💼 عمي عسو 💼
كان الفصل صيفا ، و الحرارة جد مرتفعة خصوصا في منطقة الجنوب الشرقي حيث المناخ القاري الذي يلفح المنطقة برياح الشرقي الحارة الآتية من جنوب الصحراء عبر حمادة كير ( guir )
و قد اعتاد السكان على هذه الحرارة المفرطة
و تعايشوا معها ، و لكن أن يتزامن شهر رمضان المبارك مع هذه الظروف القاسية فهو أمر يحسب له الأهالي ألف حساب و يهيئون أنفسهم ماديا
و معنويا لتحمل مشاق الصوم ، إذ تشتد وطأة العطش على الناس ، فتراهم ينتظرون آذان المغرب أكثر من انتظارهم لأي شيء آخر ليطفئوا وقدة الظمإ . فما أن يحين وقت صلاة المغرب حتى ترى الناس شبابا و شيابا و قد اجتمعوا بالقرب من المسجد يحمل كل منهم قنينة ماء
و قليلا من التمر ، و الكل يقلب نظره بين ساعته
و بين قنينة الماء التي في حضنه يتلمسها ليستشعر برودة مائها و كيف لا و هي أغلى ما يملك في تلك اللحظة .
حدث مرة أن جلست كباقي الجيران أنتظر موعد الآذان ، و قد انزويت بنفسي في مكان ظليل ،
فإذا بعمي عسو الرجل العجوز الوقور يسير نحوي متثاقل الخطى مستندا على عكازه ، يكابد أتعاب
الشيخوخة و العياء اللذان لم يتركا لديه طاقة للصوم في هذه الظروف الصعبة لولا قوة إيمانه
و مكابرته و صبره اللذان تعود عليهما طيلة حياته .
بادرني بالتحية و اتخذ مكانا بالقرب مني ، وضع
عكازه عن يساره و قنينة الماء عن يمينه ، و هو
يقول : " و جعلنا من الماء كل شيء حي " ،
أومأت له برأسي و أنا أقول : " صدق الله العظيم "
عندئذ سألته السؤال المتداول بين الأهالي :
" كيف حالك مع غلة العطش ؟ "
أجابني و هو يلملم أطرافه :
" لقد مرت علينا سنوات مثل هذه و أكثر ، و كنا في ريعان شبابنا نعمل أعمالا شاقة و لا نبالي فاكتسبنا قوة التحمل و الصبر ، و لكن الهرم أخذ منا قوتنا فلم نعد نقوى على الصوم إلا بمشقة الأنفس رغم أننا لا نعمل .
تحسست قنينة عمي عسو فشعرت بدفء ما تحمله من ماء ، فقلت له رأفة به :
" إن الماء الذي تحمله معك ليس بالبرودة المرغوبة التي تطفئ العطش ، افرغ ما بها من ماء
و سأمدك بماء بارد ".
نظر إلي و قال دون أن يفعل :
"ما تطلق الماء حتى الماء وبعد الماء حتى تذوقو"
طفقت أنظر إليه محاولا أن أفهم لغز كلامه هذا ،
لاحظ دهشتي فأردف قائلا :
" لقد ذكرتني بحادثة وقعت لي في شبابي أيام الاستعمار و ما زلت أذكرها الى يومنا هذا ، فقد كنت أعمل عند النصارى في منجم يبعد عن قريتنا هذه بحوالي ستين كيلومترا ، قضيت ثلاث سنوات من العمل الدؤوب الشاق بهذا المنجم بأجر زهيد و استطعت بحسن تدبيري أن أجمع قدرا من المال ، فقررت أن أزور أهلي و أمدهم بما يسد الرمق و لو لمدة قصيرة ، فالفقر مستشري بين الناس في ذلك العهد و قليل من يكسب قوت يومه على بساطته ، و لم تكن آنذاك وسائل نقل ، بل كان الناس يسافرون مشيا على الأقدام و المحظوظ منهم من يملك بغلا أو حمارا يركبه أثناء السفر .
جمعت أمتعتي و دسست النقود في ثيابي
و انطلقت أطوي المسافات ليلا حيث الطقس معتدلا عساني أقطع مسافة طويلة قبل أن ترسل الشمس أشعتها الصيفية اللافحة ، و ليس معي من الزاد إلا القليل من الخبز و قنينة أفرغت ما تبقى فيها من الزيت و ملأتها ماء لأروي بها عطشي ،
كان الوقت ضحى و أنا في منتصف الطريق تقريبا
أتصبب عرقا ، أخرجت قنينة الماء من الجراب
و هممت بالشرب فإذا الماء ساخن و قد اختلط
بمخلفات الزيت في قعر القنينة مما كرهني في شربه ، فأهرقت ما بها من ماء أرضا وقلت في نفسي صبرا إذ لم يعد يفصلني عن منبع للماء إلا مسافة قليلة و هو عبارة عن عين نبعت في مكان وطيئ من الأرض فنمت حولها بعض الأشجار
و الأحراش، فأصبحت منتجعا صغيرا يؤمه المسافرون يرتوون من مائه و يستريحون في ظله ، أسرعت الخطى و أنا أمني النفس بشربة باردة تطفئ لظى الشمس و تنعش الروح و الجسد لمواصلة المسير ، و ما كدت أصل المكان حتى صدمت إذ وجدت النبع قد نضبت مياهه و يبس النبات المحيط به و لم يبق فيه أثر للحياة ، و أنا في أشد الحاجة للماء ، فقدأخذ مني العطش مأخذه ، فندمت أشد الندم على الماء الذي فرطت فيه ، ليتني لم أفعل ، و ما يجدي الأسى ، عقدت العزم على مواصلة المسير و وطأت نفسي على الصبر حتى يجعل الله من أمره يسرا ، و لكن اشتد الأمر علي فكانت كل خطوة أخطوها كأنني أتقدم نحو حتفي ، أتذكر أهلي و ما أحمل لهم من نقود هم في أمس الحاجة إليها فتكبر في الرجولة
و فرحة اللقاء فأسرع الخطى و كأن شيئا خفيا يطاردني ، التقطت قطعة حجر صغيرة وضعتها في فمي حتى لا يجف حلقي ، و لم أعد أشعر بموطئ قدماي من شدة التعب ، أيقنت أنني هالك لا محالة ، فرفعت بصري نحو السماء أتضرع لله أن يتداركني بلطفه ، و فجأة بدت تلوح لي معالم خيمة ، فهرولت صوبها و لم أكد أقف على مدخلها حتى سقطت أرضا ، فشعرت بقطرات ماء بارد تنساب إلى حلقي و بدأت الحياة تسري في جسمي من جديد ، فتحت عيناي ببطء شديد فرأيت صاحب الخباء يحمل قرابا و قد جلس القرفصاء واضعا رأسي على فخده و يسقيني الماء بقدر قليل ، استرجعت بعض قواي ، فأدخلني إلى داخل الخيمة و ناولني قدحا صغيرا من الماء ، شربته
و أنا أطلب المزيدو لكن الرجل كان ذكيا إذ كان يناولني الماء جرعة جرعة حتى لا أصاب بأذى ، ثم أحضر قليلا من الحليب فشربته هو الآخر ، عندئذ طلب مني أن أستريح لبعض الوقت ، و بعدها وضع قراب الماء بجانبي و كأن لسان حاله يقول ، اشرب قدر ما تشاء فلا خوف عليك الآن ، انقضضت على القراب و أخذت أشرب حتى ارتويت ، و هو جالس يرقبني بعين الشفقة حينا
و الحذر أحيانا أخرى .
بعد أن ردت علي روحي و استرجعت بعض قوتي
شكرته على حسن صنيعه و كرم ضيافته ، و أردت أن أبدد حيرته و أطلعه على أمري ، فحكيت له قصتي و كيف أهرقت الماء الذي كان معي آملا أن أصل إلى المنبع و أتزود منه بما يكفيني من الماء ، غير أنني لم أجد ماء بالمنبع ، فواصلت السير مجازفا بحياتي .
تبسم الرجل و قال :
" ألا تعلم يا رجل أن أجدادنا الأولين تركوا لنا قولا مأثورا بالعامية لو عملت به لنجوت "
قلت : " و ما هو جزاك الله خيرا ؟ "
أجابني و قد بدا مطمئنا متحمسا للحديث :
قالوا :
"ما تطلق الماء حتى الماء و بعد الماء حتى تذوقو"
أي لا تفرط فيما معك من الماء القديم الذي تحمله حتى تكون بجانب الماء الجديد الذي تريد التزود منه ، و قبل أن تهرق الأول تذوق الثاني ، فربما يكون طعم الثاني غير صالح بتاتا للشرب ، فتكون قد احتفظت لنفسك بالأول لأنك لم تفرط فيه .
ما أن أتم عمي عسو كلامه حتى أذن المؤذن ،
فعجلنا الفطور بالتمر و الماء و هرولنا نحو المسجد
لإقامة الصلاة ، و أنا أردد هذا القول المأثور .
مرت على هذا الحدث سنة كاملة و جاء فصل الصيف و جاء فيه رمضان مرة أخرى و جاء الناس قرب المسجد كالعادة ينتظرون الآذان و جئت أنا كذلك ، غير أن عمي عسو لم يعد حاضرا بيننا فقد وافاه الأجل قبل أن يدرك رمضان ، لكن قوله ظل حاضرا يرن في أذني ، فأخذت أردد :
" ما تطلق الماء حتى الماء وبعد الماء حتى تذوقو"
💼 بقلم زايد وهنا 💼