الحقن الناجعة

                

               ⛽  الحقن الناجعة  ⛽


  🌷 توطئة :


ثلاث محطات في حياتي كان لها الأثر البالغ في تقويم بعض الإعوجاج في السلوك الذي بدأت بوادره تظهر علي منذ سن مبكرة .

 محطات ثلاث تربوية كانت كفيلة بأن تعطي مفعولها فهي بمثابة اللقاح الناجع لبعض السلوكات التي كنت أظنها عادية في تلك السن ،  و التي ربما قد تكون مفتاح انحراف لما سيأتي خصوصا إذا تكررت و قوبلت بالتغاضي ، و هو ما كان ربما سيحصل لو لم يتدارك المرحوم الوضع ، و هكذا زودني بتلك الجرعات التي سوت سلوكي و غيرت مسار حياتي بحيث وضعت قاطرتي على السكة الصحيحة ، و وجهت بوصلتي نحو الوجهة المرغوبة .



⛽المحطة الأولى ، الجرعة الأولى :


 سنة 1969 كنت أبلغ من العمر ثمان سنوات ، 

و كنا حينها نسكن في حي مقابل لثكنة عسكرية ،

و كنت ألعب أمام المنزل مع ثلة من أطفال الحي ،

و ما أن تقترب الشمس من المغيب حتى ينطلق الأطفال إلى منازلهم و هم يرددون :

" الصوبا " " الصوبا " 

ثم يعودون فرادى و جماعات و قد حمل كل واحد منهم آنية ، كانت كلها تتشابه تقريبا حجما و شكلا

و نوعا ، هي براميل قصديرية من سعة خمس لترات كانت تعبأ فيها الزيت وقتئذ ، يقطعونها إلى النصف و يضعون لها سلكا أو خيطا بمثابة يد تحمل منها ، و يركضون في حبور نحو الباب الخلفي للثكنة حيث يتم توزيع " الصوبا " من قبل الجنود ، و التي غالبا ما تكون حريرة أو عدس أو فصولياء مع قطعة خبز ( البورانجي ) ، يملأ

كل واحد آنيته و ينطلق نحو بيته مسرورا مزهوا

بغنيمته . 

هكذا كنت أراهم يفعلون عند مغيب شمس كل يوم ، مما أشعل في نفسي نار الغيرة ، و لم لا

أفعل مثلهم ، و لم أكن أضع في حسباني أن ما أريد الإقدام عليه سيجر علي ما سأطلعكم عليه ،

لم أجد صعوبة في الحصول على الإناء ، فقد أخذت إناء من حديد كان أبي يستعمله للوضوء ،

و مضيت أسابق أقراني نحو " الصوبا " .

أخذت نصيبي من الحريرة ( الشعرية ) و قطعة

الخبز ، و أقفلت مسرعا نحو البيت فخورا معتدا ،

الإناء بيميني و الخبز بيساري و كأنني بطل عائد من ساحة الوغى يحمل معه الغنائم ، و لكن حصل ما لم أكن أتوقعه ، إذ وجدت والدي ( رحمة الله عليه ) بباب المنزل و قد عاد من المتجر إذ كانت

عادته أن يغلق المتجر عند آذان المغرب و لا 

يفتحه بعد ذلك .

ما أن رأى ما بيدي حتى سألني عن مصدره بلهجة لا تخلو من الحنق ، أطلعته عما كان من أمري 

و ليتني لم أفعل ، فما كان منه إلا أن نزع الإناء من يدي و صب ما كان فيه على رأسي و هو يقول

 " ماذا ينقصك لتتسول أيها الأبله "، و لم يكتف بذلك بل سحبني إلى إحدى الغرف الصغيرة ، 

و سل حزامه الجلدي الذي كان يتزنر به و انهال علي ضربا مبرحا و هو يردد نفس القول مضيفا :

" أتريد أن تتعلم التسول من صغرك ، كل شيء متوفر لديك ، فلماذا تضع نفسك موضعا أنت في غنى عنه ، ألا تدري أن أباك مرت عليه قديما سنوات الجوع و لم يمد يده لأحد قط "

و غير هذا من التوبيخ و الشتم الممزوج بالضرب ،

بكيت ، توسلت و لكنه لم يتركني حتى علم أنني

لن أفكر حتى مجرد التفكير في الإقدام على هذا

الفعل الدنيء ، و لعلها كانت المحطة الأولى 

لإدراك مفهوم العفة و القناعة و الأنفة و الكبرياء ، التي صارت فيما بعد من المبادئ التي تشبعت بها و لا أتنازل عنها مهما كانت الظروف .



⛽المحطة الثانية ، الجرعة الثانية  :


الموسم الدراسي  1971 /  1972 كنت تلميذا بالمستوى الرابع ابتدائي ، و كانت المنافسة على

أوجها بين ثلة من التلاميذ للحصول على المراتب الأولى ، و كانت فروض الإمتحانات وقتئذ تنجز في دفتر خاص كنا نسميه دفتر الإمتحان ، و آخر

ورقة به مخصصة لبيان النتائج المحصل عليها

في كل مادة ، مع مجموع النقط و المعدل العام ،

و في أسفلها ثلاث خانات خاصة بتوقيع المدير 

و الأستاذ و والي الأمر ، إذ بعد كل دورة من الدورتين السنويتين ، يأخذ كل تلميذ دفتر امتحانه

إلى ولي أمره قصد الاطلاع على النتيجة 

و التوقيع في المكان المخصص لتلك الغاية .

أما عني أنا ، فقد كنت ضمن تلك الكوكبة المتنافسة ، و رغم حدة ذكائي إلا أنني لم أوفق

لأكون ضمن الثلاثة الأوائل بل حصلت في تلك الدورة الأولى على الرتبة الثالثة عشر من مجموع

إثنان و أربعين تلميذا ، و هو الأمر الذي لم أعتد

عليه و لا أهلي .

تسلمت نتيجتي تلك ، المزرية في نظري ، و أنا في

حيرة من أمري ، إذ كيف يكون موقفي عندما يطلع

عليها والدي ، و هو الذي يعقد آمالا على أن تكون 

مشرفة كالعادة ، غادرنا المدرسة و انطلق المتفوقون يركضون بسرعة لنقل أخبارهم السارة ،

بينما انزويت أنا في مكان حيث لا يراني أحد ،

أخرجت الممحاة و حدقت مليا في الرتبة 13، مسحت العدد واحد و تركت العدد ثلاثة ، علني 

أسلم من السخرية و الزجر ، تفحص والدي النتيجة و رغم ضعف بصره فقد لاحظ أثر المسح

و لكنه أسر الأمر في نفسه دون أن يبدي ما

يقلقني ، وضع توقيعه و سلمني الدفتر .

في اليوم الموالي أرجعت الدفتر إلى المعلم بعد أن

أعدت العدد واحد إلى مكانه .

جمع المعلم الدفاتر بعد أن تأكد من إمضاءات أولياء التلاميذ و وضعها في رف معزول في

 الخزانة ، لأنها لن تستعمل إلا إذا حان وقت إمتحان الدورة الثانية . في ذلك اليوم فاجأنا والدي بزيارة للمدرسة يريد أن يستجلي أمر نتيجتي و يتأكد مما لاحظه . أخرج المعلم الدفتر من جديد و فتحه أمام والدي و هو يقول لعل الرتبة الثالثة عشر تعد رتبة مستحسنة بالنظر إلى عدد تلاميذ القسم ، شكره والدي و انصرف و قد علم بأمر التزوير الذي أقدمت عليه .

خرجت من المدرسة و توجهت نحو البيت بخطى سريعة ، لأستطلع خبر ردة فعله أمام  أمي( رحمها الله ) و اخوتي في غيابي ، و كأني أقيس من كلامهم مدى غضبه لأعرف مدى العقاب الذي ينتظرني .

دخل والدي البيت بعد أن أدى صلاة المغرب ، 

و عوض أن يجلس لقراءة الحزب مع الإمام ، قرر

أن ينقش حزبا كاملا على ظهري بحزامه الجلدي ،

فكان كلما هوى علي بجلدة يقول حانقا :

" هذا جزاء من يزور و يغش ، أتحسب أنني لن

أستطيع كشف خداعك و تدليسك ؟ ، ممن تعلمت

هذه الرذائل " ، كان يقول هذا و الحزام يلهب جسدي و لم يتوقف حتى خارت قواه ، خرج 

و أغلق الباب خلفه و تركني ممددا على الأرض 

أقلب أطرافي على الأرضية الاسمنتية لعل برودتها

تخفف بعضا من الألم الحاد .

كانت هذه الجرعة من العقاب بمثابة البلسم الشافي لأعوض الغش و التزوير بالصدق و الأمانة 

و الصراحة ، هذه القيم النبيلة التي تمسكت بها 

و صاحبتني في حلي و ترحالي إلى يومنا هذا .



⛽المحطة الثالثة ، الجرعة الثالثة :


1974 كانت هي السنة التي تلقيت فيها آخر جرعة من والدي . كان الفصل صيفا ، ترتفع فيه

درجة الحرارة حدا يكاد لا يطاق خصوصا بمنطقتنا

و لهذا كان الناس يتجنبون الخروج في أوقات 

ذروتها ، مما يحتم قضاء فترة القيلولة في النوم ،

إلا أنا و ثلة من أقراني الذين كنا نقضيها في

السباحة و لعب الورق ( الكارطا ) ، ولكن حدث

يوما أن صادفت أحد الأقران ، و بينما نحن في

طريقنا إلى الوادي ، مررنا ببعض البساتين القريبة

من الحي ، فاسترعت انتباهنا عناقيد العنب المدلاة

على عروشها ، فأشار علي مرافقي أن نقتحم البستان لسرقة بعض العنب ، فالأزقة خالية من

المارة و البلدة في سكون تام ، و هي فرصة مواتية للإقدام على فعلتنا ، استجبت على الفور

دون أن أقرأ عواقب ما أنا مقدم عليه ، و هكذا 

تسللنا خفية إلى البستان و جنينا ما استطعنا حمله

من العنب ثم خرجنا بنفس الطريقة التي دخلنا بها

بل و أكثر حيطة ، و ظننا أن العملية مرت بسلام

و لكن فاجأنا رجل من القوات المساعدة كان عائدا

من عمله نحو بيته الذي لا يبعد عن البستان إلا ببضعة أمتار ، علم بأمرنا ، و انطلق يجري نحونا

و هو يهدد و يتوعد ، لم يبق أمامنا من حل سوى أننا أطلقنا سيقاننا للريح لا نلوي على شيء .

لم نتوقف حتى كنا على مشارف البلدة ، بعيدين عن الأعين ، فأخذنا نتناول العنب الذي كان في

أغلبه غير ناضج ، و ساد صمت رهيب إذ كان كل

منا يفكر في العواقب التي تنتظره ، سيما و أن الرجل تعرف علينا ، وليس لنا من أمل في النجاة إلا إذا تغاضى هذا الرجل و لم يخبر صاحبة البستان ، و لكن حدث ما كنا نخشاه فقد أخبرها قبل أن يدخل إلى بيته ، مما جعلها هي الأخرى تطرق أبواب منازلنا لترفع شكواها و تظلمها .

عدت إلى البيت عند الغروب ، و أنا أتحسس 

و أترقب ما قد يشعرني أن خبر جريمتي قد وصل

قبل وصولي . قد لا تصدقون أن عقاب هذه المحطة كان أشد ألما من سابقيه ، فقد ترك الحزام الجلدي أثر جروح و خدوش على ظهري و أطرافي

لم تندمل إلا بعد مدة طويلة ، و لكنها رغم ألمها

كانت جرعة ناجعة كرهتني في السرقة و الطمع

في متاع الناس ، و منذ تلك الحادثة ، لم أمد يدي

لآخذ ما ليس لي ، و علمت أن قيمة الإنسان في

القناعة و الرضى .


🌷خاتمة المحطات :


الآن و قد نيفت على الستين من عمري ، تلقيت ثلاث جرعات من اللقاح ضد وباء كورونا ، و لا أعلم شيئا عن مدى نجاعتها ، و لكن الجرعات الثلاث التي تلقيتها في صغري و التي كان طبيبها والدي و حقنتها الحزام الجلدي ، كانت نافعة ،

ليس هناك أدنى شك في نجاعتها ، قضت تماما على فيروس الرذائل ، و أمدتني بحصانة الفضائل .

فعليك رحمة الله يا والدي فقد كنت طبيبا خبيرا محنكا تهاب لقاحك الفيروسات .

و مهما أفعل لن أستطيع أن أرد الجميل لوالداي ، 

و لكن سوف لن أبخل عليهما بالدعاء و أسأل الله جل في علاه أن يجعل دعائي لهما لقاحا ناجعا ينجيهما من عذابه و يبوئهما جنته ، و أحمد الله 

و لا أحصي ثناء عليه .  


       💉   جواز تلقيح  زايد  وهنا 💉



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق