عندما تفقد الثقة

 🦂  عندما تفقد الثقة  🦂   


          أصبح الإنسان اليوم يعيش في حيرة من أمره ، فالكل يهفو إلى حياة سعيدة و لكنه لا يدري أي السبل يسلك و أي الآراء يصدق في عصر كثرت فيه الفتن و الأوبئة 

و المتناقضات ، مثله في ذلك كمثل شخص مسافر في فلاة ليس معه من الزاد و الماء إلا القليل ، و هو يأمل أن يكون الزاد على قدر الطريق ، و بينما هو كذلك إذ وجد نفسه في ملتقى طرق عديدة و لا يعرف أي هذه الطرق مختصر 

و سالك و آمن حتى يسلكه ليصل إلى وجهته المرغوبة ، 

و في مقدمة كل طريق لوحة  كتبت عليها إرشادات 

و معلومات عن مواصفات ذلك الطريق .

تفحص لوحة الطريق الأول فإذا هي مكتوب عليها :

" طريق صحراوي طويل جدا ، مسالكه وعرة ، لا ماء فيه ، سالكه هالك لا محالة من العطش و الجوع مهما تزود له ".

انتقل ببصره إلى لوحة الطريق الثانية و قرأ :

" هذا طريق مختصر و لكنه غير آمن ، إذ به قطاع الطرق يعترضون سبيل كل مسافر ، يسلبونه متاعه و يقتلونه ، 

ما نجا من سلكه ".

نظر إلى لوحة الطريق الثالث ، و فيها :

" طريق مختصر ، به ماء و به أجمات تعيش فيها 

حيوانات ضارية ، لا تترك الفرصة لعابر إلا و جعلته

فريسة لها ".

ابتلع ريقه و اتجه صوب لوحة الطريق الرابع ، و الأمل يحدوه  عسى أن يكون  أكثر اختصارا و آمانا من سابقيه ، فقرأ :

" طريق آمن ، و لكن مسالكه متشعبة عبارة عن متاهات تضلل سالكها ، فيختفي إلى الأبد ، و في أحسن الأحوال  يجد نفسه في آخر المطاف قد عاد لنقطة الصفر ، أي بداية الطريق ".

بقي الطريق الخامس و هو الأخير ، نظر إلى اللوحة ، 

و استبشر خيرا إذ ما كتب عليها كله خير لا يبعث على الخوف و القلق ، فقرر أن يسلكه متوكلا على الله ، و ما أن خطا بعض الخطوات حتى رأى رجلا أغبر راجعا في الاتجاه المعاكس و هو يلهث و قد أخذ منه التعب كل قواه ، و هو يقول :

" عد أدراجك أيها الرجل ، فقد خدعت قبلك بلوحة هذا الطريق ، و ما كدت أقطع نصف ميل حتى أراني من الأهوال ما لا يخطر على بال ، لا تصدق ما كتب على هذه اللوحات ، معلوماتها تنطوي على الأكاذيب و المغالطات ، فهي تضلل الناس حتى لا يهتدوا إلى الطريق الصحيح "

جلس الإثنين في ملتقى هذه الطرق المشؤومة و كلاهما على حذر من الآخر .

قال الرجل العائد من الأهوال للمسافر الحيران المتردد  بعد أن استراح و استرجع أنفاسه :

" أتعرف يا هذا أن كل هذه اللوحات كاذبة مضللة ، 

لا يدري المسافر أيها يصدق ، كالمريض الذي يكشف عنه الأطباء و يختلفون في تشخيص علته فتستبد به الحيرة أيهم على حق " .

استطرد العائد من الأهوال قائلا :

" سأخبرك عن تأويل هذا كله ، فأما هذه الفلاة فهي

الدنيا و أما الطريق فهو العمر و أما أهوالها فهي المشاكل اليومية و أما الزاد فهو الرزق كما قسمه رب العباد و أما اللوحات فهي وسائل الإعلام ، التي جعلت الناس حيارى أي الأخبار يصدقون و أي الآراء يتبعون و لا أدل على ذلك مما يروج حول التلقيح من كورونا ، البعض يراه حلا ناجعا 

و البعض يحذر من مخاطره و تدعياته  ، فبأي معيار نعرف صدقهم من كذبهم ، و وفاءهم من غدرهم ، و هذا ما جعل عيشنا اليوم بين حيرة و تردد و تعاسة .

         أظنك الآن عرفت سبب حيرتنا و تعاستنا في عصر 

تطور فيه كل شيء إلا الثقة و المصداقية فقد افتقدهما في كل شيء ، و هما أثمن ما في الوجود  !!! " .


                      💼  بقلم    زايد  وهنا  💼

رجال لا تقهر

                     ⛏   رجال لا تقهر  ⛏


        بينما أنا أستعد للنوم ، سمعت إشارة وصول بريد على الواتساب ، فتحت الهاتف ، فإذا هي رسالة من أحد أعز الناس إلي و أجلهم قدرا في نفسي ، و كانت الرسالة عبارة عن صور لضيعة فلاحية ظننتها للوهلة الأولى أنها لأحد السهول المغربية الفيحاء ، و لكن فوجئت عندما علمت أن هذه الضيعة في بلدتي في منطقة لا يخطر على بال أحد أنها ستكون بهذا الخصب و بهذا المحصول الوفير الطبيعي الخال من كل الملوثات ،

لأنني أعرف أن أرضها صلبة و ماؤها غائر .

        هذه الضيعة في أرض تدعى " تلكي " لا تبعد كثيرا عن قرية بني وزيم ببوذنيب بإقليم الرشيدية ، و نظرا لموقعها في منطقة وعرة كثيرة الأحجار ، و كذا بعدها عن مجاري النبع الذي يروي حقول الناس في المزرعة كما يسميها الأهالي ، فإن الأسلاف لم يفكروا في استغلالها بل اكتفوا بما تعطيه المزرعة من منتوجات معاشية تكاد لا تكفيهم لسد حاجياتهم مما يضطرون معه للتزود من الأسواق المجاورة ، و رغم ذلك لم يحاولوا استغلال هذه الأراضي لأن إمكاناتهم قديما كانت بسيطة فهم حينها لا يملكون الآليات الحديثة لتطويعها و حفر آبارها التي تزيد عن ستين مترا .

        مع مرور الزمن ازداد عدد سكان القرية ،

و لم يعد منتوج حقولهم التي تسقى من مياه النبع يكفي لسد الحاجيات مما دفع شباب القرية للتفكير في استغلال تلك الأراضي الوعرة على غرار ما فعله بعض المستثمرين ، خصوصا و قد تطورت وسائل العمل و الإنتاج ، و لو في مساحات أقل شساعة من المساحات التي يستغلها المستثمرون 

حسب إمكاناتهم و مؤهلاتهم ، و لكن في الحقيقة 

استطاعوا أن يحققوا ما عجز عنه الأباء 

و الأجداد .

 و هذا نموذج من ضيعة يمتلكها أبناء المرحوم " عبد الرحمن حمي " ، هم خمسة رجال من خيرة شباب القرية سلوكا و معاملة ، لا يعرف الوهن 

و الخمول إلى نفوسهم و سواعدهم سبيلا .

فرغم إمكاناتهم البسيطة و صعوبة العمل في أرض  صلبة كثيرة الأحجار ، إلا أن همة و عزيمة هؤلاء الفتية ألانت صلابتها و جعلتها أرضا معطاء ، تسحر الناظر بمنظرها و خضرتها قبل أن يتذوق محصولها ، و إني و إن كنت من أبناء المنطقة فقد أعجبت كثيرا لمنظرها و دقة تناسق مزروعاتها 

و كأنها لوحة أبدعتها ريشة فنان و هذا الفنان

ليس سوى الإخوة الخمسة -- حفظهم الله -- الذين 

لم يكتفوا بما هو معاشي بل صيروه تسويقي نظرا

لوفرة المنتوج .

        نعم لقد كانت أرضا صلبة و لكن وجدت من هم أصلب منها ، يسقونها بعرق جباههم و تشبعهم من خيراتها . فلمثل هؤلاء ترفع القبعات و تقبل الأيدي  . رعيا لهؤلاء و لأمثالهم الذين يسعون لتدليل العقبات بكدهم و جدهم ليوفروا لنا ما نقتات به .


          🌴 صور علق عليها :   زايد وهنا 🌴

إلى متى ؟

 إلى متى ؟

أتساءل مع نفسي أحيانا ، ماذا حقق الكتاب بكتاباتهم و الشعراء بقصائدهم و المغنون بأغانيهم و التشكيليون بكريكاتوراتهم و الدعويون بخطبهم بل حتى الجماهير بتظاهراتهم في كل شعوب العالم المتخلفة التي تعاني من الفقر و الحروب 

و التبعية للدول العظمى التي فرضت هيمنتها و طغيانها على هؤلاء المستضعفين ؟

منذ زمن بعيد و شعوب العالم المغلوب على أمرها تعبر عن آمالها للخروج من دائرة التخلف بما ملكت يدها من فنون الكتابة النثرية و الشعرية و الخطب التي تدعو بالويل 

و الثبور و الدمار لتلك القوى الطاغية و لكن لا شيء تحقق من ذلك بل ازدادت المسافة بعدا ، و الهوة اتساعا فهم ازدادوا قوة و تقدما و نحن ازددنا ضعفا و تخلفا .

إذن ألم يان لهذه الشعوب المتخلفة أن تستوعب أن هذه الوسائل لم و لا و لن تجدي نفعا أمام التقدم العلمي و النمو الاقتصادي و الغلبة العسكرية ، فلماذا لا تحاول أن تغير نهجها و عوض الوقوف على الأطلال و التفاخر بالأمجاد البائدة و التباكي على الحاضر المقرف أن تستفيق و تعلم علم اليقين أن العالم اليوم لا يؤمن إلا بالقوة و أن البقاء للأقوى و أن العيش الرغيد لا تضمنه إلا الهيمنة الاقتصادية في جميع المجالات الصناعية و الفلاحية و التجارية ، التي تتنافسها اليوم الأمم المتقدمة في السوق العالمية .

قد يسأل سائل و ما السبيل إلى ذلك ؟ 

الجواب على هذا السؤال قد يبدو للبعض مستحيلا خصوصا و أننا تعودنا على هذا الاستسلام و هذا الخضوع و لكن في حقيقة الأمر لا شيء مستحيل إذا توفرت الإرادة 

و النية الصادقة لدى الشعوب و أنظمتها على حد سواء .

نعم قد يتطلب ذلك ردحا من الزمن و لكن في آخر الأمر ستصل إلى المبتغى .

لعل أول ركيزة أساسية ترفع شأن الأمم هي التعليم ، لهذا ينبغي بل يجب إلزاما إعادة النظر في مناهجه و برامجه و وضع خطة مدروسة العواقب لتتخرج منه أطر ذات كفاءات عالية في شتى العلوم التي يتطلبها العصر و أن تشجع البحوث العلمية ليكون لدينا مخترعون و خبراء باحثون في مجال الطب و الهندسة و سائر العلوم التكنولوجية و الميكانيكية فنبتكر و نصنع و نشيد و ننافس الآخرين ، حينها قد نصدر أكثر مما نستورد ، و قد حبا الله شعوبنا بالمواد الخام من معادن و غاز و نفط و منتوجات غذائية و غيرها مما يتهافت عليه الغرب و يستعمله في صناعاته التي يستأسد بها علينا .

و هذا لن يتأتى إلا بعقد العزم على استئصال الفساد من جميع القطاعات و القطع معه 

و مع التفاهة و التافهين و ضمان العيش الكريم للمواطنين بتوفير فرص الشغل و الضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسه أن يشيع الفساد أو يمس بأمن المواطنين ، لأن الأمن و الأمان و الاطمئنان في الحياة يبعث على التفاني في العمل و الإخلاص فيه ، و يذكي روح الابتكار و الابداع .

باختصار هذه أحلام يقظة تاه في سديمها الخيال فلن تعدو أن تكون إلا مقالا من مثل تلك المقالات التي نجترها كلما نظرنا إلى حالنا . 


الحرباء

                          ⚫  الحرباء  ⚫


            عرت الريح رداء كنت دونه أتخفى

            فتكشف الذي كنت أخشى أن يعرف 

            لبست من الذل ثوبا و دنست الشرف

            فتراني دست العزة و تجرعت الأسف


            لبست من الشماتة ما لا يستر سوأتي

            و سقيت من الخيانة ما لا يمحو زلتي

            و وصمت وصمة المهانة على ناصيتي

            فلا حصنت ملتي ولا انحزت لعروبتي


ألست أنا بالأمس من ساند و دعم و انتفض و قال لا للحصار؟

فكيف أرضى أن أكون عبدا ذليلا في يد نخاس غاصب للديار

يمسك زمامي يسوقني حيث يشاء و يساوم عروبتي بالدولار

بؤسا لي و بؤسا لصفقة  قايضت فيها المروءة و النخوة بالعار


            لا أنا استترت بصمتي و وطنت نفسي

            و لا أنا اليوم عند الحق ناصرت قدسي

            كيف أجرأ إذا جاء النصر أن أرفع رأسي

            بئس القرار المخزي و تبا له من كرسي


            لا أدري أألوم الريح أم نفسي في خذلانها

            أم ألوم النخاس الصهيوني الذي راودها ؟

            و الحق ألوم نفسي التي تنكرت لقوميتها

            فالحرة تموت جوعا و لا تأكل من ثديها


عمي بيهي " برهو "

              🌒  عمي بيهي " برهو "  🌘


  " برهو " هو اللقب الذي يميز عمي " بيهي " عمن يحملون نفس الإسم ، إذ أن اسم " بيهي " هو اختزال لإبراهيم و هو اسم شائع بين الكثير من أهالي القرية خصوصا الأمازيغ ، لهذا كانوا قديما يعمدون إلى الألقاب للتمييز بين هذا و ذاك ، فكان لقب " برهو " من نصيب عمي ابراهيم الذي ولد يتيما و عاش أعزبا و مات أعزبا ، رحمة الله عليه .

    لقد عرف هذا الرجل العصامي بذكائه الحاد 

و قوة ذاكرته و سرعة حفظه لما يسمع و بتنوع المعارف و الأشعار التي استقاها من تجواله و كثرة أسفاره بين المغرب و الجزائر إذ كان يتميز  بلباقة تسهل اندماجه و انسجامه مع الغرباء الذين سرعان ما يستميل قلوبهم إليه بفطنته و كياسته و حسن معاشرته، و مما زاد من غنى معارفه هو إصراره الدائم على مجالسة الفقهاء و المثقفين والزجالين ، فكان أينما حل و ارتحل يستقي أنواع المعرفة ، مما شكل لديه خليطا من المعارف خصوصا التاريخية منها و الفنية و الأقوال المأثورة ، على تباين بيئاتها و اختلاف ألسن أهلها ،

عموما كان بمثابة مكتبة تمشي على رجليها .

كما أنه كان يكسب قوت يومه من أي عمل كان ، 

مما أكسبه خبرة في كثير من الحرف و الصنائع ،

و ما تنطوي عليه من أسرار ، و كان يقنع بالقليل

مما يكسب لأنه لا يعول إلا نفسه إذ كان وحيدا أعزبا مجردا من أي مسؤولية ، و لعل هذا ما 

شجعه على التجوال و حب الاستطلاع .

        كان أبي رحمه الله يحدثني عنه كثيرا 

و يذكر أمامي بعض الحكم و الطرائف التي سمعها عن عمي " برهو " الذي لا يزور البلدة إلا نادرا ،

و كان خلال زيارته الخاطفة حريصا أشد الحرص على زيارتنا في بيتنا إذ كانت تربطه بوالدي علاقة

صداقة منذ طفولتهما ، كما كان يجد لدى والدي

التجاوب الذي يرغب فيه ، و كأن أحدهما يكمل الآخر .

 في إحدى هذه الزيارات القليلة ، حاولت أن أقف شخصيا على ما يحكى عنه من سعة معرفته ،

فحاولت أن أتقرب منه و أستدرجه للحديث ،

و لكن قبل ذلك طلبت من أهل بيتي أن يحضروا

وجبة العشاء ، و أنا أشترط عليهم أن يكون فيه كذا و كذا ، فإذا به يلتفت نحوي قائلا باللسان العامي :

  " ما تاكل حتى تاكل عسل أزير "

 " و ما تنعس حتى تفرش الحرير " 

صمتت برهة ، ثم قلت متعالما كما لو أنني أدركت سر كلامه :

  " كيف أبقى دون أكل حتى أجد العسل ، فإن لم أجده ، أموت جوعا "

  " و كيف لا أنام حتى أفترش الحرير ، فإن لم أجد فراشا من حرير أبقى صاحيا طول الوقت "

إذذاك ضحك الإثنان من غبائي ، فتدخل والدي 

و بين المقصود من هذا المثل قائلا :

  " يا بني يريد أن يقول ، لا تأكل حتى تشعر بالجوع الشديد ، فعندها ستأكل كل ما يقدم لك بنهم و تلذذ و كأنه عسل أزير بالنسبة إليك في تلك الحالة ، أما قوله عن فراش الحرير ، فيعني بكلامه

لا تذهب لتنام حتى تشعر بثقل النعاس من جراء التعب ، و حينها ستشعر بالراحة و تغط في نوم

عميق و كأنك افترشت الحرير  ، أفهمت الآن المغزى من القول ؟ " .

عندئذ قلت في نفسي صدق من قال :

  " للي فاتك بليلة ، فاتك بحيلة "

نحن تعلمنا في المدرسة العلوم النظرية ، و لم نخضعها لتجارب الحياة و هؤلاء تعلموا في مدرسة الحياة العلوم التطبيقية المرتبطة بالمعيش اليومي ، و حللوا في مختبرها كل صنوف التجارب ، فأخذوا منها ما يفيد و تركوا ما لا يفيد .


            💼  من ذكريات   زايد وهنا  💼


  



الأخ لا يعوض " بو عمران "

 



          🍀 الأخ لا يعوض  " بو عمران " 🍀


جلس الحكيم الأسطوري " بو عمران " يوما إلى ابنه يعظه ، عله يورثه  بعضا من فطنته و ذكائه،

فكان الابن في كل مرة يسأل أباه و هو في قرارة نفسه يأمل أن يعجزه ، و لكن لم يجد لذلك سبيلا ،

مما يجعله دائما يستسلم و قد تيقن أنه لن يستطيع أن يجاري أباه في الحكمة ، و رغم ذلك 

ما زال مصرا على التحدي ، فإذا به يسأل أباه مرة أخرى أسئلة يستعصى حلها على غير الحكماء .

قال لأبيه و الكلام هنا باللسان العامي ، و سنبين

المقصود من هذا الكلام ليتضح للقارئ المغزى من

هذه الحكم :

     الابن :   " ابيض من آش ؟ "

     الأب :   " من الثلج ف الاحراش "

     الابن :   " اكحل من آش ؟ "

     الأب :   " من البارود ف الابخاش "

     الابن :   " احلى من آش ؟ "

     الأب :   " من الصبيان ف الفراش "

     الابن :   " حر من آش ؟ "

     الأب :   " من لخوت ف النعاش "


 يقصد الابن بسؤاله ما هو أكثر شيء بياضا في الدنيا ؟

فيجيب الأب أنه ليس هناك شيء أكثر بياضا من

الثلج الكثيف عندما يغطي الأحراش و هي النباتات القصيرة التي تنمو من تلقاء نفسها .

أما أسود شيء على الإطلاق فهو مسحوق البارود

الذي يضعه المحاربون في الجراب .

و قوله أحلى شيء في الدنيا ، يجيب بو عمران

أن لا شيء أحلى و أكثر سعادة و بهجة من رؤية الصبيان و هم يمرحون في الفراش أمام والديهم .

أما سؤال الابن عن أحر شيء و أكثر حزنا ، فيقول

الأب أن أحر شيء على النفس هو موت الإخوة ،

لأن كل شيء يعوض إلا الأخ ، لذلك فموته لها مرارة و حزن لا يطاقان .

سر الابن بفطنة والده و سرعة بديهته و حسن جوابه ، و هرول نحو أمه يحدثها بما سمع من

والده و هو في غاية الفرح و السرور .


                  🌷  بقلم    زايد وهنا  🌷

 





عظ نفسك

                💼  عظ نفسك  💼


        ربما حدث يوما أن ساقتك الظروف لتجلس لوحدك في مقهى لم ترتده من قبل في حي لا تعرف فيه أحدا ، إذن من  الطبيعي في مثل هذا الموقف أن تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي في هاتفك المحمول ، فإن لم تجد بها ما يشدك و لن تجده إلا نادرا ، فقد تسرح بخيالك حيث يطيب له التأمل ، و تطلق العنان لبصرك تقلبه فيما يتوالى أمامك من مشاهد الحركة الدائبة التي يعج بها الشارع ، بل أحيانا تجعل من نفسك طرفا تحاوره متى رأيت ما يثير فضولك من هذه المشاهد  ، 

و دون أن تشعر تجعل من نفسك حكما و تنصب ضميرك محاسبا ، يحاسب الناس على تصرفاتهم ، فتثني في نفسك على من أحسن صنعا ، و تنقم على من أساء تصرفا و تشفق على من قاست عليه الحياة ، فتتمنى لو كان بمقدورك أن تهنئ الأول 

و تقتص من الثاني و تقدم يد العون للثالث ، 

و لكن ما دمت غير قادر على فعل ذلك ، فعينك بصيرة و يدك قصيرة ، لأنك أنت أيضا واحد من تلك المشاهد المتناقضة ، فربما و دون أن تعلم هناك من ينظر إليك نظرة كالتي تنظر بها للآخرين و قد يصدر في حقك أحكاما كالتي تصدرها على الآخرين  .

إذن إذا كان الأمر كذلك فحاول أن تنتبه لعيوبك 

و نقائصك فتصلح منها ما استطعت ، حتى لا تلفت انتباه الآخرين إليك ، فيشمئزون من تصرفك كما تشمئز أنت من تصرفاتهم .


    💼  تأملات في الواقع بقلم زايد وهنا  💼




عمي عسو

               💼   عمي عسو  💼

   

   كان الفصل صيفا ، و الحرارة جد مرتفعة خصوصا في منطقة الجنوب الشرقي حيث المناخ القاري الذي يلفح المنطقة برياح الشرقي الحارة الآتية من جنوب الصحراء عبر حمادة كير ( guir )

و قد اعتاد السكان على هذه الحرارة المفرطة 

و تعايشوا معها ، و لكن أن يتزامن شهر رمضان المبارك مع هذه الظروف القاسية فهو أمر يحسب له الأهالي ألف حساب و يهيئون أنفسهم ماديا 

و معنويا لتحمل مشاق الصوم ،   إذ تشتد وطأة العطش على الناس ، فتراهم ينتظرون آذان المغرب أكثر من انتظارهم لأي شيء آخر ليطفئوا وقدة الظمإ . فما أن يحين وقت صلاة المغرب حتى ترى الناس شبابا و شيابا و قد اجتمعوا بالقرب من المسجد يحمل كل منهم قنينة ماء 

و قليلا من التمر ، و الكل يقلب نظره بين ساعته 

و بين قنينة الماء التي في حضنه يتلمسها ليستشعر برودة مائها و كيف لا و هي أغلى ما يملك في تلك اللحظة .

حدث مرة أن جلست كباقي الجيران أنتظر موعد الآذان ، و قد انزويت بنفسي في مكان ظليل ، 

فإذا بعمي عسو الرجل العجوز الوقور يسير نحوي متثاقل الخطى مستندا على عكازه ، يكابد أتعاب

الشيخوخة و العياء اللذان لم يتركا لديه طاقة للصوم في هذه الظروف الصعبة لولا قوة إيمانه 

و مكابرته و صبره اللذان تعود عليهما طيلة حياته .

بادرني بالتحية و اتخذ مكانا بالقرب مني ، وضع

عكازه عن يساره و قنينة الماء عن يمينه ، و هو 

يقول : " و جعلنا من الماء كل شيء حي " ، 

أومأت له برأسي و أنا أقول : " صدق الله العظيم "

عندئذ سألته السؤال المتداول بين الأهالي :

" كيف حالك مع غلة العطش ؟ " 

أجابني و هو يلملم أطرافه :

" لقد مرت علينا سنوات مثل هذه و أكثر ، و كنا في ريعان شبابنا نعمل أعمالا شاقة و لا نبالي  فاكتسبنا قوة التحمل و الصبر ، و لكن الهرم أخذ منا قوتنا فلم نعد نقوى على الصوم إلا بمشقة الأنفس رغم أننا لا نعمل .

تحسست قنينة عمي عسو فشعرت بدفء ما تحمله من ماء ، فقلت له رأفة به :

 " إن الماء الذي تحمله معك ليس بالبرودة المرغوبة التي تطفئ العطش ، افرغ ما بها من ماء 

و سأمدك بماء بارد ".

نظر إلي و قال دون أن يفعل :

 "ما تطلق الماء حتى الماء وبعد الماء حتى تذوقو"

طفقت أنظر إليه محاولا أن أفهم لغز كلامه هذا ،

لاحظ دهشتي فأردف قائلا :

" لقد ذكرتني بحادثة وقعت لي في شبابي أيام الاستعمار و ما زلت أذكرها الى يومنا هذا ، فقد كنت أعمل عند النصارى في منجم  يبعد عن قريتنا هذه بحوالي ستين كيلومترا ، قضيت  ثلاث سنوات من العمل الدؤوب الشاق بهذا المنجم بأجر زهيد و استطعت بحسن تدبيري أن أجمع قدرا من المال ،  فقررت أن أزور أهلي و أمدهم بما يسد الرمق و لو لمدة قصيرة ، فالفقر مستشري بين الناس في ذلك العهد و قليل من يكسب قوت يومه على بساطته ، و لم تكن آنذاك وسائل نقل ، بل كان الناس يسافرون مشيا على الأقدام و المحظوظ منهم من يملك بغلا أو حمارا يركبه أثناء السفر .

جمعت أمتعتي و دسست النقود في ثيابي 

و انطلقت أطوي المسافات ليلا حيث الطقس معتدلا عساني أقطع مسافة طويلة قبل أن ترسل الشمس أشعتها الصيفية اللافحة ، و ليس معي من الزاد إلا القليل من الخبز و قنينة أفرغت ما تبقى فيها من الزيت و ملأتها ماء لأروي بها عطشي ،

كان الوقت ضحى و أنا في منتصف الطريق تقريبا

أتصبب عرقا ، أخرجت قنينة الماء من الجراب 

و هممت بالشرب فإذا الماء ساخن و قد اختلط

بمخلفات الزيت في قعر القنينة  مما كرهني في شربه ، فأهرقت ما بها من ماء أرضا وقلت في نفسي صبرا إذ لم يعد يفصلني عن منبع للماء إلا مسافة قليلة و هو عبارة عن عين نبعت في مكان وطيئ من الأرض فنمت حولها بعض الأشجار 

و الأحراش، فأصبحت منتجعا صغيرا يؤمه المسافرون يرتوون من مائه و يستريحون في ظله ، أسرعت الخطى و أنا أمني النفس بشربة باردة تطفئ لظى الشمس و تنعش الروح و الجسد لمواصلة المسير ، و ما كدت أصل المكان حتى صدمت إذ وجدت النبع قد نضبت مياهه و يبس النبات المحيط به و لم يبق فيه أثر للحياة ، و أنا في أشد الحاجة للماء ، فقدأخذ مني العطش مأخذه ، فندمت أشد الندم على الماء الذي فرطت فيه ، ليتني لم أفعل ، و ما يجدي الأسى ، عقدت العزم على مواصلة المسير و وطأت نفسي على الصبر حتى يجعل الله من أمره يسرا ، و لكن اشتد الأمر علي فكانت كل خطوة أخطوها كأنني أتقدم نحو حتفي ، أتذكر أهلي و ما أحمل لهم من نقود هم في أمس الحاجة إليها فتكبر في الرجولة 

و فرحة اللقاء فأسرع الخطى و كأن شيئا خفيا يطاردني ، التقطت قطعة حجر صغيرة وضعتها في فمي حتى لا يجف حلقي ، و لم أعد أشعر بموطئ قدماي من شدة التعب ، أيقنت أنني هالك لا محالة ، فرفعت بصري نحو السماء أتضرع لله أن يتداركني بلطفه ، و فجأة بدت تلوح لي معالم خيمة ، فهرولت صوبها و لم أكد أقف على مدخلها حتى سقطت أرضا ، فشعرت بقطرات ماء بارد تنساب إلى حلقي و بدأت الحياة تسري في جسمي من جديد ، فتحت عيناي ببطء شديد فرأيت صاحب الخباء يحمل قرابا و قد جلس القرفصاء واضعا رأسي على فخده و يسقيني الماء بقدر قليل ، استرجعت بعض قواي ، فأدخلني إلى داخل الخيمة و ناولني قدحا صغيرا من الماء ، شربته 

و أنا أطلب المزيدو لكن الرجل كان ذكيا إذ كان يناولني الماء جرعة جرعة حتى لا أصاب بأذى ، ثم أحضر قليلا من الحليب فشربته هو الآخر ، عندئذ طلب مني أن أستريح لبعض الوقت ، و بعدها وضع قراب الماء بجانبي و كأن لسان حاله يقول ، اشرب قدر ما تشاء فلا خوف عليك الآن ، انقضضت على القراب و أخذت أشرب حتى ارتويت ، و هو جالس يرقبني بعين الشفقة حينا 

و الحذر أحيانا أخرى .

بعد أن ردت علي روحي و استرجعت بعض قوتي

شكرته على حسن صنيعه و كرم ضيافته ، و أردت  أن أبدد حيرته و أطلعه على أمري ،  فحكيت له قصتي و كيف أهرقت الماء الذي كان معي آملا أن أصل إلى المنبع و أتزود منه بما يكفيني من الماء ، غير أنني لم أجد ماء بالمنبع ، فواصلت السير مجازفا بحياتي .

تبسم الرجل و قال : 

" ألا تعلم يا رجل أن أجدادنا الأولين تركوا لنا قولا مأثورا بالعامية لو عملت به لنجوت "

قلت  : " و ما هو جزاك الله خيرا ؟ " 

أجابني و قد بدا مطمئنا متحمسا للحديث :

  قالوا : 

"ما تطلق الماء حتى الماء و بعد الماء حتى تذوقو"

أي لا تفرط فيما معك من الماء القديم الذي تحمله حتى تكون بجانب الماء الجديد الذي تريد التزود منه ، و قبل أن تهرق الأول تذوق الثاني ، فربما يكون طعم الثاني غير صالح بتاتا للشرب ، فتكون قد احتفظت لنفسك بالأول لأنك لم تفرط فيه .

ما أن أتم عمي عسو كلامه حتى أذن المؤذن ، 

فعجلنا الفطور بالتمر و الماء و هرولنا نحو المسجد

لإقامة الصلاة ، و أنا أردد هذا القول المأثور .

مرت على هذا الحدث سنة كاملة و جاء فصل الصيف و جاء فيه رمضان مرة أخرى و جاء الناس قرب المسجد كالعادة ينتظرون الآذان و جئت أنا كذلك ، غير أن عمي عسو لم يعد حاضرا بيننا فقد وافاه الأجل قبل أن يدرك رمضان ، لكن قوله ظل حاضرا يرن في أذني ، فأخذت أردد :

" ما تطلق الماء حتى الماء وبعد الماء حتى تذوقو"


             💼   بقلم  زايد وهنا  💼



 

    





  


 

بو عمران

                        🐫   بو عمران  🐫


يروق لي أحيانا أن أجالس كبار السن و أسمع منهم 

فطالما وجدت في حديثهم حكما مستوحاة من تجارب عاشوها هم أنفسهم أو نقلوها عمن سبقهم ، و من جملة ما حكى لي أحدهم رحمة الله عليه قصة طريفة تحمل في ثناياها عبرة ذات معنى عميق .

ذلك أنه في زمن مضى كان يعيش في قرية ريفية رجل حكيم يدعى " بو عمران " ، و قد حدث يوما أن اعترض سبيله أحد قطاع الطرق يريد قتله 

ليظفر براحلته و ما تحمل ، لكن " بو عمران " نال من اللص قبل أن ينال منه فأرداه قتيلا و تركه غنيمة للضواري .

بدأ إخوة القتيل و كانوا أربعة يبحثون عن قاتل أخيهم و قد حامت شكوكهم حول " بو عمران "

لأنهم وجدوا بالقرب من جثة أخيهم أثر خف 

ناقة ، و هم يعلمون أنه لا أحد يملك ناقة في قريتهم غير الحكيم " بو عمران " و هو ما أكد شكوكهم أنه القاتل ، فعقدوا العزم على الأخذ بالثأر منه و قتله في مكان منعزل كما فعل بأخيهم . 

منذ ذلك الحين و هم يترصدون تحركاته 

و يتتبعون أخبار تنقلاته دون أن يشعر بهم أحد ،

و بعد أيام قليلة بلغ إلى علمهم أن " بو عمران "

سيصحب معه ابنه في زيارة صديق له  بإحدى القرى المجاورة ، فوجدوها فرصة للقضاء عليه 

و على ابنه دون أن يعلم بذلك أحد .

ذهب الإخوة الأربعة قبله و كمنوا له في غابة كثيفة في منتصف الطريق ، ليس بها ممر سالك إلا الذي هم مختبئون به ، و الذي لا بد لكل مسافر أن يسلكه ، و ما كاد النهار ينتصف حتى سمعوا صوتا

يقترب منهم ، فاستعدوا للانقضاض على 

" بو عمران " و ابنه ، و بينما هم يتحينون الفرصة 

سمعوا الابن يسأل أباه و قد توقفا عن المسير ، قائلا :

 " يا أبت أنت تعلم أننا في هذا المكان لوحدنا ، فأخبرني بحقيقة الأمر ، فهل أنت فعلا من قتل ذلك الرجل ؟ "

أجابه والده قائلا :

" تعلم يا بني أني لا أخفي عليك سرا ، و كما قلت نحن الآن لوحدنا وسط هذه الأدغال ،فأنا بريء من دم ذلك الرجل ، و ليس لدي سبب لقتله ، و ليست ناقتي هي الوحيدة ، ففي القرى المجاورة نوق كثيرة ، فربما قتله أحد قطاع الطرق من قبيلة أخرى ، هذه هي الحقيقة و لا شيء سواها "

عندئذ تريث الإخوة الكامنون بعدما سمعوا هذا الكلام ، و انتظروا حتى ابتعد عنهم " بو عمران "

و ابنه ، فقال كبيرهم :

" أسمعتم ، فهذا الرجل بريء ، فلو كان هو من قتل أخانا لأقر بذلك لإبنه حين سأله ، لأنهما ظنا أن لا أحد يسمعهما في هذا المكان الآمن في نظرهما ،

إذن فلنعد أدراجنا و لنبحث عن قاتل أخينا في القرى المجاورة ، أما " بو عمران " فلم تعد لنا حاجة به ما دام قد اعترف بالحقيقة ".

واصل " بو عمران " و ابنه المسير ، فلما خرج من الغابة ، توغلا في صحراء شاسعة قاحلة لا نبات فيها ، و لم تعد تظهر لهما معالم الغابة ، هناك أناخ 

" بو عمران "  خطام ناقته فربضت على قوائمها ،  و طلب من ابنه أن يترجل عنها متدرعا بأخذ قليل من الراحة ، فما أن ترجل الابن و وقف أمام أبيه حتى بادره هذا الأخير بصفعة أليمة على خذه  قائلا :

" لقد قتلتنا بغبائك أيها الأبله ، حين سألتني 

و نحن نشق طريقنا وسط الغابة عمن قتل ذلك الرجل ، هب أيها الأحمق أن أحدهم أو كلهم كانوا مختبئين بين الأشجار ، و كنت أغبى منك و بحت لك بالحقيقة ، و قلت لك أنني أنا القاتل ، حينها سيعرفون حقيقة الأمر و تتأكد لديهم الشكوك ، فينقضون علينا و يقتلوننا ، اسمع و ع ما أقول لك 

و اجعل كلامي نصب عينيك ما حييت ، إن للغابة آذان و للخلاء كالذي نحن فيه عيون ، فلا تبوح بأسرارك في الغابة و لا في أي مكان لا يمتد إليه بصرك ، أما الخلاء و الأرض المستوية فلا تبوح بسرك إلا بعد أن تقلب بصرك في كل الاتجاهات فإن لم تر أحدا فقل ما شئت ، أما الآن و نحن في هذا الخلاء المنبسط الفسيح و حيث لا يسمعنا أحد ، فأنا الذي قتلته دفاعا عن نفسي و راحلتي "

و هكذا سار هذا المثل :

" للغابة آذان و للخلاء عيون "

 من الأمثال المتداولة بين الناس تتناقله الأجيال ، فهل يا ترى ستعمل به أم أنك تعتبره من أساطير الأولين التي لا فائدة منها ، أما أنا فقد أعجبتني الحكاية و أعجبتني العبرة منها و أعجبني حاكيها .


                     💼   بقلم زايد وهنا   💼


عندما تفقد الحياة لذة العيش

       🕯 عندما تفقد الحياة لذة العيش 🕯


لا تلومن أحدا على ما قد يكون العذر في مثله حتى تعلم ما اعتذاره ، و لا تعاتبه إذا ما شكا إليك يأسه و قنوطه ، فمن يدريك لعله يعيش ظروفا نفسية صعبة و يعاني من ضغوطات و مشاكل داخلية ، لا يشعر بها إلا من اكتوى بنارها ، 

و لو افترضنا أنك اطلعت عليها لالتمست له ألف

عذر .

لقد أضحت الكآبة عملة رائجة في زمننا هذا ، 

و استحوذ الغم و الهم على سائر شرائح المجتمع

لا يستثنى منهما غني و لا فقير و لا قوي و لا ضعيف و لا مثقف و لا جاهل و لا شاب و لا عجوز ، غير أن حدتهما تزداد لدى شريحة المثقفين الحقيقيين لأن هؤلاء هم أكثر الناس فهما و إدراكا لما يجري من حولهم ، و الغريب في الأمر أن هؤلاء لا يشتكون العوز و ضنك العيش بالقدر الذي يشتكي منه الآخرون ما دام أغلبهم يزاول وظيفة يعول بها نفسه و أسرته بل أحيانا عائلته ، و رغم أن لهم رواتب تسد ضروريات الحياة ، فهم أكثر حزنا و كمدا ممن لا يتقاضون شيئا ، و السبب واضح يرجع إلى ثقافاتهم و حمولاتهم الفكرية 

و فهمهم العميق لمجريات الأمور ، و لا تستغرب فقد تنبأ بذلك الشاعر المتنبي حين قال :

       ذو العلم يشقى في النعيم بعقله

                      و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم

إذن فسبب كآبة الفئة المثقفة لا يرجع أساسا لخصاص في العيش ، فهم و إن كانوا لا يرغدون في الترف كالأغنياء ، فلا يشكون نقصا في الضروريات إلا ما زاد عنها بسبب مرض أو متطلبات الأبناء في دراساتهم الجامعية ، و لكن رغم هذا و ذاك فهؤلاء لا تطمئن جنوبهم في المضاجع و لا يجدون للعيش لذة لأن ضمائرهم تعذبهم و هم يرون الفقراء و المساكين و الأرامل 

و الأيتام و ذوي الاحتياجات الخاصة و المعاقين ذهنيا يعانون في صمت و لا أحد يهتم لمعاناتهم 

أو يهب لنجدتهم و انتشالهم من الفقر و الألم ، 

و يرون الإجرام و العنف يتفاقم يوما بعد يوم يذهب ضحيته الصالحون و يكرم المجرمون في السجون ، مما جعل الجميع لا يشعرون بالأمن على أنفسهم و أبنائهم ، كما أن الفساد الذي استشرى في جميع القطاعات ألقى بظلال اليأس و الحسرة وكدر صفو العيش بالنسبة لكل غيور يطمح أن يرى مجتمعه راقيا سعيدا يسوده العدل و المساواة ، مجتمع يمجد الفضيلة و ينبذ الرذيلة ، مجتمع يشجع العلم و العلماء و يفتح أمامهم آفاق البحث ، مجتمع يزكي الفنون الراقية و يغلق الأبواب أمام التفاهة و التافهين . 

إذن فغياب هذه الأماني و الآمال هو ما بث الكآبة في نفوس الناس ، و الأدهى عندما يشعر الشباب بهذا الشعور الكئيب و هم في مرحلة عمرية تتميز

بالنشاط و الحيوية و الإقبال على مباهج الحياة ،

فعندما تجد هذه الشريحة قد استحوذ عليها التشاؤم ، فاعلم أن القطار على غير سكته الصحيحة السليمة .

كثيرا ما يجمعك الحديث بأناس من مختلف الأعمار و الوظائف ، و هم يؤكدون أن الحياة فقدت الذوق و غاب عنها الإحساس بالإطمئنان 

و ليس فيها ما يغري بالعيش .

باختصار لا أظن أن من اسودت الدنيا في عينيه

يمكنه أن ينتج و يبتكر و يتقدم ، لأن الرقي يكون

 بالتفاؤل و الرضى و الاحساس بالأمن والإطمئنان.


    💼  تأملات في الواقع بقلم  زايد وهنا 💼