من أغرب القصص
1995
لعلك عزيزي القارئ و أنت تطالع أحداث هذه القصة تلمس فيها استغرابا يجعلك في ريبة من واقعيتها ، و ربما قد لا تصدق ما جاء فيها ، و من حقك ذلك ، فأنا نفسي الذي أنقلها إليك استغربت وقائعها ، و لولا أنني استمعت إليها من شخصين في زمنين و مكانين مختلفين لظننتها ضربا من الخيال الذي يستحيل أن يحدث في الواقع ، و من باب الصدف أن قصصتها على أحدهم فأثبت لي أنها حدثت فعلا
و قد سبق له هو أيضا أن سمع أحدهم يحكيها في أحد المجالس ، إلى هذا الحد لم يبق أمامي سوى أن أصدقها ،
و أنا أؤمن بأنها قد تكون آية من آيات الله سبحانه و تعالى في خلقه ، فهو جل في علاه فعال لما يريد و لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء .
بعدما عرفت تفاصيل الحكاية ، قررت أن أكتبها بأسلوبي الخاص الذي يجمع بين السرد و الإخبار من غير زيادة أو نقصان في مضمونها اللهم ما كان من محسنات الأسلوب القصصي التي أضفيت عليها ليستمتع القارئ بأحداثها الغريبة ، كما أن أسماء شخصيات الحكاية مستعارة و ليست حقيقية إلا ما جاء منها من باب الصدف .
ليس من الغريب في شهر يوليوز أن يلجأ سكان مدينة مراكش إلى المناطق الجبلية المجاورة هروبا من الحرارة المفرطة التي لا يطيق أهل المدينة على لفحها صبرا، و لعل أقرب مكان في مقدور أغلب الناس التوجه إليه هو منطقة أوريكا بجبالها الشامخة و أوديتها الدافقة و طبيعتها الخلابة ، فهي الملاذ الذي يقصده الناس و السياح في مثل هذا الوقت الحار للاستمتاع بأجوائها المعتدلة و هوائها النقي المنعش على طول الوادي المتدفقة مياهه ، بعيدا عن صخب المدينة و حرارتها الحارقة ، فالمكان ظليل ، هواؤه منعش و في ذلك ما يزيد الطبيعة رونقا وجمالا .
و لكن حدث ذات عشية من شهر يوليوز من سنة 1995 على غير العادة و غير المتوقع أن تلاحقت السحب بالسماء فوق جبال الأطلس القريبة من أوريكا إلى أن أصبحت دكناء من شدة تكاثفها و دوى رعد ملأ هزيمه الدنيا و رددت أصداءه الجبال ، و في لمح البصر انطلقت العاصفة من عقالها تبرق
و ترعد و تهاطل مطر غزير جارف لم تشهد المنطقة مثيلا له خصوصا في هذا الوقت من فصل الصيف .
تجمعت المياه الطوفانية في الوادي و قد غذته المسيلات المنحدرة بقوة جارفة عبر سفوح الجبال ، مما جعله يمتلئ عن آخره ، بل ارتفع منسوبه بشكل مخيف ، زاد من شدة هيجانه ضيق حوضه المحصور بين الجبال ، فانطلق يزمجر جارفا كل ما يعترض طريقه من أشجار و أحجار ،
و المصطافون في غفلة مما يجري ما دام الطقس شبه صحو في أماكن تواجدهم ، و ليس بالمنطقة آنذاك وسائل الإنذار الموجودة حاليا ، كما أن انسياب الماء بتلك السرعة المفرطة لم يترك وقتا لسكان المداشر القريبة من تحذير المصطافين ،
و كيف لهم أن ينبهوا الناس و هم أنفسهم قد بلغ بهم الذعر مبلغه ، مما جعلهم يهرعون إلى الجبال محتمين بأعاليها .
و ما هي إلا ثوان قليلة حتى فوجئ المصطافون بالمياه تتقاذفهم ، جارفة السيارات و بنايات المقاهي و أثاثها التي على ضفتي الوادي و كأنها دمى تطفو حينا و تغور حينا ،
و ارتفع الصراخ و العويل ، و الكل يستنجد ، و فقد الاتصال بين أفراد العوائل و صار كل فرد يبحث عن سبيل للنجاة بنفسه ، و قلبه ينفطر خوفا على من كان برفقتهم خصوصا إن كانت له صلة رحم بهم كالوالدين أو الإخوة أو الزوجة
و الأبناء ، و لكن بطش الطوفان لا يتأثر بمشاعر الناس، و لا تأخذه رأفة أو شفقة ، كأنه وحش ضاري متعطش للفتك ، لا يستثني في ذلك كبيرا أو صغيرا ، و هكذا لم ينج من فكيه إلا قلة قليلة من الذين لم يحن آجالهم بعد ، و الذين شاء القدر أن يتواجدوا في تلك اللحظة في الأماكن العالية من سفوح الجبال .
من بين هؤلاء مهاجر مغربي اسمه إبراهيم ، كان يلتقط صورا في أعلى الجبل و يستمتع بمناظر الطبيعة ، تاركا زوجته خديجة و ابنته الوحيدة سلمى التي تبلغ من العمر أربع سنوات جالستين على ضفة الوادي ، فما أن رأى الفاجعة حتى انطلق يعدو و يتدحرج عبر سفح الجبل غير مبال بما يلحقه من أذى ، عله يدرك زوجته و ابنته في المكان الذي تركهما جالستين فيه ، و لكن المياه سبقته و غمرت ضفتي الوادي
و لم يعد يظهر من أماكن جلوس الناس شيئا ، و هرع مذعورا يجري ذهابا و إيابا على سفح الجبل بمحاداة المياه المتلاطمة و ينادي اسم زوجته بأعلى صوته ، و الناجون من حوله في هرج و مرج يبحثون عن ذويهم و هم يصرخون و يولولون ،
و بينما صاحبنا كذلك رأى طفلا صغيرا لم يبلغ بعد سنته الخامسة و قد تمسك بجدع شجرة و هو يصرخ و يستغيث ، فتحركت فيه مشاعر الأبوة و دوافع الإنسانية ، فتقدم نحوه متمهلا ، و بعد لأي انتشله و حضنه إليه و الطفل يرتجف خوفا و بللا ، حمل الطفل بين يديه ثم تابع بحثه و بوادر
اليأس بدأت تكتنفه و لكن الأمل في إيجادهم ظل يساوره ،
و بينما هو كذلك بدت له من بعيد امرأة بنفس لباس زوجته
و هي تصرخ صراخا حادا ،توجه نحوها مسرعا فإذا هي زوجته ، ارتمى عليها يعانقها و يهدئ من روعها و بصره يجول فيما حولهما بحثا عن ابنته ، و لكن لا أثر يدل على وجودها ، ترك الطفل الغريب في أحضان زوجته بعد أن صعد بهما إلى مكان آمن ، و انطلق هو من جديد يبحث عن ابنته و الأمل يحدوه في العثور عليها لتكتمل فرحته .
سار الرجل و مجرى الماء ، ينادي ابنته باسمها ، و لا شيء يرد سوى صدى الجبال و هدير المياه .
عاد إلى زوجته خاوي الوفاض ، لاحظت هذه الأخيرة ملامح اليأس تعلو قسمات وجهه ، فارتمت في أحضانه تبكي بكاء مريرا ينفطر له الشجر و الحجر و هو لا يكف يهدئ من روعها و يبعث الأمل في نفس زوجته و يمني النفس بالعثور على ابنته سلمى .
أمسك بيده اليمنى يد زوجته و باليسرى يد الطفل الغريب
و هو يأمل أن يصادف من يبحث عن هذا الطفل و لكن لا أثر لأحد من أفراد أسرته .
اقترب حلول الليل ، طأطأ رأسه يفكر برهة ، و رأى غير بعيد بعض البيوت في أعلى سفح الجبل فقصدها طالبا من أهلها الإستضافة ، فاستضافوهم و كيف لا و هم أهل كرم في الرخاء فما بالك بهؤلاء الذين ساقهم القدر المحتوم إليهم .
أحسنوا ضيافتهم و قضوا الليل يواسونهم على أمل أن يتابعوا البحث في اليوم الموالي عساهم يعثروا على ابنتهم ، أو يجدوا من يبحث عن الطفل الغريب ، و ما أن لاح ضوء النهار ، و قبل أن ترسل الشمس أول شعاع لها ، عادوا جميعا إلى المكان المنكوب و معهم بعض أفراد الأسرة التي استضافتهم ، و شرعوا في البحث كغيرهم من الذين فقدوا أفراد أسرهم ، انخفض منسوب الماء في الوادي مما مكن الناس و السلطات المحلية و الوقاية المدنية و الاسعاف
و الدرك من ملاحظة مخلفات الدمار الذي أحدثته عاصفة الأمس ، الجثث في كل مكان على طول مجرى النهر ، هذا غير تلك التي جرفتها المياه إلى أماكن بعيدة ، السيارات محطمة و قد طمرها الوحل و الحجارة ، منظر مخيف تقشعر له الأبدان ، و هو أولا و أخيرا أمر الله و لا راد لقضائه .
وقف الرجل المهاجر و زوجته و قد يئسا من العثور على ابنتهما ، كما يئسا من العثور على أحد أفراد أسرة الطفل الغريب الذي أخبرهما أن اسمه زكرياء ، و أنه كان بالأمس مع والديه و أخته ، و قد رأى المياه تجرفهم بعيدا ، و هذا ما أكد للرجل و زوجته أن أسرته لقت مصرعها غرقا .
الغريب في الأمر أن هذا الطفل الصغير زكرياء قد تشبت بهذا الرجل و زوجته و كأنهما والديه ، و ارتاح لصحبتهما مما خفف عنه وطأة فقدان أهله ، و هو نفس شعورهما أيضا ، لقد عوضا به و بصحبته معهما بعضا من ألم فقدان ابنتهما ، خصوصا
و أن زكرياء طفل وديع ، تظهر عليه ملامح الذكاء ، و مما زاد في تعلقهما به هو انصياعه لأوامرهما ، و مجاراتهما فيما يقرران .
أخبر الرجل رجال الدرك عن هذا الطفل الذي أصبح بين عشية و ضحاها وحيدا ، فطلب منه رجال الدرك الاحتفاظ بالطفل لبعض الأيام ، حتى تتم الاجراءات القانونية و الانسانية ، من انتشال الجثث و إحصاء الخسائر ، و تهدأ الأمور قليلا .
استلطف الرجل هذا الاقتراح و رجع صحبة زوجته و زكرياء إلى بيته بمراكش في انتظار أن تنتشل الجثث و تودع في مستودع الأموات بمراكش ،حينها يمكنه أن يجد جثة ابنته سلمى و يقوم بدفنها بيديه راضيا بقضاء الله و قدره .
مرت أيام عل الحدث المريع ، و وجدت الزوجة في زكرياء بعض العوض و عاملته كابن لها ، أفرغت عليه من حبها المفقود ، و تعلقت به ، كما تعلق هو بها فأصبح يناديها أمي مما زاد من عطفها و حنانها عليه .
لقد كانت كارثة عظمى و فاجعة محزنة بكل المقاييس ، فهناك أسر فقدت بعض أفرادها ، و أسر لقي كل أفرادها حتفهم ، منهم من انتشلت جثثهم و منهم من طمرته الأوحال ، و منهم من حمله السيل بعيدا و لم يعثر لهم على أثر .
انتشر الخبر في سائر البلاد و عم الحزن و الأسى جميع الناس ، و لم يعد الحديث في مجالس الناس في تلك الأيام إلا عن هذه الفاجعة .
أودعت الجثث المنتشلة في مستودع الأموات بالمدينة الحمراء ، و جاء الناس لاستلام جثامين موتاهم لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة و القيام بمراسيم الدفن ، و هي اللحظة التي كان ينتظرها المهاجر المغربي يحدوه الأمل في إيجاد جثة ابنته و راح يقلب بصره في جثث الأطفال المعروضة في جناح خاص ، و الحزن يعتصر قلبه ، و هو يرى جثث الصبيان الأبرياء ، فأدرفت عيناه دمعا ساخنا لكن مع الأسف الشديد خاب ظنه إذ لم تكن جثة ابنته بينهم ، انزوى إلى أحد الأركان و أرخى الزمام لدموعه حتى احمرت عيناه من البكاء ،
و إلى جانبه زكرياء الذي اصطحبه معه عساه يصادف أحدا من أهله ، و لكن لا هذا و لا ذاك .
غادر المستشفى و قد أيقن أن ابنته جرفها السيل إلى مكان بعيد لم يصله البحث و لا يمكن أن يصله ، أو ربما طمرتها الأوحال و الصخور عميقا في الأرض ، استسلم للأمر الواقع
و فوض أمره إلى الله بقلب راض و عرف أن مشيئة الله تنفذ في خلقه و لا معقب لحكمه سبحانه و تعالى .
أخذ بيد الطفل زكرياء ، و توجه لا يلوي على شيء إلى مركز الشرطة ، و قص على الضابط كل الأحداث التي مرت به ،
و الجهود التي بذلها لإيجاد أهل الطفل الذي أنقذه من موت محقق ، فكر الضابط مليا بعد أن سجل في محضر كل المعلومات التي أدلى بها الرجل ، و استشار رؤساءه في أمر هذه النازلة ، و أوحى للرجل باقتراحين هو مخير في الأخذ بأحدهما .
أما أولهما فهو إيداع الطفل في ملجأ الأيتام بالمدينة نفسها ، و ثانيهما أن يحتفظ بالطفل و يقوم بالإجراءات القانونية حيث يتقدم إلى المحكمة و يرفع ملتمسا للقاضي يطلب فيه التكفل بالطفل شريطة أن يسلمه لأهله متى ظهر أحدهم .
استحسن المهاجر الاقتراح الثاني ، و اصطحب زكرياء إلى البيت و لم يكثر الحديث معه على طول الطريق إذ كان مشغولا بالتفكير في الطريقة و الأسلوب الذي ينهجه مع زوجته المتلهفة لمعرفة آخر أخبار ابنتها سلمى ، خصوصا
و أنه لم يجد جثتها في مستودع الأموات .
رن جرس المنزل و فتح الباب على التو ، لأن الزوجة المسكينة كانت جالسة خلفه تنتظر عودة زوجها ، ما أن فتحت الباب حتى رأت الدموع في عين زوجها ، فعلمت أن أملها تلاشى بل انعدم في إيجاد ابنتها الوحيدة حية أو ميتة ، أما الزوج فقد غالبته الدموع في هذا الموقف الرهيب رغم صبره و يقينه ، احتضنت الزوجة زكرياء بقوة وارتمت في أحضان زوجها تبكي بكاء مريرا .
أخبرها زوجها بكل المستجدات بخصوص زكرياء مما خفف عنها وطأة الحزن إذ لم تكن تريد أن تفقده هو أيضا بعدما أحبته و استأنست بعشرته طوال هذه الأيام الكئيبة ، فما كان منها إلا أن ألحت على زوجها التعجيل بالاجراءات القانونية
للتكفل بالطفل ، كانت تقول ذلك و هي تحتضنه و هو ببراءة الأطفال يمسح دموعها بيديه الناعمتين و ينظر إليها نظرة المستعطف الذي وجد في اهتمامها به الحنان الذي عوضه عن فقدان أمه البيولوجية .
الطفل زكرياء ذو الأعوام الخمسة ، يقول أن اسمه العائلي هو صالح و أن اسم أبيه أحمد و اسم أمه ربيعة و أخته التي تكبره قليلا اسمها نادية و لا شيء سوى هذه المعلومات القليلة و هذا ما يمكن أن يذكره طفل في مثل سنه ، و لولا نباهته و ذكاءه لأنساه هول الصدمة حتى هذا القليل الذي أدلى به .
شرع الرجل المهاجر في تحضير كل ما طلب منه من لدن المحكمة فيما يخص أمر التكفل بالطفل و سجلت المعلومات المتوفرة لدى الدرك و الشرطة ، في محضر الضابطة القضائية ، و أعيد تسجيل الطفل بنفس الاسم العائلي
و الشخصي مع اسم أبيه و أمه كما جاء على لسانه ، و تم تسجيل محضر التكفل يضم كل المعلومات الخاصة بالأسرة المتكفلة ، و على ضوء كل هذه المعطيات تم استخراج جواز السفر للطفل حتى تتمكن الأسرة من اصطحابه معها إلى الخارج ، مع الإدلاء بعنوان إقامتها حتى تتمكن السلطات المختصة من الاتصال بها في حالة ظهور مستجد يتعلق بالطفل المتكفل به .
بعدما انتهى المهاجر إبراهيم و زوجته خديجة من كل الاجراءات المتعلقة بالطفل زكرياء ، أقاما وليمة ترحما على ابنتهما المفقودة ، حضرها مجموعة من أهل الذكر و بعض الجيران ، بعدها بأيام قليلة سافرت الأسرة إلى الخارج بمعية
زكرياء طبعا ، الذي وجد في ابراهيم و خديجة حنانا دافقا هو في أمس الحاجة إليه ، و ارتبط بهما ارتباطا غريبا ، لم يأبه معه ذو الخمسة أعوام لفراق أهله و لم يتأثر لفقدانهم ، بل اندمج مع أسرته الجديدة و كأنه تربى في أكنافها .
مرت الأيام و الشهور و السنين ، و لا أحد يسأل عن الطفل زكرياء ، فقد أصبح فردا محبوبا مرغوبا في أسرته هذه ، بحيث أغدقت عليه من حنانها و عطفها ما أنساه ذكريات الماضي المؤلمة ، و لعل تعاملهم له هو ما شجعه إلى جانب ذكائه على متابعة الدراسة بتفوق و تميز قل نظيرهما .
بعد سنتين أنجبت خديجة بنتا جميلة اختارت لها اسم غيثة ، فغمرت الفرحة الأسرة و سادت البهجة المكان ، و كانت فرحة زكرياء و سعادته أكبر من الجميع ،إذ أصبحت له أخت في نظره ، تملأ البيت بهجة و حبورا ، يلاعبها و تؤنسه ، و لم يشعر قط أن المولودة الجديدة أخذت من حبهما و عطفهما عليه شيئا ، بل بالعكس ازدادت و ازداد معها الحب و المنى
و السعادة .
كانت قد مرت على هذه الأحداث المؤلمة ما يقرب من ستة أعوام ، كانت خلالها الأسرة تزور المغرب في صيف كل عام ، و كان أخوف ما يخيفها أن يظهر من يطالبهم باسترداد زكرياء ، لا لأنهم سيمتنعون من تسليمه إلى أهله ، و لكنهم لن يطيقوا لفراقه صبرا ، كما لن يطيقه هو أيضا ، و قد بلغ به تعلقه بابراهيم و زوجته إلى أن أفصح لهما غير ما مرة أنه لن يفارقهما حتى لو ظهر أبواه البيولوجيان .
مرت الأيام سريعا ، و طوى النسيان تلك الذكريات المؤلمة ، عاش أفراد الأسرة الأربعة حياة مستقرة لا شيء يعكر صفوها ، كل أفرادها منضبطين للقيم الإسلامية ، لم يتأثروا بحضارة الغرب ، بل ظلوا محافظين على هويتهم المغربية الأصيلة .
كم كانت فرحة الأسرة كبيرة لما حصل زكرياء على شهادة الباكلوريا بتميز مستحق ، فاق فيه أقرانه ، مما جعل ابراهيم و زوجته يتفاخران به و يشجعانه على تحقيق رغبته في الالتحاق بكلية الحقوق .
بعد خمس سنوات من الدرس و التحصيل تخرج زكياء برتبة محامي و بميزة مشرفة شهد له بها أساتذته ، سرت الأسرة غاية السرور و أقامت له حفلا يليق بمقامه .
فتح له مكتبا بنفس المدينة و آل على نفسه أن يدافع عن حقوق العمال المهاجرين ، ليرفع عنهم كل أنواع الظلم
و العنصرية التي قد يتعرضون لها .
و هكذا ذاع صيته ، و أصبح من المحامين المرموقين ،
خلال عامين جمع له السيد ابراهيم مبلغا كبيرا من المال الذي كان يدخره له ، بعد أن آل على نفسه ألا يأخذ من مال زكرياء شيئا و لو أن زكرياء كان يدفع له على راس كل شهر ما حصل
عليه من أموال ، و لا يحتفظ لنفسه إلا بالقليل ، و رغم ذلك فقد كان ابراهيم قنوعا لا يساوره طمع بل كان يخطط ليؤمن لزكرياء مستقبله .
عند زيارة الأسرة إلى المغرب ، اشترى ابراهيم منزلا بمدينة مراكش و سجله باسم زكرياء ، و جهزه بكل الآثاث الضرورية و غير الضرورية ، ليكون جاهزا لاستقبال عروسة زكرياء مستقبلا ، فعل كل هذا خلال إجازته و دون علم زكرياء ، إذ كان يريد أن يفاجئه في الصيف القادم عند زيارتهم جميعا لأرض الوطن .
عادت الأسرة إلى الخارج ، و استمر ابراهيم في ادخار كل أموال زكرياء ، و لما حان وقت السفر إلى المغرب ، استشار السيد إبراهيم زكرياء في شأن الزواج ، فوجد قبولا لدى الشاب الطموح ، و اتفقا على أن تكون العروس من المغرب ، بنت تقية زكية على جانب من الخلق الفاضل ذات حسن
و جمال تنحدر من أسرة محافظة ، فأشارت عليهما خديجة زوجة إبراهيم أن هذه الشروط التي يرغبون أن تكون في زوجة زكرياء لن تتوفر إلا في بنات القرى ، أما المدن في أيامنا هذه فقلما تجد فيها هذا النوع الذي ترغب فيه الأسرة .
و هكذا عقدوا العزم على البحث عن عروس من بنات القرى عند زيارتهم للمغرب .
وصلت العطلة و جاءت الأسرة بكاملها إلى المغرب، و بعد أن استراحوا من عناء السفر ، أخذت الأسرة زكرياء إلى بيته الجديد ، و كانت مفاجأة سارة بالنسبة له ، بحيث لم يصدق ما تراه عيناه ، خصوصا لما علم أن إبراهيم ساهم بقدر إضافي على القدر الذي جمعه من أموال زكرياء ، إلى هذا
الحد لم يستطع زكرياء كبت مشاعره ، فارتمى في أحضان والديه بالتكفل و ذرفت عيناه دموع الشكر و الامتنان ، أن حباه الله بهذه الأسرة الكريمة الفاضلة .
في نفس اليوم ، استضاف إبراهيم أحد أصدقائه الأوفياء لوليمة العشاء ، قصد استشارته في أمر زواج زكرياء ، فلم يزل إبراهيم يعدد مناقب العروسة التي يريدها لابنهما حتى تذكر الضيف يوسف فتاتا سبق و أن رآها في زيارة لأخت له بأحد المداشر المتواجدة بمنطقة الحوز قريبا من أوريكا ، فاستوقف يوسف السيد إبراهيم و لم يتركه يتمادى في الكلام ، فأخبره عن أمر الفتاة التي تسكن بجوار منزل أخته ، و التي يتحدث عنها أهل المدشر بكل خير ، سبق و أن رآها هذا الصديق يوسف في بيت أخته في إحدى المناسبات ، فتاة جميلة محجبة ، عليها سمة الحياء و الوقار لا ترفع بصرها أمام الغرباء .
استحسن إبراهيم رأي صديقه ، و لاحظ علامات الرضى على محيا زكرياء ، فقرر الجميع أن يدلهم يوسف على المدشر و أن ينزلوا ضيوفا عند أخته ليتسنى لهم رؤية فتاة الجيران التي طالما حدثهم عنها .
في صباح اليوم الموالي ،استقلوا سيارتهم و قادوها نحو الوجهة المقصودة يدلهم يوسف على الطريق ، وصلوا عند منتصف النهار ، استقبلتهم أخت يوسف استقبالا حارا ،
و أنزلتهم في غرفة الضيوف و قدمت لهم الشاي و الحلوى
في انتظار وجبة الغذاء التي غالبا ما تكون طاجين لحم
و خضر و هي الوجبة الشهية التي لا يخلو بيت منها خصوصا في هذه المنطقة .
افتتح يوسف الحديث مع أخته عن بنت جيرانها و هو يتعمد أن تسمع الأسرة شهادة أخته في هذه الفتاة ، أطلعتهم عن سيرتها مما زاد في شوقهم لرؤيتها ، دبرت المرأة حيلة بحيث طلبت من جارتها أن ترسل إليها بالفتاة لتعينها على خدمة
الضيوف ، و هي عادة مألوفة بين الجيران بحيث يساعد بعضهم بعضا متى طلب منهم ذلك .
و لكن في الحقيقة لم يكن هناك عبء على المرأة في خدمة ضيوفها و لكنها اغتنمتها فرصة ليرى الضيوف الفتاة عن كثب .
جاءت الفتاة تمشي على حياء ، و توجهت مباشرة إلى المطبخ لتنفيذ أوامر جارتها دون أن تلتفت بنظرها لترى النزلاء بغرفة الضيوف ، تعمدت ربة البيت أن تنادي عليها لتحمل مستلزمات الشاي من أمام الضيوف ، دخلت الفتاة و بادرت الجميع بتحية الإسلام دون أن ترفع بصرها لترى من في الغرفة ، ما أن دخلت البنت حتى أحست خديجة إحساسا غريبا ، جعلها تنجذب نحو الفتاة ، و تطيل النظر إليها ، بل لم تكتف بذلك إذ قامت تتبعها نحو المطبخ لتشبع فضولها مما أحست به .
تناولوا وجبة الغذاء ، و أرسلوا المرأة إلى بيت جارتها تستأذنها في زيارة الضيوف لها ، فوجدت لديها القبول التام
و كيف تمتنع من الضيافة و هم أهل كرم .
استقبلتهم الجارة و أنزلتهم في غرفة الضيوف على عادة المغاربة في كل المدن و القرى ، و لسانها لا يفتر عن الترحيب ، لأنها تعرف أن ذلك يزيدها قدرا في نظر جارتها ما دامت هي من دلتهم عليها ، و بينما هم جلوس يتجاذبون أطراف الحديث من هنا و هناك ، نادت الجارة زينب على الفتاة لتأتيهم بالشاي و ما يصحبه مما أعدته سابقا ، فما كاد
ابراهيم و زوجته يسمعان اسم الفتاة سلمى حتى علت ملامحهما مسحة امتزجت فيها الدهشة بالفضول و تبادل الزوجان نظرات التعجب و ساد الغرفة صمت رهيب ، الرؤوس مشرئبة و الأعين زائغة تنتظر دخول سلمى ، و ما هي إلا لحظة مرت على الزوجان كأنها ردح من الزمان حتى دخلت سلمى تحمل المطلوب مطأطأة الرأس استحياء من هؤلاء الغرباء ، وضعت ما تحمله أمام الجميع و دلفت عائدة إلى المطبخ ، و لكن حيرة الزوجان لم تبدد بعد ، فطلبت خديجة من الجارة زينب أن تدعو سلمى للجلوس معهم ، فهي ترغب أن تجلسها بجانبها ، فتم لها ذلك .
أخذت خديجة تطيل النظر إلى سلمى و تتفحص ملامحها إذ كانت تشبهها كثيرا و قد لاحظ الحاضرون هذا الشبه بينهما ، مما دفع بخديجة و دون تردد أن تسأل زينب عن ابنتها هذه ، بعد أن أطلعتها على سبب مجيئهم ، و هو أنهم يرغبون في طلب يدها لزكرياء ، هنا بدأت زينب تحدثهم عن القصة الغريبة التي وقعت في زمن ، مضى عليه أكثر من عشرين سنة ، أخبرتهم أن سلمى ليست ابنتها ، قائلة أنا امرأة عاقر ، لم أنجب طيلة حياتي ، و أن لي أختا في أحد المداشر على مشارف أوريكا ، و كانت أختي هذه حين وقوع الفاجعة تبيع خبزا يسمى " تفرنوت " للمصطافين على ضفاف الوادي ،
و في ذلك اليوم كان بصحبتها ابنها الصغير الذي كان يلعب مع سلمى ، و لحسن حظها في تلك اللحظة التي هاجمتهم المياه كانت قريبة من الطفلين ، فحملتهما بسرعة خاطفة
و صعدت بهما الجبل تجري و تصرخ ، و استطاعت أن تنقذهما و نفسها من الطوفان .
فغر إبراهيم و زوجته خديجة ثغريهما و اتسعت مقل أعينهما و هما يستمعان و يتتبعان الأحداث بانتباه شديد و قلبيهما يخفقان ، و يومئان للجارة لتتابع القصة ، و هنا أخبرتهم أن أختها احتفظت بسلمى الصغيرة في بيتها ظنا منها أن والديها قد ماتا غرقا ، و بعد أيام من الحدث ، سلمتني أختي هذه البنت اليتيمة لأتكفل بها و أعتني بتربيتها و لتؤنس وحدتي لأنني عاقر كما سبق و قلت لكم ، كانت في الأيام الأولى تشعر بحزن شديد على فقدان والديها و لكن حمدت الله الذي ساقها إلي لأعتني بها و لتملأ علي البيت أنسا خصوصا لما توفي زوجي و تركني و إياها لوحدنا ، و كنت من حين لآخر أسألها عن اسم أبيها و أمها فكانت تقول لي أن اسم أبيها هو إبراهيم و اسم أمها خديجة .
إلى هذا الحد لم يستطع الزوجان صبرا ، فقاما و احتضنا سلمى و هما يقولان بلسان واحد :
" إنها ابنتنا سلمى فأنا أبوها إبراهيم و هذه أمها خديجة ،
و قد فقدناها في ذلك الطوفان ، و ظننا أن السيل جرفها لأننا لم نعثر لها على أثر آنذاك " .
تأثر كل من في الغرفة لهذا المشهد العجيب ، و طفق الجميع يبكي ، بينما الجارة أخت يوسف تزغرد من شدة الفرح و قد جمع الله شمل الأسرة .
حاول إبراهيم تعميق البحث حتى يتأكد و يطمئن قلبه ، بينما زوجته خديجة في عناق حار لابنتها سلمى و عاطفة أمومتها لا تحتاج إلى مزيد من الدلائل ، فقد تبين لها بما لا يدع مجالا للشك أن سلمى هذه هي ابنتها إذ حدثها إحساسها بذلك حتى قبل أن تسمع القصة نظرا للشبه الكبير بينهما .
سأل إبراهيم المرأة عن نوع اللباس الذي كانت ترتديه سلمى يوم تسلمتها من أختها ، فأخبرته فورا أنها كانت تلبس تنورة وردية اللون و جزمتين بيضاويتين و جوارب بيضاء .
التقط إبراهيم محفظته و أخرج صورة لسلمى كان قد التقطها لها في ذلك اليوم ، فكانت المفاجأة كبيرة ، إذ هي بنفس اللباس الذي وصفته السيدة زينب ، و التي أكدت لهم بعد تفحصها للصورة أنها هي نفسها .
تدخلت خديجة و أسكتت الجميع معلنة أن لديها دليلا قاطعا لا مجال للشك بعده ، فهي تعرف أن في كتف ابنتها سلمى علامة وحم ، و لدت بها ، فذهبت بها هي و أمها بالتكفل
و جارتها إلى غرفة أخرى حيث أزلن اللباس عن كتفها
و تعجبن إذ رأين العلامة بارزة على كتفها ، فارتفعت أصواتهن
بالتهليل و الزغاريد ، و هكذا شاءت حكمة الله أن تجمع شمل الأسرة بعد هذه المدة الطويلة و بعد أن يئسوا من اللقاء بها .
أما زكرياء فقد كان يتتبع الأحداث باستغراب ، و يعود أحيانا لملاعبة غيثة الصغيرة التي كانت تتعلق به كثيرا ، و لا تفارقه إلا نادرا .
وهكذا تم لم شمل العائلة ، و بقدر سعادتهم الطافحة بإيجاد سلمى حية ترزق ، بقدر تعجبهم من الأقدار التي ساقتهم إلى هذه القرية النائية حيث ابنتهم التي ظنوها فقدت للأبد .
جلست سلمى بين أبيها و أمها و عيناها محمرتان من شدة البكاء ، و هي تقبل أمها تارة و أباها تارة أخرى ، و ترتمي في أحضانهما و كأنها تسترجع بعضا مما علق بذهنها من ذكريات طفولتها .
طلب إبراهيم من زينب أن تأتيه بذبح أقرن سمين من أحد الجيران مهما كان ثمنه ، فأقاموا ليلتهم في أكل و شرب
و حمد و تهليل ، و أخذ كل واحد منهم يسرد الأحداث التي مرت به ، إلا ما كان من أمر زكرياء فقد تعمد إبراهيم ألا يذكر شيئا منه لئلا يحرج زكرياء ،و تفاديا لفتح جراح طواها النسيان.
شكر الحاضرون زينب على رعايتها و حسن تربيتها لسلمى ، كما أخبرتهم زينب أن سلمى كانت ترفض الزواج من الذين تقدموا لخطبتها و كأنها كانت تعلم أن الله سيجمعها بوالديها ، و ها قد تم ذلك و الحمد لله .
اقترح إبراهيم و زوجته على زينب المرأة التي ربت سلمى أن تذهب معهم إلى مراكش و تعيش في بيتهم هناك ، و وعدها إبراهيم بتخصيص مبلغ مالي يرسله إليها على رأس كل شهر ، و هي مناسبة لتحرس المنزل في غيابهم ، وافقت زينب
و طلبت مهلة حتى تهيئ أمورها و تحضر نفسها للرحيل .
استحسن الحاضرون الفكرة و دعموا اقتراح إبراهيم ، إذ هي الحل المرضي حتى لا تفترق سلمى عن مربيتها و قد عاشت معها مدة طويلة .
في اليوم الموالي ، استقلت الأسرة بكاملها السيارة عائدة إلى مراكش ، إلا يوسف الذي تطوع عن طيب خاطر و قرر أن يستقل أي وسيلة نقل أخرى ليعود هو كذلك إلى أسرته في مراكش حتى لا يحدث ازدحاما معهم في السيارة مادامت سلمى قد أخذت مكانه .
قام إبراهيم بكل الاجراءات الإدارية لإعادة تسجيل ابنته التي تم إيجادها بعد أن ظن الجميع أنها فقدت .
انفرد إبراهيم بزكرياء ، و طلب وجهة نظره بصراحة في الزواج من ابنته سلمى ، إذ كان يريد أن يعرف رأيه حتى لا يحشره في أمر لا يرغب فيه ، خصوصا و هو يعلم أن زكرياء لا يعصي له أمرا .وافق زكرياء على أن يتزوج سلمى ، فهو كذلك قد أعجب بأخلاقها و جمالها ، و هو أولى الشباب بها
و في نفسه أن يعوضها ما فاتها من حنان و عطف و مودة
و حب كالذي منحته إياه أسرتها و أكثر .
تم عقد القران و تمت مراسيم الزفاف في جو عائلي تسوده البهجة ، و كانت زينب مربية سلمى أكثرهم حماسا ، لا تفوتها صغيرة و لا كبيرة مما يسعد سلمى و يرفع مقامها إلا و نبهت إليها ، و هو الأمر الذي أسعد الأم الحقيقية لسلمى ، و كيف لا وهي ترى الجميع يهتم بسلمى و يوفر لها كل ما يسعدها
و ينسيها قساوة الماضي و فراق الأهل .
انقضت الإجازة الصيفية ، و غادرت الأسرة الكبيرة
و الصغيرة المغرب ، تاركين خلفهم زينب ببيتهم في مراكش ، بعد أن وفروا لها كل ما تحتاجه و بعد أن وعدها إبراهيم بمرافقتهم إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج في العام المقبل .
فرحت زينب غاية الفرح ، و صلت ركعتين حمدا لله و شكرا له سبحانه و تعالى أن جمع هذه الأسرة الكريمة بابنتها ، و أن أخرجها هي كذلك من ضنك العيش في قريتها .
أعجب بها و نقلها بتصرف ( زايد وهنا )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق