🌲كادح موهوب🌲

****  كادح موهوب  ****

ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي التقيت فيه برجل ، ما رأيت فيمن صادفتهم من الرجال شبيها له في الأفكار ، و في طريقة فهمه و تحليله للأمور ، تخاله أحيانا فيلسوفا و أحيانا أخرى يبدو لك كالأحمق ، و لكنه حقا حكيم في كلتا الحالتين .
رجل في أواخر عقده الخامس  قد نيف على الستين ، له عربة ذات عجلتين يجرها أو يدفعها بيديه ، يحمل عليها متاع الناس و بضائعهم إلى حيث يريدون مقابل أجر غير محدد ، يجوب شوارع البلدة و أسواقها ساعيا في طلب الرزق الحلال ، تراه يترنم و يغني بصوت مهموس ، وهو يبتسم في وجوه المارين و لا يتوقف عن الغناء إلا  ليلقي التحية على أحدهم ممن يمازحونه .
استوقفته يوما و طلبت منه أن ينقل بعض أغراضي إلى البيت ، فأومأ برأسه موافقا إذ كان يردد أغنية " يا أسفا عليك " لمجموعة جيل جيلالة .
و نحن في طريقنا إلى البيت ، لا أنكر أنني استمتعت بأغانيه التي كان يؤديها بصوت جميل جدا ، و التي تنم عن رقي و سلامة  ذوقه ، و فجأة أوقف دفع عربته ، و انتصب يستجمع قوته ثم شخص ببصره نحوي و قال :
  "  أتعرف من هم السعداء منا الذين أحبهم الله و رضي عنهم ؟ "
أجبت عن سؤاله ، لكنه لم يستحسن جوابي و لم يقتنع به .
فأجاب و هو يزهو بنفسه و كأنه يعلمني ما لم أعلم :
  "  السعداء منا هم أولئك الذين هاجروا هذه البلاد نحو بلدان أخرى حيث الكرامة و الديمقراطية الحقيقية ".
ثم سألني مرة أخرى :
  "  أتعرف من هم المحظوظون منا ؟ "
أجبت بالنفي ، لأنني أعرف مسبقا أنه لن يقتنع بجوابي .
قال :
  "  المحظوظون منا هم أولئك الذين أصابهم العقم و لم يرزقهم الله ذرية في هذه البلاد "
ثم استرسل في دفع العربة ، سائلا :
  "  أتعرف من هم التعساء ؟ "
  " هم أولئك الذين ينجبون ذريتهم في هذه البلاد"
 " أتعرف من هم المغفلون في الدنيا ، الخاسرون في الآخرة ؟"
 " هم أولئك الذين يستنزفون خيرات البلاد ، و يستغلون العباد ".
  " أتعرف من هم الجهلاء ؟ "
  " هم أولئك الذين يؤمنون بالشعوذة ، و يتمسحون بالأضرحة و يزورون الأولياء ، و كأن الله أخبرهم بولاية و صلاح أولئك الموتى ، و الغريب في الأمر أن هناك من له مصلحة في ذلك فيشجعهم على الشرك الأكبر ".
 " أتعرف من هم المثقفون ؟ ".
 " هم أولئك الذين لا يعيشون طويلا ، تفنيهم الحسرات و تخنقهم الغصات على مآل البلاد و العباد " .
لم يسكت الرجل إلا و نحن بباب البيت ، أخذت أغراضي و ناولته أجرته ، و أضفت له علاوة عنها قليلا من المال ، و لسان حالي يقول ، ترى هل وفيته حقه لما أسداه إلي ، فقد حمل عني أغراضي و أطربني بغنائه و أفادني بفلسفته .
 شكرته و ودعته ، فانطلق الرجل على عادته يغني بصوت مسموع :
 " يا حبيبي كل شيء بقضاء
  ما بأيدينا خلقنا تعساء
  ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم
  بعدما عز اللقاء
  فأذا أنكر خل خله
  و تلاقينا لقاء الغرباء
  و مضى كل إلى غايته
  لا تقل شئنا فإن الحظ شاء "

                                الكاتب : زايد وهنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق