناي تذرف دمعا ساخنا ، و في داخلي صوت يشبه صوت العجوز يلاحقني مناديا :
" ارحل ، ارحل ، فأرض الله واسعة ، واسعة ، واسعة ....."
من أغرب ما سمعت في حياتي ، قصة عجوز جمعتني به الأقدار و أنا في زيارة لإحدى القرىالنائية بالجنوب الشرقي من وطننا بل من وطنهم .
شيخ وقور مكفوف مقعد نقشت عاديات الدهر على محياه تجاعيد بارزة كأنها أخاديد شقت بإزميل من حديد مخلفة نذوبا في الوجه و جراحا في النفس ، غزا الشيب ثناياها كندف ثلج تناثرت حباتها فزادته بياضا في الوجه و أخفت دونها عتمة في القلب ، لا يشعر بمرارتها إلا أمثاله ممن خانهم الدهر و جفاهم البشر ، ماتت زوجته منذ أكثر من عشرين سنة ، و لم يتزوج غيرها لأن موانع الزواج كلها توفرت فيه من قلة ذات اليد و وهن في البدن ، كما أن الطباع التي ألفها من المرحومة لن يجد لها مثيلا في بنات حواء على حد قوله .
عجوز يعيش مع ابنته الوحيدة الأرملة في بيت جد متواضع من تراب و أخشاب ، و قد نسجت العناكب أشعة خيوطها في سقوفه و جدرانه ، و عاثت الجرذان في أركانه فسادا .
ابنته الأرملة في بداية عقدها الرابع ، نحيفة القوام شاحبة الوجه ، لم تسلم هي الأخرى من مخالب الزمان الذي أخذ منها زوجها و هي في عنفوانها و كأنه يريد منها أن تتفرغ لخدمة أبيها ، فهي كل شيء بالنسبة إليه ، إذ ليس له غيرها من الأهل و الأقارب .
كان يحدثني و كأنني شخص مقرب إليه أو كأنه يعرفني معرفة الصحاب و الخلان ، يتكلم حينا و يسكت برهة ليلتقط أنفاسه ثم يسترسل و أساريره توحي برغبته في الفضفضة و تجاذب أطراف الحديث ، وكيف لا و قد مر عليه زمن لم يحادثه أحد فهذه فرصته ليفجر مكنوناته الدفينة فربما لن تتكرر مرة أخرى ، خصوصا و قد وجد مستمعا شغوفا مثلي .
نعم كان لكلامه وقع كبير على نفسي ، و انتابني إحساس غريب امتزجت فيه رغبة الاستماع بالحزن و الأسى ، و كادت دموعي تفضحني لولا أني تمالكت نفسي ، تنهدت و أخرجت زفيرا مرا مرارة الحنظل و سألته عن مصدر رزقه ، هز رأسه ناحيتي و كأنه يراني و وضع يده على بطنه ، ثم قال بصوت خافت :
" قد لا تصدقني يا بني لو قلت لك أننا نقتات على مبلغ لا يزيد عن 340 درهما في الشهر ، تحصل عليه ابنتي كمعاش بعد وفاة زوجها الجندي في الصحراء الغربية "
تساءلت مندهشا :
" و كيف تدبران هذا المبلغ الزهيد ؟ "
" نعيش على الحد الأدنى مما هو ضروري ، كما أن ابنتي " رقية " تعمل كخادمة مساعدة لدى بعض الأسر الميسورة ، و بذلك تساعد ببعض ما تحصل عليه " .
" و أي حادث هذا الذي تعرضت له ، فأعاقك و أفقدك بصرك ؟ ".
سكت قليلا كأنه يسترجع ذكريات مريرة و إذا به يتنهد تنهيدة تنهد لها الجبال الراسيات ، و قال :
" ذكرتني يا بني بأيام شبابي و عنفوان قوتي ، فكنت أومن بأن لا قيمة لهذا الجسد القوي إذا لم يسخر في الدفاع عن حوزة الوطن ، و لا خير يرجى منه إن لم يقاوم الاستعمار الفرنسي ، فانضممت دون تردد إلى جيش التحرير و انخرطت في العمليات الفدائية ، و لا أنكر أنني قتلت ثلة من جنود الاحتلال ، لكن شاءت الأقدار أن أصاب بشظية في عيني اليمنى ، فذهب نورها ، و منذ ذلك الحين و أنا أبصر الدنيا بعين واحدة ، و أقول في نفسي ، الحمد لله أنني فقدتها قربانا لوطني ، أما عن إعاقتي ، فدائما في سبيل الوطن تهون الصعاب ، فقد كنت من بين المتطوعين في المسيرة الخضراء ، و حدث أن انقلبت الشاحنة التي كانت تقلنا عند عودتنا ، فأصيبت رجلي بكسر خفيف لم يمنعني ساعتها من المشي ، و لم أعره اهتماما فقد كنت في قمة النشوة و الحماس باسترجاع صحرائنا الى وطننا ، لكن بعد وصولي إلى بيتي هذا ، بدأ الألم في رجلي يزداد يوما بعد يوم ، فكنت ألتجئ إلى مداواتها بالأعشاب و المراهم و لكن دون جدوى ، و لم يقتصر الألم على الرجل ، فالعين التي أبصر بها ، بدأ هي الأخرى يضعف بصرها و تؤلمني ألما حادا أنساني ألم الرجل ، و استمر الحال على حاله حتى انطفأ ضوء العين ، و قطعت الرجل ... "
هنا وضع العجوز يده على عكازه و كأنه يتفقد مساعده الوفي ...و أضاف قائلا :
" اسمح لي يابني لم نقدم لك الشاي ، فابنتي رقية تعمل خارج البيت ، و ليس في مقدوري فعل شيء كما ترى "
ربتت بيدي على كتفه و أجبته مسرعا :
" لا عليك يا عم ، فقد تناولته قبل أن أجالسك بقليل ، و لا رغبة لي في شيء "
و لسان حالي يقول : كيف لنفس أن تشرب الشاي و هي تتجرع سموم ما تسمع .
مر وقت قصير من غير كلام ، و كيف أطيق الكلام و أنا أسمع الألم و أشاهده ، لكن ثمة سؤال يتبادر إلى ذهني و يلح في الخروج ، و أنا أمنعه رحمة بهذا الشيخ المقهور ، فلم أشعر إلا و أنا أسأل :
" و لماذا يا عماه لم تذهب إلى المستشفى قبل أن يستفحل الأمر ، فتعالج عينك و رجلك ؟ "
اعتدل قليلا في جلسته ، و مرر يده على عينيه و وجهه و أمسك بلحيته قليلا ثم قال :
" فعلت يا بني ، و لكن ضيق ذات اليد ، كان سببا فيما آلت إليه صحتي ، فقد زرت أطباء العيون في المستشفيات العمومية ، و قد أجمعوا على أن العدوى انتقلت إليها من العين اليمنى ، و أن الأمل كبير في إعادة البصر إليها ، فأشعر بفرحة عارمة تغمرني و لكن سرعان ما تخبو و تنطفئ عندما يطالبونني بالمصاريف الباهظة التي تتطلبها العملية ، فانسحب و أنا أجر أذيال الخيبة ، و أتساءل في قرارة نفسي : ألا يمكن لهذا الوطن الذي فقدت عيني اليمنى من أجل استقلاله أن يعالج لي عيني اليسرى مجانا ؟ ، و نفس الشيء يتكرر كلما زرت طبيبا للعظام ، يطالبني بشراء لوازم العلاج و هي كما تعلم يا بني باهظة الثمن ، فكيف لي أن أحصل على ثمنها و أنا بالكاد أحصل على قطعة خبز ، و في كل مرة يراودني السؤال نفسه : ترى ألا يمكن لهذا الوطن أن يعالج مجانا هذه الرجل التي أصيبت في سبيل استكمال الوحدة الترابية ؟ ألهذا الحد يتنكر الوطن لأبنائه الأوفياء ، الذين استرخصوا أرواحهم و أبدانهم في سبيل عزته و مجده . و هكذا يا بني لازمت بيتي و قطعت الصلة بالعالم الخارجي ، بعدما أيقنت أن الإخلاص جزاؤه النكران " .
حينها رفعت عيناي إلى صورة معلقة على الحائط ، كانت قد استرعت انتباهي منذ الوهلة الأولى ، يظهر فيها الشيخ جالسا بين شخصين بالباب الخارجي للبيت ، فدفعني فضولي للسؤال :
" من هذان الرجلان اللذان تتوسطهما يا شيخنا في الصورة أعلاه ؟ ".
لمس العجوز الحائط بيده ، و كأنه يريد مصافحتهما ، و ابتسم ابتسامة للذكرى و قال :
" كم أنت قوي الملاحظة يا بني ، هذه الصورة لها حكاية عجيبة ، تعود لخمس سنوات خلت ، حين زار هذان السائحان القرية و استرعى انتباههما جلوسي بباب بيتي ، و أنا أردد بعض ما تيسر من القرآن و الأذكار ، فجاءني مرشدهما السياحي و هو شاب مجاز من أبناء القرية العاطلين و أخبرني أن هذان الرجلان عالمان من علماء الآثار ، أحدهما فرنسي و الآخر إسباني ، و أنهما يريدان أن أمدهما ببعض المعلومات حول معلمة أثرية قديمة تتواجد بقريتنا ، و سيتولى هو نفسه الترجمة ، فوجدتها فرصة لأبدد بعض الهم و الغم و لأكسر رتابة الوحدانية و لو لبعض الوقت .
جلس الرجلان أمامي و طفقا يسألان ، فكنت أجيب عن أسئلتهما ، فشعرت بالفرح يغمرهما إذ وجدا ضالتهما فيما يبحثان فيه ، و في الأخير اقترح علي الرجل الفرنسي أن أصاحبه إلى فرنسا حيث يتولى أحد أصدقائه وهو طبيب خبير معالجة بصري ، و سيتكلف هو بكل المصاريف من ألفها إلى يائها ، حينها تدخل الباحث الاسباني متحمسا و قرر أن يساعدني هو الآخر برجل اصطناعية عند عودتي من فرنسا مرورا بإسبانيا " .
سكت العجوز برهة كأنه يتحسر على شيء فاته ، و هنا لم أطق صبرا فقلت :
" الحمد لله ، هذه فرصة ذهبية قد سنحت لك ، فماذا فعلت ؟ "
طأطأ رأسه قليلا ثم رفعه و أجاب :
" و الله لقد شعرت بالخجل يا بني ، إذ كيف أجيب الطبيب الفرنسي إذا سألني ، أليس من العيب أن أقول أنني أصبت في عيني بشظية من سلاح جنودكم و أنا أحاربكم ، أيعقل أن يعالجني من حاربته و قتلت بعض مواطنيه الفرنسيين أيام الاستعمار ، و الله لموقف صعب ، لن أستطيع تحمل أثره على نفسي ، لذلك فضلت العمى على هكذا موقف " ، ثم استرسل قائلا :
" هب يابني أنني استرجعت بصري ، فماذا سأرى غير المنكر و الفساد الذي استشرى في البلاد ، و افترض أنني أصبحت أسير على قدماي ، و خرجت لقضاء مآربي فما أظن ذلك إلا مجلبة للهلاك ، حيث المشرملون يجوبون الشوارع و الأزقة شاهرين أسلحتهم البيضاء في وجه المارة ..ألا ترى أن وضعي الحالي الذي ألزمني بيتي أفضل بكثير في الوقت الراهن " .
ساد المكان صمت رهيب ، مزقه صوت رقية ، التي دخلت البيت قبل لحظات قليلة و هي تقول :
" عجبا يا أبتاه ! وجدت الإحسان فيمن كرهته و حاربته ، و لم تجده فيمن أحببته و حاربت لأجله "
عندئذ عرفت أنها سمعت آخر كلام أبيها ، فإذا بها تقف عند باب الغرفة بقامتها الطويلة ، و استطردت قائلة :
" إخواننا المهاجرون في البلدان الغير الإسلامية ينعمون بالأمن و الأمان خارج بيوتهم و داخلها ، و نحن في بلدنا المسلم نخاف ليل نهار من المشرملين ، و الله إنها لطامة كبرى " .
قالت ذلك و انطلقت إلى حال سبيلها و هي تتمتم بكلام غير مسموع ..
عندها قررت أن أغادر البيت حتى يخلو لها الجو لتقدم لأبيها بعض الخدمات خصوصا و قد أطلت في الجلوس معه .
قمت لتوي من مكاني و قبلت رأسه و ودعته بعد أن وضعت شيئا في يده ثم انطلقت إلى حال سبيلي و عيناي تذرف دمعا ساخنا ، و في داخلي صوت يشبه صوت العجوز يلاحقني مناديا :
" ارحل ، ارحل ، فأرض الله واسعة ، واسعة ، واسعة ....."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق